مجلة الرسالة/العدد 43/معهد الطفيليات
→ الفلسفة في مهدها | مجلة الرسالة - العدد 43 معهد الطفيليات [[مؤلف:|]] |
التعاون في التأمين على الحياة ← |
بتاريخ: 30 - 04 - 1934 |
للدكتور محمد عوض محمد
. . . سار بي (الأستاذ) سيراً حثيثاً، ليطلعني على ما اشتملت عليه تلك الجامعة الهائلة من دور ومن فصول، ومن مدارس ومعاهد، فلم نزل نتنقل من بناء شامخ إلى قصر مشيد، إلى أفنية فسيحة، إلى مغان ذات طباق بعضها فوق بعض. . .
ثم وقف بي أمام دار فخمة ضخمة ذات صروح وأبراج، ولها باب عظيم ذو عمد من الرخام وسلالم من المرمر الأملس.
وقد انفتح المصراعان، وبدأ لنا من ورائهما دهليز كبير تحف به عمد رفيعة موشاة بالذهب والأحجار الكريمة؛ ومن فوقها سقف مزين بأبدع النقوش وأبهى الألوان
فقال صاحبي: (الآن أريك اجمل شيء في هذه الجامعة الجيلة، ان هذا البناء العظيم الذي تراه أمامك هو (معهد الطفيليات). قد عنيت الجامعة بتشييده وإعداده، ولم تال جهداً ولا مالاً في زخرفته وتأثيثه، ليكون منه مرتع خصيب للطفيليات: تمرح فيه ما شاء لها المرح، وتنعم فيه بكل ما تشتهيه نفوسها التي لا يرضيها القليل، ولا تنفع إلا بالغالي النفيس
(وسأمضي بك الآن إلى المتحف العظيم، الذي حشدنا فيه ما استطعنا حشده من طفيليات هذه الأرض؛ وما احسب أن لجامعة من الجامعات متحفاً كهذا المتحف، شاملاً لما اشتمل عليه من طفيليات عزيزة نادرة به، حقيقة أننا لم نستطيع أن نجمع هنا كل ما في الأرض من هذه الكائنات! إن هذا مرام بعيد. ومن ذا الذي يستطيع للطفيليات عدا. فضلاً عن جمعها. وإيوائها، وتربيتها، وتغذيتها، وتأديبها؟ لكننا نستطيع أن نفتخر - بحمد الله - أن ليس في القارات كلها جامعة بها من الطفيليات ما بجامعتنا هذه
(فلنفتش الآن بين هذه الصناديق الزجاجية. وليكن سيرنا غاية في الهدوء والتؤدة. فأن هذه الطفيليات رقيقة المزاج جداً. فلا تكاد خطرات النسيم تجرح خديها فحسب، بل تقتلها قتلاً. وهي علينا جد عزيزة. ويجب أن نحرص عليها غاية الحرص، أمش إذن برفق لكيلا يسمع لنعليك صوت، ولكيلا ترتج لوقع أقدامنا هذه المنازل البديعة التي آوت إليها الطفيليات.
(والآن فلأشرح ما اغلق عليك من أمر هذه الكائنات! إنك يا صديقي من الأدباء. ولديك الأدب طائفة أظنك تعلم من أمرها ما اعلم - من كل كويتب أو شويعر. عاجز كل العجز عن أن يخرج من صدره أو قلبه أو رأسه رأياً أو خاطرة أو فكرة. يفتش في نفسه فيلقيها خلاء بلقعا قفرا. فيعمد إلى دواوين القدماء وكتبهم، يستخرج منها القصيدة أو الرسالة، ولا يزال بها يحاكيها ويقلدها، ويحذف لفظا ويضيف لفظا، حتى يتم له مسخها وتشويهها ثم يلصق في أخرها اسمه الكريم فإذا به قد اصبح ذا شأن وخطر، وإذا النوادي تتحدث بأمره. والصحف تنوه باسمه، والمحافل تتلقاه بالإكرام والترحيب، وإذا صورته لفخمة تطالعك من صدر كل صحيفة سيارة وغير سيارة لتنبئك، وتنبئ الجاهلين أن قد نبغ في هذا الزمان الأخير أديب خطير، وشاعر كبير!
