مجلة الرسالة/العدد 43/التعاون في التأمين على الحياة
→ معهد الطفيليات | مجلة الرسالة - العدد 43 التعاون في التأمين على الحياة [[مؤلف:|]] |
بين المعري وداني ← |
بتاريخ: 30 - 04 - 1934 |
يعمل الرجل وهو في مقتبل الشباب ممتلئاً صحة وقوة، ويخيل إليه أن الدهر سيظل له على الدوام مسالماً، فيسرف في أنفاق كسبه غافلاً عما يكنه المستقبل في طياته من المفاجآت. فإذا لم يعترضه مرض أو حادث يعجزه عن العمل والكسب، فأنه قلما يسلم من الخضوع لسلطان الطبيعة البشرية وسحرها، تجتذب حواسه وتأسر لبه حتى تسوقه طوعاً إلى شريكة في الحياة؛ يرزقه الله منها الأبناء، فيشعر في أعماق قلبه بذلك الشعور الذي لا يدرك كنهه سوى الزوج المخلص والوالد الرحيم، وهذا الشعور ينطوي على رغبة صادقة في أن يهيئ لهم أسباب السعادة في ظل حياته، ويعد الوسائل التي تسهل لهم سبل العيش بعد مماته.
ولا تقف مسئولية الرجل العائلية عند حد الزوج والأبناء، بل قد تتناول أبويه والقاصرين من اخوته المحتاجين لمساعدته. فأن حق عليه أن يكفل زوجه وأبناءه بعين رعايته، فأن من واجبه الشرعي والاجتماعي أن يشمل أبويه بعطفه وحنانه. فإن فعل فإنما يسدد ديناً عليه. فقد ضحيا من أجله راحتيهما ومالهما في سبيل تربيته وتعليمه حتى بلغا به طريق الرزق - قد يكونان ذهبا في التضحية إلى حد نفاد مواردهما - فحق لهما أن يجنيا ثمار تضحيتهما بمساعدته لهما في شيخوختهما.
وخلاصة القول أن الرجل في هذه الحياة مسئول عن سعادة أبويه وأخوته، كما أنه مسئول عن هناء زوجه وأبناءه. فإن كانت عائلته تعيش من كده وجهاده، فهو بمثابة رأس مال لها. يقف رأس المال العائلي هذا عن الإنتاج إذا إنتاب الرجل العامل المرض أو اعترضه العطل، ويفقد مقدرته الإنتاجية إذا أقعده العجز أو الشيخوخة عن العمل، ويفنى إذا وافاه الأجل؛ فالرجل المتزن العاقل هو الذي يتبصر في عواقب الأمور، ويتسلح للطوارئ، فيعمل على تهيئة أسباب السعادة لعائلته في مختلف أطوار الحياة، بأن يستجمع في شبابه من المال ما ينعم به في شيخوخته، وما يتركه لذويه يستعينون به على صروف الدهر بعد وفاته. وقد يبتدئ فعلاً بتدبير المال عن طريق الادخار. فأن عاجلته المنية قبل أن يكون لعائلته المال الذي يعيشون منه فأنه يتركهم عرضة للتسول وقد يدفعهم الإملاق إلى اقتراف الرذائل وارتكاب الجرائم.
تلك هي النتائج الاجتماعية التي يجب أن يتوقعها الرجل الذي يعيش من كسبه، ولا يدخر لشيخوخته ولأهله من بعده ما يقيهم شر الحاجة وذل السؤال. ومما يؤسف عليه أن أولئك الذين تلهيهم سعة الحاضر عن مفاجآت المستقبل كثيرون في بلادنا، وضحاياهم عديدون، نصادفهم كل يوم فلا يثيرون في نفوسنا غير الإشفاق والرثاء.
