الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 437/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة/العدد 437/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة - العدد 437
المصريون المحدثون
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 11 - 1941

13 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

الحكومة - تابع الفصل الرابع

سبقت الإشارة إلى عمل الضباط، وهو الآن رئيس الشرطة. أما مخبروه الذين لا تميزهم ميزة، فينتشرون في أحياء العاصمة ويختلطون بالناس في المقاهي وكلهم عيون وآذان - وأغلبهم لصوص عفي عنهم - وهم يرافقون الحرس في دورته الليلية خلال شوارع القاهرة. ولا يسمح لأحد غير العمى بالتجول في الخارج بلا مصباح أو أي نور بعد غروب الشمس بحوالي ساعة ونصف. وقلما ترى سائراً بعد ساعتين أو ثلاث. ولا يكاد الليل ينتصف حتى تمر في العاصمة جميعها فلا تقابل أكثر من عشرة أشخاص أو عشرين خلا المراقبين والحراس وبوابي الحارات والدروب. وعندما يمر عابر سبيل يناديه الحارس بالتركية: (من هذا؟) فيرد المار بالعربية: (ابن بلد!) والحارس الخاص كذلك يصيح: (وحد الله) أو (وحد) فقط! فيجيبه السائر: (لا إله إلا الله). ولا يختلف النصارى عن المسلمين في هذا القول، فهم يفهمون التوحيد فهماً مختلفاً. والمفروض أن اللص أو من يشرع في مخالفة القانون لا يجرؤ على النطق بهذه الكلمات. وبعض الأشخاص يجيبون الحارس بصوت مرتفع: (لا إله إلا الله محمد رسول الله). ويستخدم الحارس الخاص لحراسة الأسواق والأحياء ليلاً، وهم يحملون (نبوتاً) ولا يحملون مصباحاً

والعادة أن يتجول الضابط، أو أغا الشرطة، في شوارع القاهرة. ويرافقه غالباً السياف والشعلجي، أي حامل الشعلة المستعملة ألي الآن. وهذه الشعلة تشتعل حال إضرامها فلا يصعد لهبها إلا حين تحرك في الهواء، عندما تضرم فجأة في الخارج. وهكذا تؤدي عمل مصابيحنا المعتمة. وقد يوضع على الطرف المشتعل إناء صغير أو جرة أو يغطى بشيء آخر حين لا تلزم الإنارة. ويقال أن اللصوص كثيراً ما يشعرون بالشعلة في الوقت المناسب فيتفادون مقابلة حاملها. وعقوبة من يقابله الشرطي بلا نور هي الضرب. وقلما يحاول المقاومة أو الهرب. وكان لرئيس الشرطة سلطة مطلقة في ضرب عنق أي مجرم أو مذنب بلا محاكمة حتى ولو كان القانون لا يعاقبه بالإعدام. وكذلك كان له مرؤوسون كما سترى بعد. وقد ندر في السنوات الأخيرة مباشرة هذه السلطة. وأعتقد أنه لم يعد يسمح لهم بذلك الآن. ويقوم أعوان الضابط بدورتهم الليلية مع الجنود لأنهم أحسن معرفة منهم بمخابئ اللصوص والأشرار ومناهجهم. ويندر أن يباشر الضابط نفسه سلطة تخرج عن حد القرع أو الجلد.