(ونحن يا صديقي في عصر قد علا فيه كعب هؤلاء وعظمت دولتهم، وقويت شوكتهم. ولا تحسب انهم وقف عليكم أهل مصر بل أن لدينا منهم في مملكتنا هذه خلقا كثيرا. وفي وسعك أن تقسمهم إلى قسمين عظيمين: الأول طائفة الطفيليات القومية أو الوطنية وهم الذين يعيشون متطفلين على قومهم العرب مثلا وأمتهم العربية.
غذاؤهم وحياتهم بما يمتصونه أو يبلعونه أو يمسخونه من شعر القدماء ورسائلهم. ناهيك أن في أدبكم العربي أسفارا لا تزال مودعة في خزائن مظلمة في دور الكتب؛ مخطوطة لا يصل إليها إلا الباحث الجليد. . . وما اولع الطفيليين بالبحث والتنقيب، وما اشد صبرهم وجلدهم! فهم يجدون في هذه الأسفار المنسية ضالتهم، ويصيبون منها الغذاء الذي يكسبهم الشهرة والعظمة. ومنهم من لا يكلف نفسه عناء البحث في خزائن الكتب، بل يعمد إلى الشائع المتداول من كتب القدماء والمحدثين، فلا يزال بها يحولها ويحورها، ويربعها ويدورها، حتى يرى فيها الطعام شيئا مخترعا، وأدبا مبتدعا. . . ولعل هذا الطراز ابرع من الأول واقدر، لأنه يعتمد على مقدرته الهائلة في المسخ والتشويه، بينما الأول يعتمد - قبل كل شيء - على بحثه وتنقيبه عن المجهول من الكتب، والخفي المستور من كنوز الأدب.
(تلك إذن طائفة الطفيليات القومية. تعتمد كما ترى على تراث قومها. أما الطائفة الثانية فهي جماعة الطفيليات الغربية؛ ننعتها بهذا الاسم لا لأنها جاءت من الغرب. بل لأنها تتغذى من الثمار الغربية. وتعيش على أجساد الكتاب من أهل الغرب والكاتبات، الأحياء منهم والأموات.
(وهذه الطائفة قد استفحل أمرها، واشتد دراسها، منذ انتشر في بلادكم تعليم اللغات الغربية، فوجدت أمامها أودية خصبة ومروجا ممرعة، لا يكاد الطرف أن يدرك مداها. فأقبلت عليها في شره لا يعرف شبعا، ونهم لا يعرف حدا. إذ رأت أن المجد الأدبي قد دنت قطوفه، وسهل تناوله. . . فجعلت تجني من ثمار الغرب ما شاءت وما شاء لها الجشع؛ ثم مسخته قليلاً أو كثيرا، ثم جلته للعيون الشرقية، على انه من ثمارها ومن نتاج روحها. فأكبر الناس تلك الثمار، وسبحوا بحمد تلك الطائفة. ورفعوها على الأعناق، وبوموها مقاعد السيادة في الآداب أو في العلوم. . .) عند ذلك قاطعت الأستاذ، وقد تملكني الضجر، وقلت: (أعن هؤلاء تريد أن تحدثني؟ وهل هؤلاء هم الذين أودعتموهم في معهدكم هذا؟ اللهم أني لفي غنى عن رؤية أمثال هؤلاء، وما جئت سائحا في بلادكم العظيمة، لكي تطلعني على تلك المناظر التي طالما أقذت عيني وأحرجت صدري!)
قال: (لا تخف! فهيهات أن نجد مكانا في معهدنا هذا - على ضخامته وسعته لكل تلك الطوائف! كلا يا صديقي! وما ذكرت لك أمر هؤلاء إلا لأنك ممن يعنون بالأدب. ولاني أريد أن تفهم عني أمر الطفيليات التي حشدناها هنا! فأردت تقريب الأمر إلى ذهنك متنقلا بك مما تعرف إلى ما لا تعرف!
(وخلاصة الحديث يا صديقي، إن الطفيليات هذه هي كائنات - اجل وأني لمضطر لان ادعوها كائنات - لا تستطيع أن تحيا وأن تعيش من نفسها وجهودها. بل لابد لها من كائن آخر، تستمد حياتها من حياته، وكثيرا ما تكون حياتها سببا في فنائه. وهي على كل حال لابد لها من أن تضعف الجسم الذي يمدها بالحياة حتى تورده موارد الدمار. . .)