قال المرحوم أحمد بك لطفي أحد أبطال التعاون (هل في مقدور الجمعيات الخيرية مساعدة كل هؤلاء، والعناية بتربية أولادهم والصرف على بيوتهم؟ وهل يمكن أن يعيشوا من مد يدهم للناس وإراقة ماء وجوههم للغير؟ ليست هذه الأحوال خاصة بمصر، فإنها وجدت خلال القرون الأخيرة في غيرها من البلاد الغربية، ولم ينجح فيها استعمال الإحسان والصدقة، ذلك لأن الإحسان وإن كان من الفروض الدينية، إلا أنه بحسب القوانين الوضعية ليس إلزامياً، بل هو متروك لمروءة الإنسان، فلا عطاء بغير مقابل، ولا وسيلة لإرغام الناس على القيام به. لذلك لجأ الناس هناك لنوع من الإحسان يتحقق فيه الإلزام بأجلى معانيه، وهو تبادل الإحسان بين الفرد والجماعة بنظام مخصوص يجعله محققاً، ويسهل تنفيذه بغير أثقال على النفس ولا بتضحية كبيرة. وهذا العلاج وهو ما يسمى بالتعاون).
يقوم التعاون على مبدأ تبادل المنفعة بين الفرد والجماعة. فإذا ما أتحد عدد كبير من أرباب الأسر الذين يعيشون من كسبهم على تأليف جمعية تعاونية على أساس أن يؤدي كل واحد من كسبه اشتراكاً دورياً لصندوق الجمعية، وأن يستثمر جزء كبير من الأموال المتجمعة في أوراق مالية أو عقار على أن يصرف للعضو عند مرضه أو عطله ما يعالج به نفسه ويقوم أوده مدة عطلته من العمل، ويصرف لورثة من يتوفاه الله منهم مال أو معاش يستعينون به على الحياة، وإذا أقعدته الشيخوخة يصرف له مبلغ معلوم من المال أو يخصص له مدى الحياة معاش، أمكن تبادل المساعدة والمنفعة بغير أضرار بالفرد ولا بالجماعة.
ولتثبيت نظرية التعاون في الأذهان نضرب المثل الآتي:
أتفق جماعة من الأفراد عددهم خمسمائة من أعمار مختلفة تتراوح بين الثلاثين والخمسين سنة على تشكيل جمعية تعاونية، على أساس أن تدفع الجمعية خمسمائة جنيه لورثة العضو منهم إذا توفى قبل بلوغه سن الستين أو عند بلوغه هذه السن إذا ظل حياً، مقابل أن يؤدي العضو للجمعية اشتراكاً شهرياً يختلف باختلاف سنة عند التعاقد، وينقطع دفع الاشتراك بالوفاة أو عند بلوغ سن الستين. ولكي يتيسر للجمعية القيام بتعهداتها يجب أن تكون الاشتراكات التي يدفعها الأعضاء مبنية على أساس علمي يراعي فيه احتمال الوفاة واحتمال بلوغ السن المعينة، وعلى هذا الأساس يصح أن تكون الاشتراكات على النحو الآتي:
السن عند التعاقد
الاشتراك الشهري الذي يدفعه العضو بالقروش
30
112
31
116
32
121
33
127
34
133
35
139
36
146
37
153
38
162 39
170
40
180
41
191
42
203
43
217
44
232
45
250
46
269
47
292
48
319
49
250
50
287
ويجب أن يكشف طبياً على كل من يريد الالتحاق بالجمعية على ألا يقبل غير الأصحاء لكي لا تتعرض الجمعية لخطر عاجل قبل تكوين أموال كافية لمواجهة الطوارئ، فأن متوسط معدل الوفيات بين فئات السن من 30 إلى 50 هو 60 في المائة، أو بمعنى آخر أن عدد الوفيات التي يحتمل حصولها خلال السنة الأولى بين أفراد الجماعة المذكورة المكونة من خمسمائة عضو هو ثلاثة. فعلى أساس هذا الحساب يمكننا أن نقدر التعويضات التي يحتمل دفعها في السنة الأولى بمبلغ 1500 جنيه، على اعتبار أن المبلغ الذي يدفع لورثة العضو المتوفى هو خمسمائة جنيه.
