مجلة الرسالة/العدد 437/شخصيات تاريخية
→ جميل نخلة المدور | مجلة الرسالة - العدد 437 شخصيات تاريخية [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 17 - 11 - 1941 |
5 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
قضى تيموستوكل البقية الباقية من حياته وهو يعمل على تنفيذ
هذه السياسة، ويكاد يكون هو الوحيد الذي سار في هذا
الطريق، فهو لا يألو جهداً إلا بذله للنكاية بالعدو اللدود وهو
إسبرطة، ولن الشعب الأثيني تخلى عنه ولم يسايره، إذ داخلته
الشكوك من ناحية، فخشي خطره واصبح يعتقد أن له مأرباً في
تنفيذ هذه السياسة، لذلك كان وحده دون معين ولا نصير في
هذه الفترة الأخيرة من حياته وهي الواقعة بين معركة سلامين
ومماته (من 480 في 464363 تقريباً)
قضى تيموستوكل هذه الفترة شريداً طريداً حتى لم نعد نسمع
عنه كثيراً، بحيث تكاد تكون هذه الحقبة من تاريخ حياته
غامضة، هي غامضة لقلة الوثائق التي تتكلم عنه وبالرغم من
هذه القلة نستطيع أن نتنسم الأخبار من بين السطور التي
كتبت عنها والتي توجد لدينا، فهذه الوثائق لا تتحدث عنه إلا
في فترات متقطعة، ولكنها على ندرتها، ثمينة جداً لأنه تخبرنا عن تيموستوكل الشيخ لا يختلف عن تيموستوكل
الشاب. ألا يزال هو هو، كله حركة ونشاط، لا يعتريه اليأس
ولا يفل من عزمه عظم المهمة التي ناط نفسه بالقيام بها، فهو
لا يحجم عن الانتقال من مكان إلى مكان للدس ضد إسبرطة
والإيقاع بها أيما استطاع لذلك سبيلاً، فنراه حيناً في أرجوس
يعمل على قلب نظام الحكم الأوليجاركي وإقامة النظام
الديمقراطي مكانه، وحيناً آخر في دولتي إيليد وأركاديا. وهو
في كل البلاد يقوض من أسس النظام الأوليجاركي الذي يؤيد
الدولة الإسبرطية ويشجع قيام النظام الديمقراطي لكي تكون
عوناً للدولة الاثينية، وفي سبيل ذلك نراه لا يتردد عن اشق
المهام، كتأليف اتحاد من المدن الأركادية لمحاربة إسبرطة،
وينجح في هذه المهمة ولكن إسبرطة له بالمرصاد إذ تتمكن
من إلحاق الهزيمة بهذا الاتحاد الأركادي وتتغلب عليه في
موقعة ديبايا (عام472471ن. م)، فتفتح عينا تيموستوكل
ويرى بوضوح كامل أن إسبرطة ما زالت قوية على بأس
عظيم بحيث تستطيع التغلب على أعدائها، فيحاول أن يسلك
سبيلاً آخر، إذ يسعى، بعد هذا الفشل الذريع، إلى النيل منها داخل حدودها وذلك بتقويض دعائم نظام حكومتها وإثارة
المستائين ضدها من سكانها مثل البيرييك والهيلوث. ولتنفيذ
هذه السياسة نجده يتقرب من شخص آخر يشبهه في المغامرة
والجرأة وهو الملك الإسبرطي بوزايناس؛ ونجح في التفاهم
معه على التآمر ضد الحكومة القائمة، ويعمل الاثنان للاتفاق
مع ملك الفرس، ولكن المشرفين على الحكومة الإسبرطية
وفقوا في الكشف عن هذه المؤامرة والقبض على بوزايناس،
وقد ثبت لديهم أن تيموستوكل اشترك مع بوزايناس في التآمر
ضد دولتهم، فطلبوا إلى أثينا معاقبته، وتلبي أثينا هذا الرجاء
وتستدعيه من حيث كان يقيم. ويدلنا هذا على مبلغ كراهيته
من الشعب الأثيني حينذاك، ولكنه لم يأبه لهذا الاستدعاء ولم