(هذه الكائنات لا تكد ولا تكدح في طلب الرزق، بل تدع السعي والطلب إلى غيرها، وليس لها أسنان تمضغ، أو معدة تهضم، أو أجهزة تحيل الطعام الخشن والشراب، إلى غذاء وحياة، بل تبقى كامنة في الأجسام الحية، ثم تنتظر حتى تكد هذه وتعمل، وتجمع الرزق من نواح شتى، وحتى تتناول طعامه وتهضمه وتمثله، وتحيل إلى تلك العناصر التي ثوت فيها القوة والحياة، عندئذ تبادر الطفيليات، فتمتص منها الحياة والغذاء، من غير جهد ولا عناء. . . هذه الطفيليات لا تحسن عملا، ولا تجيد صنع شيء؛ الهم إلا شيئا واحداً، هو: الالتهام)
(تأمل قليلا في هذا الكائن البديع، القرمزي اللون! انه لا يعيش إلا في الشرايين، لا يحلو له أن يتناول إلا الدم الطاهرالزكي: يستقيه سائغا شهيا حين يقذفه القلب إلى كل شريان. . وهذه صورة رجل قد حلت بجسده هذه الكائنات! أن وجهه الشاحب قد علته صفرة الموت. وعينيه الغائرتين تجدان كفايتهما من الدم المغذي. وعلى عظامه الناتئة جلد رقيق، يوشك أن يكون شفافا. . . أن حياة مثل هذا لن تطول. فان هذا الضرب من الطفيليات من أقتلها وأفتكها بمن يعيش في جسده.
(انتقل بنا الآن إلى هذا الكائن الأبيض المنتفخ! إن خطبه ايسر من خطب الأول. ودأبه أن يعيش وسط الدسم والشحم.
فهو لا يسكن من الجسم إلا حيث الدهن متراكم متكدس. فإذا رأيت من بني آدم من أضخمته النعمة، وأشحمه الغنى، فأن هذا الشقي لن يلبث طويلا حتى تتألب عليه هذه الكائنات الشرهة، ترتع في نعمته، وتمرح في شحمه ودهنه، وما تزال مكبة عليه تمتص منه وتلتهم، حتى تذره نحيلا هزيلا. قد وهى عظمه، ورق جسمه حتى لم تبق منه إلا بقية ضئيلة، لا تلبث أن تذهب، فيهلك الجسم وتهلك معه تلك الطفيليات.
(وأظنك تشاطرني الرأي أن ليس بمستغرب أن تتجمع الطفيليات على مثل هذا المخلوق السمين، حيث المرعى الخصيب، والخير الوفير، والنعمة السابغة. . .
ولكن ما بال هذه الطائفة - التي تراها عن يمينك - قد تألبت على غير ذي دسم، وتجمعت على غير ذي نعمة، ولا يحلو لها أن تمتص الحياة والرخاء إلا من كل بائس شقى، قد عضه الفقر من جانب. والجوع من جانب، ممن يقضي حياته في كد وكدح، من اجل اليسير من الزاد، والزهيد من القوت، لا يكاد يصل إليه إلا باهراق عرق الجبين، وبذل الجهد الجهيد، وإيراد الروح موارد العذاب. ثم يغدو المسكين وإذا قوته ودمه يذهبان غذاء سائغا شهيا لهذه الطوائف النهمة من الديدان الملتوية.
(ومن عجب إن ليس في الطفيليات كلها ما هو اشد نهما واكثر شراهة من هذه الكائنات، التي تعيش وسط الفقر المدقع، فتراها غنية وسط الفاقة، سعيدة وسط الشقاء، مدلة بنفسها عزا وكبرا برغم ما يحيط بها من الذل والضعة، وهي إلى هذا كله قصيرة النظر، لا تكاد أن ترى شيئا، لأنها لو استطاعت أن تبصر لعلمت أن ليس في عيشها ذاك ما يبعث الكبر والغرور، ولأدركت حقارة شأنها بين الكائنات.