كثيراً ما يتخذ رؤساء الشرطة وسائل غريبة مثل التي نراها في بعض قصص ألف ليلة وليلة لاكتشاف المجرم. وأذكر هنا حادثاً لا يختلف في صحته أحد على سبيل المثال. وسأرويه بالطريقة التي سمعتها: قصد ذات يوم رجل مسكين أغا الشرطة وقال له: يا سيدي، أقبلت إلي اليوم امرأة وقالت لي: خذ هذا القرص ودعه في حيازتك وقتاً وأقرضني خمسمائة قرش. فأخذته منها، يا سيدي، وأعطيتها الخمسمائة قرش وانصرفت. وبعد انصرافها قلت لنفسي: لأنظر إلى هذا القرص، وتأملته فإذا هو من النحاس الأصفر، فلطمت وجهي وقلت: سأذهب إلى الأغا وأقص عليه قصتي عسى أن يحقق هذه المسألة ويوضحها، فليس هناك غيرك من يستطيع مساعدتي في هذه القضية. فقال له الأغا: أصغ إلى ما أقوله لك يا رجل. أنقل ما في دكانك ولا تترك فيه شيئاً ثم أقفله، وبكر في الذهاب صباح اليوم التالي، وبعد أن تفتح دكانك صح قائلاً: يا حسرتاه على أموالي! ثم خذ في يديك مدرتين وأضرب نفسك بهما وصح: يا أسفا على أموال الناس! فإذا سألك أحد: ماذا حدث فقل له: ضاعت أموال الناس، فقدت رهناً كان عندي لامرأة، لو كان ملكي لما انتحبت هكذا. هذا كفيل بأن يكشف لنا الأمر. ووعد الرجل بتنفيذ ما طلب منه، فنقل كل ما في دكانه. وفي بكرة اليوم التالي ذهب إلى دكانه وفتحه وأخذ يصيح: يا ويلاه على أموال الناس، وأخذ مدرتين وضرب نفسه بهما وجعل يدور في أنحاء المدينة صارخاً: يا حسرتاه على أموال الناس! ضاع رهن لامرأة كان عندي، لو كان ملكي لما أهمني. فسمعت المرأة التي رهنت القرص صياحه وتبينت أنه الرجل الذي خدعته، فقالت لنفسها: اذهبي وارفعي دعوى عليه، وذهبت إلى دكانه راكبة حماراً لتكسب نفسها أهمية وقدراً؛ وقالت له: يا رجل، أعطني ما لي عندك؛ فأجابها: ضاع، فصاحت: قطع الله لسانك! هل أضعت مالي؟ لأذهبن إلى الأغا ولأخبرنه بذلك، فقال لها: أذهبي! وذهبت إلى الأغا وسردت شكواها، فبعث الأغا في طلب الرجل. فلما جاء قال للمشتكية: مالك عنده؟ فأجابته: قرص من الذهب البندقي الأحمر، فقال الأغا: يا امرأة، عندي هنا قرص ذهبي أود أن أريك إياه، فقالت: أرينيه، يا سيدي، فأنني أعرف قرصي. فحل منديلاً وأخذ منه القرص الذي رهنته، وقال: انظري. . . فنظرت إليه وعرفته. . . فطأطأت رأسها. وقال الأغا: ارفعي رأسك وأخبريني أين نقود هذا الرجل؟ فأجابت: يا سيدي، إنها في بيتي. فأرسل معها إلى المنزل السياف مجرداً من سيفه، وعادت بكيس فيه النقود، وأعيدت الخمسمائة قرش إلى صاحبها. ثم أمر الأغا السياف بأخذ المرأة إلى الرميلة، وهي مكان فسيح مكشوف اسفل القلعة، ليقطع رأسها هناك ونفذ الأمر!

أما أسواق القاهرة والموازين والمكاييل، فتخضع لمراقبة المحتسب، وهو يجوس من حين لآخر خلال المدينة، يتقدمه عامل يحمل قسطاطاً كبيراً، ويتبعه الجلادون والخدم. وهو يمر على الدكاكين والأسواق واحداً واحداً، وأحياناً يتفقد واحداً هنا وواحداً هناك، فيفحص الميزان والأوزان والأكيال، كما يستفهم عن أثمان المؤن من مأكولات وغيرها. وكثيراً ما يستوقف خادماً ما يقابله صدفة في الطريق حاملاً مأكولات قد اشتراها، فيسأله عن ثمنها ووزنها. فإذا تبين له أن البائع استعمل موازين أو مكاييل مغشوشة، أو طفف الميزان أو زاد على سعر السوق، انزل به العقوبة في الحال. والعقوبة العامة هي الضرب أو الجلد. ورأيت مرة رجلاً تنفذ عليه عقوبة مختلفة لبيعه خبزاً ناقص الوزن: خرم أنفه وعلقت فيه كعكه بطول الشبر وبسمك عرض الإصبع، وجرد من ثيابه إلا قطعة من الكتان حول صلبه، وشد، وذراعاه خلفه وقدماه فوق قاعدة صغيرة، إلى قضبان شباك من شبابيك جامع الأشرفية في أهم شوارع المدينة، وبقي كذلك حوالي ثلاث ساعات معرضاً لأنظار الجمهور المحتشد وأشعة الشمس المحرقة

وكان ممن عين محتسباً - بعيد قدومي الأول إلى مصر - رجل كردي أسمه مصطفى كاشف، تولى سلطته بأقسى الطرق، فكان يقطع شحمة الأذن أو طرفها لجرم مهما صغر ولغير جرم. وفي مرة قابل رجلاً شيخاً يقود حميراً محملة بطيخاًفأشار المحتسب إلى واحدة من أكبرها حجماً وسأل عن ثمنها. فأمسك العجوز شحمة أذنه وقال: اقطعها يا سيدي! فأعاد عليه المحتسب السؤال مرة بعد مرة فكان الجواب واحداً. فاغتاظ المحتسب ولكنه لم يتمالك أن ضحك، وقال: (هل أنت مجنون أو أصم)؟؟ فأجاب العجوز: (لا، لست مجنوناً ولا أصم، ولكني أعرف إنني إذا قلت ثمن البطيخة عشرة فضة فستقول: (اقطع أذنه). وإذا قلت خمسة فضة أو فضة واحدة فستقول: (اقطع أذنه). لذلك اختصرت الأمر وقلت اقطعها ودعني أتبع طريقي). ولم ينجه إلا ما في تهكمه المفاجئ من فكاهة