ويجب أن الجمعية لا تحتفظ في صندوقها أو في البنك الذي تعامله مما تحصله من الأقساط في أول كل شهر إلا بقدر ما يلزم لتغطية المصروفات ومواجهة التعويضات المحتمل دفعها خلال الشهر، بل تقتني به أوراقاً مالية سهلة التداول، فأن المبلغ الذي يحتمل تحصيله في السنة الأولى من الأقساط وفوائد استثمارها، يقرب من 8500 جنيه. وقد خرجنا بهذه النتيجة على أساس حساب الاحتمال، بعد أن استبعدنا طبعاً الأقساط التي حرمت منها الجمعية من المتوفين أثناء المدة التي تجري بين الوفاة وآخر السنة، وكذلك فائدة الاستثمار التي كانت تعود على الجمعية لولا دفع التعويضات والمصاريف الإدارية أثناء السنة. .
أما النفقات الإدارية، فأن جمعية تعاونية مكونة من خمسمائة عضو كالتي ذكرت، لا تحتاج لمسك دفاترها (بطريقة الفيش) والقيام بالأعمال الكتابية إلى أكثر من كاتب واحد يمكن أن يتقاضى مرتباً سنوياً 120 جنيهاً. أضف إلى ذلك قيمة مطبوعات ونفقات نثرية 80 جنيها، فيكون المجموع 200 جنيه بالقياس إلى نفقات جمعية تعاون موظفي البريد التي تضم نحو 4300 عضو مع حفظ الفارق.
أردنا مما تقدم أن نثبت في أيجاز أن دخل الجمعية من أقساط وفوائد استثمار لا يفي بدفع تعويضات الوفيات وتغطية المصروفات فحسب، بل يترك فائضاً. ولا غرو فإن مبلغ الدخل في السنة الأولى هو 8500 جنيه، في حين أن التعويضات هي 1500 جنيه، والمصروفات الإدارية 200 جنيه، فيكون الفائض 6800 جنيه، يحول جزء منها إلى الاحتياطات التي يجب تكوينها لاستخدامها فيما بعد في سداد التعويضات التي تستحق الدفع عند حلول أجل العقود للباقين أحياء، وما بقى من الفائض في نهاية كل سنة بعد تغذية الاحتياطات يصح توزيعه على الأعضاء ويقال له (العائد) إلا أن أكثر الجمعيات لا توزعه على الأعضاء إلا مرة كل خمس سنوات مضافة إليه فوائد استثماره؛ أما في حالة الوفاة فأنها تصرف لورثة المتوفي زيادة على المبلغ المؤمن به، حصته في العائد المتكون لحسابه حتى نهاية السنة السالفة للوفاة.
وكلما تيسر للجمعية استثمار أموالها بفائدة كبيرة، كبرت
حصة العضو في العائد. وإن السوق المصرية لهي من
أخصب الميادين لتوظيف الأموال، ولا جرم فأنه يوجد 52
قرطاساً، أي ما يزيد على ثلث عدد القراطيس المتداولة في
برصتي القاهرة والإسكندرية، تربى غلتها على 21 4 %
على أساس الفوائد والأرباح الموزعة خلال ثلاث السنوات
الأخيرة، وسعر البورصة في نهاية كل سنة، بعد أن أجرينا
عمليات التصحيح التي تلزم في هذا المقام.
إن ما عليه حال العمال وطبقة صغار موظفي الحكومة والبنوك والمصالح الأهلية من قلة المرتب، يجعلهم يقاسون آلاماً مبرحة إذا ما نزلت بهم نازلة من المرض، أو الإصابة بحادث، أو البطالة، أو الشيخوخة، أو الوفاة. وقد يصل بهم العسر إلى عدم توافر نفقات العلاج أو ثمن الدواء أو تكاليف الدفن. فهم يستهدفون لاستشراء الأمراض لقصر ذات اليد. وقد يبلغ الإملاق بأسرهم من بعدهم حد التسول وإراقة ماء الوجه. فلدرء تلك العواقب انتشرت جمعيات التعاون للتأمين على الحياة في الأمم الراقية لتخفف عن أعضاءها وأسرهم ما يخبئ لهم الدهر من الويلات.