والآن انتقل بك إلى هذه المجموعة الفريدة؛ إنها ستبدو لك لأول نظرة كأنها ديدان لما بها من الالتواء والانحناء؛ لكنها في الحق ليست بديدان، بل حشرات طفيلية جميلة الصورة، حسنة الهندام؛ أما هذا الالتواء والانحناء، فراجع إلى طبع غريب مغروس في نفوسها، ذلك إنها مولعة أبدا بالركوع حينا والسجود حينا: مغرمة بتمريغ الجبين في مواطئ النعال. فهي تبدي للجسم الذي تمتص خيره وبره عبودية وخضوعا. وتتملقه تملقا بديعا. وما تنفك تهتف باسمه. وتسبح بحمده: ولا يحلو لها الزاد الذي تمتصه وتتغذى منه، ما لم يصحبه كل هذا الركوع والسجود، والتملق والخنوع. . . . . وهذه الحشرات لا تعيش إلا في الجسم القوي ذي البأس الشديد، والعزة والجبروت. ولقد يحلو لهذا الجسم أن يؤدي هذه الحشرات، وان تمتص من خيره ومن رحيقه، لأنه يعجبه منها هذا الخضوع الظريف، وهذا التملق الساحر. وهذا الركوع الدائم والسجود. ولا يرى على نفسه بعد ذلك بأسا في أن تأكل هذه الحشرات من مخه ومن دمه، ومن لحمه ومن عظمه. لأنه قوي مدل بقوته، بئيس مفاخر بأسه، يظن أن كنوز قوته لن تنفذ مهما كبر ذلك الجيش الجرار من الحشرات. فتراه يستكثر منها ويستزيد ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(ومن عجب أن هذه الحشرات قد تحل بها حشرات أخرى أحقر منها، لكي تعبدها وتتزلف إليها، وتمتص خيرها؛ وهذه أيضا على حقارتها تنمو حولها طائفة أخرى أحقر منها، وهلم جرا، ولن تستطيع أن ترى هذا كله بالعين العادية، بل لابد لك من التحديق في المجهر: انظر هاهنا! وأمعن التحديق حتى تعتاد عينك رؤية هذا العالم الطفيلي المدهش! أرأيت كيف تتابعت هذه الكائنات تتابعا مطرداً: من الكائن الأكبر إلى الأصغر فالأصغر حتى تبلغ إلى الحقير التافه الذي لا تكاد تراه حتى بالمجهر!
(وبرغم ما تراه في هذا الجيش العرمرم من مظاهر القوة والنشاط، والحركة الدائمة، فان هذا مظهر خداع. ولا بد أن يدركه الفناء في لمحة الطرف. ولا بد للمسكين من يوم تدول فيه دولته وتذهب ريحه، وينظر فإذا قوته قد فنيت وبأسه قد زالوإذا هو صريع وسط تلك الجيوش الجرارة من الطفيليات التي أفنته وأفناها.) وألتفت (الأستاذ) إلي، فرأى الدم يتصاعد إلى وجهي، فقال: (أحسبك قد نال منك التعب، ولا جرم فأن عالم الطفيليات عالم عظيم جسيم. ولكن لن تبرح حتى ترى هذه الحشرات السوداء التي لا تعيش إلا على جثث الموتى. وتخشى الأحياء وترهبهم. ألا تراها تذكرك بأصحابك الذين يغيرون على شعر القدماء، وأدب القدماء. ولا حياة لأمثال هؤلاء إلابما يدره أولئك الموتى!
والآن تأمل هذه الكائنات الدميمة التي تراها عن يسارك! وقل لي هل رأيت في حياتك أشد منها دمامة، وأقبح منها منظر؟ وهي مع ذلك لا تعيش إلا حيث يوجد الحسن والبهاء! ولا تحيا إلا على كل من رزق الوسامة، وضرب في الجمال بسهم، وحيثما رأت الشباب الغض والحسن الباهر تر هذه الكائنات الدنسة. قد تراكمت من حوله وتألبت عليه. . . لكن أراك قد تصاعد الدم إلى وجهك، وأحمت عيناك وانتفخت أوداجك، فهل تحس ألماً أو دوار، أو تراني قد أتعبتك بكل هذا الشرح الطويل؟
قلت: (ليس ما أحسه الآن تعبا أو ألما، ولكنه الغيظ قد استولى علي وأخذ يحرق صدري، ويوقد النار في دمي، وبودي لو تناولت عالمك هذا كله بالتحطيم والتدمير، فلا أدع فيه دودة ولا حشرة، قائمة أو قاعدة، راكعة أو ساجدة!)
قال: (من حسن الحظ أنا تركنا عصينا بالباب، فهلم بنا لنخرج من هنا، قبل أن يذهب بك الجهل مذاهب الطيش والنزق فأن هذه الطفيليات أعز على الدهر من أن نعرضهات لسخط الحمقى، الذين لا يعرفون ما لها من المنزلة الفريدةوالمكانة العزيزة في نظام هذا الكون الأبدي.)
ثم انطلقنا، وصاحبي يبتسم، وأنا أكاد أتميز من الغيظ.
محمد عوض محمد