يحفل به، بل ظل في الخارج، ونحن لا نعرف في أي مكان
كان يقيم في ذلك الحين؛ ولكن كل ما نعرفه هو انه كان يهرب
من مكان إلى آخر خوفاً من أن يقبض عليه ويحمل إلى أثينا
فتفتك به إجابة لرغبة إسبرطة؛ أخذ ينتقل من بلد إلى بلد حتى
ألقى به عصا التسيار إلى بلد عدو من أعدائه هو أديمبتوس
ملك (المولوس) في شمال غرب اليونان، وقد كان عداء هذا الملك لتيموستوكل شديداً جداً. ولكنه استقبله وأضافه بالرغم
من هذه العداوة الشديدة وهذا البغضاء المستحكم؛ لأن عادات
الضيافة عند اليونان كانت قوية لا تبيح للشخص أن يطرد
ضيفه ولو كان من ألد أعدائه؛ بل ولم يقبل هذا الملك أن
يسلمه إلى أعدائه، وذهب إلى ابعد من هذا فشجعه على الهرب
ونظم له الوسيلة وجهزه بكل ما يحتاج إليه من وسائل السفر،
فتمكن له الذهاب إلى (بيدنا) في مقدونيا، ومنها يركب السفينة
قاصداً آسيا لملاقاة ملك الفرس، ولكن زوبعة تهب على
السفينة فتغيرها عن وجهتها حتى تصل إلى جزيرة تاكسوس
في بحر إيجة فيحاول قبطانها الرجوع به إلى أثينا، ولكنه ما
زال وراءه بالوعود الخلابة الجميلة حتى حمله على أن يتوجه
به نحو مقصده، ووصلت السفينة آمنة سالمة إلى شواطئ آسيا
الصغرى. وهناك نزل منها في هذه البلاد. وطئت أقدامه
أرض (إيفيز)، فهل تظن أنه أخلد إلى الهدوء بعد ذلك؟ وكيف
السبيل إلى هذا ولا وطن له الآن يتعلق به، ولا أرض يدافع
عنها، بل هو شريد طريد؟ من اجل هذا صمم على مقابلة ملك
الفرس ليرى ماذا هو فاعل به - وهنا يختلف المؤرخون في شخص الملك الذي قابله تيموستوكل، فيقول المؤرخ توسيديد
أنه وصل إلى عاصمة الفرس حينما اعتلى أرتاجزرسيس
العرش، ويقول المؤرخ فايناس ويوافقه على هذا الرأي
بلاثارخوس إنه قدم نفسه ليوجزرسيس الذي طالما حاربه لا
لأرياجزرسيس - وهذا الخلاف بسيط لا يمنع الحقيقة الواقعة
وهي أنه ذهب إلى عاصمة الفرس وقابل عاهل الفرس أيا
كانت شخصية هذا العاهل؛ وأن هذا قد أغدق عليه النعم
والعطايا وخلع عليه كثيراً من الهدايا وعينه والياً على بعض
المدن التي أخذ يسوسها حتى قضى نحبه وهو في المنفى بعيداً
عن وطنه وأرض آبائه وأجداده
هنا يختلف المؤرخون أيضاً في الطريقة التي مات فيها. فمنهم من يقول بأن ملك الفرس كلفه بقادة حمله لمحاربة الأثينيين في مصر، ولكنه رفض أن يخون وطنه لعدم استطاعته تلبية مولاه وسيده. ومنهم من يقول بأنه مات ميتة طبيعية في عاصمة ولايته ببلدة (ماجنيزيا) في شمال آسيا الصغرى بعد مرض لم يمهله كثيراً
ألا ترى إذن إلى خاتمة حياة هذا البطل العظيم، كيف انتهت على هذا النحو من المذلة والعار بعد أن كان قد وصل إلى قمة المجد وذروة الرفعة والسلطان؟ ألا ترى أن هذا من شأن العظماء، لا تسير حياتهم على وتيرة واحدة وإنما يعتريها الرفعة والانحطاط؛ فأنت لا يمكنك بعد ذلك أن تظن أن تيموستوكل قد خان وطنه، إذ لم يصل إلينا شيء يثبت أنه قام بعمل ألحق الضرر ببلاده، بل استمر مخلصاً لها وفياً أميناً، حتى أنه يرفض الذهاب في حملة إلى مصر لمحاربة أبناء وطنه، كما ذهب بعض المؤرخين مثل سبتزيمبروث فهو وإن كان لجأ آخر الأمر إلى ملك الفرس فإنما كان ذلك اضطراراً منه، لأنه رأى وطنه يطارده في كل مكان راغباً الفتك به، فتخلص من هذا وهرب حيث قابل ملك الفرس الذي أغدق عليه النعم والعطايا، وشأنه في هذا لا يختلف عن شأن غيره من كبار اليونان الذين كانوا يضطرون إلى خدمة ملك الفرس حينما يرون بلادهم تنصرف عنهم وتسحب ثقتها منهم، ونحن بعد هذا لا نستطيع أن نعتبر التجاءه إلى الفرس خيانة منه لبني قومه، وإنما كان ذلك لرغبته في الحياة والإبقاء عليها. وكيف السبيل إلى كسب العيش ووطنه قد نفاه وشرده حتى أصبح لا يجد مكاناً يلتجئ إليه عند اليونان على سعة بلادهم وامتداد أطرافها. وقد يلومه بعض الناس على هذا الالتجاء إلى ملك الفرس ولا يبرئونه من تهمة خيانة وطنه، إذ لو كان بريئاً حقاً من هذه التهمة لقدم نفسه إلى المحاكم وهي تفصل في ذلك حتى ترجع الحق إلى نصابه، ولكن غاب عن هذا الفريق أنه لم تكن توجد محاكم في أثينا بالمعنى المعروف لدينا في الوقت الحاضر، وإنما كان الفصل في قضايا الخيانة العظمى راجعاً إلى الشعب وحده، ونحن نعلم ما كان عليه الشعب الأثيني من تهور واندفاع حينما تعرض عليه القضايا السياسية التي تتطاحن فيها المصالح وتتنازع عليها الأحزاب؛ كلا! لم يكن ذلك في استطاعة تيموستوكل ولم يكن هذا الالتجاء إلى ملك الفرس خيانة بالمعنى الصحيح، فهو يعتبر من غير شك خطأ ولكن لهذا الخطأ أسبابه ومبرراته التي تجعلنا لا نغلو في الحكم عليه. وكيف نغلو في الحكم على تيموستوكل وكلنا إعجاب بما قام به من أعمال يعجز عن القيام بها كثير من أفراد البشر؟ ألم يتعهد بلاده في وقت الخطر ويعدها خير إعداد للمعركة الفاصلة؟ ألم يحرز لها نصراً حاسماً أبعد عنها الخطر الفارسي إلى زمن طويل؟ ألم يكن هو من الأشخاص الرئيسيين الذين شجعوا على تكوين حلف ديلوس ونحن نعرف أن هذا الحلف تطور فيما بعد حتى أصبح إمبراطورية تعرف في التاريخ القديم بالإمبراطورية الأثينية البحرية؟ ألم يعمل بعد ذلك على التأسيس والإصلاح وإزالة الخرائب والأنقاض ببناء الأسوار وإقامة التحصينات، حتى أصبحت أثينا ومعها بيريه قلب بلاد اليونان بل ومركز الحضارة اليونانية حتى قال عنها بركليس (إنها أصبحت مدرسة اليونان جميعاً)؟ ألم يؤسس لأثينا هذا الأسطول البحري العظيم الذي جعلها دولة بحرية بعد أن كانت دولة برية والذي كان العماد الذي تعتمد عليه الإمبراطورية الأثينية؟ قام تيموستوكل بهذه الأعمال الجليلة لأنه كان يضع مصلحة قومه في المكان الأول من اعتباره فيتناسى شخصه ومطامعه ويتجاهل حتى تنكر له قومه وبنو وطنه. كان إذن تيموستوكل من بناة مجد أثينا في القرن الخامس حتى يدعونا هذا إلى أن نضعه في صف كبار الآثينين، فهو لا يكاد يقل شأناً وأهمية عن زعيم آخر من زعماء الديمقراطية، وهو بركليس، وإن كان الناس قد أطلقوا على القرن الخامس عصر بركليس وأفردوا بركليس بهذه التسمية، فإننا نرى أنه يحق لتيموستوكل أن يدعى لنفسه شيئاً من هذا الفخر والمجد فيطالب بأن يسمى هذا القرن عصر تيموستوكل وبركليس معاً.
محمد الشحات أيوب