كان قطع الأذن هو العقوبة العادية التي يوقعها هذا المحتسب، ولكنه اتبع أحياناً طرقاً مختلفة، فقد عاقب جزاراً باع لحماً ينقص عن الوزن الحقيقي أوقية ونصفاً بقطع هذا القدر من ظهره. أمر بتجريد بائع كنافة حصل على زيادة في الثمن تافهة من ثيابه ووضعه على الصينية النحاسية المستديرة حيث تسوى الكنافة وتركه كذلك حتى احترق احتراقاً رهيباً. وكان يعاقب الجزارين بوضع كلابة في أنوفهم يغلق بها قطعة من اللحم. وفي ذات يوم قابل هذا المحتسب رجلاً حاملاً صندوقاً كبيراً صفت فيه قلل فخارية من سمنود وهو يبيعها بوصفها من قنا؛ فأمر أتباعه أن يكسروا القلل على رأسه واحدة واحدة. وكان يظهر طغيانه خارج ولايته؛ ففي ذات مرة خطر له أن يرسل حصانه إلى الحمام، وطلب من صاحب حمام أن يعد العدة لاستقباله والعناية بتحميته وتنعيم جلده. فثقل على صاحب الحمام هذا الأمر العجيب وخاطر بأن قال أن أرضية الحمام من الرخام، وقد ينزلق لجواد فيقع؛ وقد يصاب ببرد عند خروجه، فيحسن لذلك نقل ماء الحمام إلى الإسطبل حيث تباشر عملية الحمام. فقال مصطفى كاشف: (أنى أرى السبب غير ذلك. أنت لا تريد أن يذهب جوادي إلى حمامك). بعض خدمه أن يطرحوه أرضاً ويضربوه بالعصي حتى يأمرهم بالكف. ولم يأمرهم بالكف حتى مات المسكين

ولسنوات قليلة خلت كانت العادة أن يسعى بين يدي المحتسب عند طوافه بالمدينة لفحص الموازين والمكاييل، رجل معه ميزان أكبر حجماً من الميزان المستعمل. ويقال إن قب هذا الميزان كان أنبوبة مجوفة بها زئبق، فكان حامل الميزان يستطيع إذا عرف الذين رشوا سيده أن يرجح إحدى الكفتين بسهولة ويشرف على الأسواق العامة المستخدمون المكلفون بمراقبة تجارة الباشا وصناعاته المختلفة. ووظيفتهم كوظيفة المحتسب سواء بسواء. وقد اشتهر بعضهم بارتكاب أرذل أنواع البغي والقسوة. وكان أحدهم ويسمى علي بك (ناظر القماش) إذا وجد أحداً يملك نولاً خاصاً أو صادفه يبيع ما نسجه، يشده في قطعة من هذا النسيج يغمسها في الزيت والقار ثم يعلقه هكذا على فرع شجرة ويوقد فيه النار، فأباد الكثير بهذه الطريقة الوحشية. وقد مات هو نفسه حرقاً في جم غفير أثناء انفجار مخزن بارود بمنحدر القلعة الشمالي سنة 1824. وقال صديقي الذي حدثني عن فظائع هذا الوحش: (عندما نقلتجثته لدفنها صلى عليها الشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر يومئذ في مسجد الحسين، وكنت أقوم بالتبليغ خلف الإمام، فلما نطق الشيخ بالدعاء ساد السكوت بين الحاضرين الكثيرين؛ ومضى الشيخ يقول: وكان من الصالحين، فلم يسمع لأحد صوت، فارتبك الشيخ وقال بصوت خافت: ليرحمه الله، ثم قال صديقي مواصلاً حديثه: الآن نستطيع أن نؤكد أن مصير هذا الرجل الملعون إلى جهنم، ومع ذلك لا تزال زوجته تقيم له ختمة في منزلها، وتوقد له كل ليلة شمعتين في مسجد الحسين!)

ولكل حي من أحياء العاصمة شيخ يسمى (شيخ الحارة)، وهو يباشر سلطته للمحافظة على النظام ولفض صغير المشاكل بين السكان ولطرد من يعكر صفو الجيران. وتنقسم العاصمة إلى ثمانية أقسام يرأس كلا منها شيخ يسمى (شيخ النمن)

وكذلك كان لكل طائفة من الطوائف التجارية والصناعية المختلفة في العاصمة وفي غيرها من المدن الكبيرة شيخ يحكم في المنازعات المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة، ويصدق على قبول الأعضاء الجدد

كذلك يخضع خدم القاهرة لإمرة شيوخهم. ويستخدم الخدم بواسطة هؤلاء الشيوخ إذ يشهدون لهم بحسن السلوك مقابل قرشين أو ثلاثة. فإذا ارتكب الخادم سرقة يلزم الشيخ بتعويض السيد، ولو لم يحصل على المال المسروق

واللصوص أيضاً، منذ سنوات قليلة اتخذوا كبيراً منهم شيخاً عليهم، وكثيراً ما كان هذا الشيخ يطالب بالبحث عن المسروقات وتقديم المجرمين لمحاكمة؛ وكان على العموم يقوم بذلك. ومما يستحق الذكر أن هذا النظام العجيب كان سائداً في عهد المصريين القدماء (يتبع)

عدلي طاهر نور