فما أحوجنا إلى نشر مثل هذه الجمعيات بين طبقات الموظفين والعمال وصغار التجار والزراع. ومن الميسور أن يضحي كل منا بعشرة قروش شهرياً في سبيل أن يضمن لنفسه ولعائلته الدواء ووسائل العلاج بتأسيس جمعيات تعمل على إبرام الاتفاقات، مع طائفة من ذوي القلوب الرحيمة من الأطباء والصيادلة ومديري المستشفيات لمعالجة الأعضاء بأتعاب معقولة، وتقديم الدواء بأثمان معتدلة، وقبول المرضى بالمستشفيات بأجور مخفضة، تقوم بدفعها الجمعيات من الاشتراكات التي تحصلها من الأعضاء.
كما أنه من الميسور أن يضحي الرجل منا من مرتبه الشهري بقيمة الاشتراك الذي سبق أن أوضحناه بالجدول على سبيل المثال، ليضمن لأولاده ولذويه مالاً أو معاشاً، يقتاتون به إذا ما عاجلته المنية، حتى ولو حصلت بعد أداء القسط الأول، وليضمن لنفسه معاشاً ينعم به في شيخوخته لكي لا يصبح حميلة على غيره، بعد ما كان في شبابه عاملاً مفيداً للمجتمع.
وواجب على الشباب المتعلم أن يبث الدعوة بين طبقات الموظفين والعمال وفقراء التجار والزراع لتشكيل الجمعيات التعاونية.
وأني على استعداد لإبداء النصح والإرشاد عن طيب خاطر لكل هيئة تتألف لتأسيس جمعية للتعاون في التأمين على الحياة، لأني ممن يدينون بمبدأ التعاون، ويعتقدون صلاحية المنشآت التعاونية لإنقاذ الطبقات العاملة الفقيرة من شتى المخاطر التي يستهدفون لها.
وليس بكاف أن يوجد في مصر أربع جمعيات تعاونية للتأمين على الحياة، تعمل كل واحدة منها في دائرة ضيقة، فلا تحتضن إلا عدداً قليلاً من الأعضاء. وأقدمها جمعية تعاون موظفي البريد التي أسسها المرحوم يوسف سابا باشا في سنة 1893، ثم تبعتها جمعيتا تعاون الصيارفة والمساحين. وجمعية تعاون موظفي الصحة التي أسسها حديثاً الدكتور شاهين باشا في فبراير سنة 1934. ولقد أخذت الجمعيات الثلاث الأخيرة نظامها عن جمعية البريد.
وليس هذا مجال نقد أنظمة تلك الجمعيات، وإنما نكتفي بالإشارة إلى إنها لا تقوم على أساس علمي صحيح في تحديد الأقساط وتوزيع المكافآت، بل على طريقة فطرية لا تتمثل فيها العدالة بين جميع الأعضاء وتعرضها لخطر الإفلاس، بالرغم أن موازينها تبدو لغير الفنيين في مظاهر اليسر. فأن خطر الإفلاس لا يمكن أن يدرك مداه في جمعيات التعاون في التأمين غير الفنيين، خصوصاً وأن موازين تلك الجمعيات لا تبين القيمة الحالية لتعهداتها إزاء أعضائها. ونأمل أن تسرع هذه الجمعيات إلى إصلاح نظامها على أساس القواعد العلمية الحديثة قبل فوات الأوان.
ولا يزال المجال متسعاً لمن يزيد أن يسجل التاريخ أسمه بين أبطال التعاون في مصر، فأن من يقوم بتأسيس من جمعية تعاونية في التأمين على الحياة، على أساس التعاليم الحديثة، يقدم للإنسانية خدمة جليلة، ويسدي لأمته خيراً كثيراً.
طه عفيفي عضو بعثة التأمين سابقاً