مجلة الرسالة/العدد 43/الفلسفة في مهدها
→ هل لمصر طراز؟ | مجلة الرسالة - العدد 43 الفلسفة في مهدها [[مؤلف:|]] |
معهد الطفيليات ← |
بتاريخ: 30 - 04 - 1934 |
للأستاذ زكي نجيب محمود
لم تكد تقذف الحياة بهذا الإنسان فوق ظهر الأرض ضعيفاً خائراً، حتى دأب المسكين يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه ضرورة البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به رحيمة كريمة فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى التفكير والغريزة ما يرد به غائلة الضرورة واعتداء الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مغلولة اليد، واكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت وإقامة أسباب الحياة.
ولكن الزمان الذي يغير كل شئ قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلاً من تلك الحياة التي كانت تقنع من الغنيمة بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة بحيث لم يعد يصدر ذلك عن شعور ووعي يستنفذان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء. بل أصبحت شئون العيش عادة آلية يديرها اللا شعور. وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ في الحين بعد الحين، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يلهو بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير، سوى أقاصيص ينسجها له الوهم فيرويها لتكون له دينا وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت الميثولوجيا أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق. وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة وخفت أثقال البقاء، وبرد الهوب السوط الذي كانت تسلطه عليه ضرورة الحياة ليدأب في جمع القوت ورد الخطر، واستقبل الإنسان عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ جنبا إلى جنب مع عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شئ من ترف الفكر وإبداع الفن، وعندئذ تغير موقف الإنسان، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لإملائه فيطبع، بل اخذ يفكر في خلق السموات والأرض ويسأل نفسه لماذا يكون هذا هكذا؟ وكيف يجيء ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك وكان مهدها الذي تدرجت في كنفه طفلة عابثة، مستعمرة يونانية في آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حاضرتها مدينة تدعى مليتس، وفي ذلك البلد أضاءت شعلة الفكر خافتة أول الأمر، ثم شاء لها الله أن يمتد نورها ويتوهج حتى يكون في أرض اليونان فلسفة عميقة كانت أساس البناء، جذرا للدوحة التي امتدت فيما بعد قوية مثمرة
في مليتس - في القرن السابع قبل ميلاد المسيح - نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينا طويلا من الدهر، وخص شطرا من حياته للتفكير المجرد، الذي يقصد جمع القوت وتوفير أسباب العيش، ولكن فيم عسى أن يفكر ذلك العقل الناشئ؟
بديهي أن يتجه إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالكائنات، والتي تحتويه في غمارها وتملأ عليه شعاب نفسه وحسه، ولم تكن الطبيعة موضوع فلسفته فحسب، بل كان قصيدا ينشد في حماها الخلاب، وكان دينه تسبيحاً لقوتها وجبروتها، وأية غرابة في هذا؟ أليست سنة الحياة أن يبدأ الطفل حياته الفكرية بما يقع تحت الحس ثم يتدرج صاعدا إلى الفكر المجرد؟
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى أعمال الفكر هو هذا التغير الذائب والتحول المستمر الذي يطرأ على الأشياء، فها هو ذا كل شئ، كائنة ما كانت مرتبته في الحياة، يجيء إلى الوجود ليبقى حينا ثم يمضي ويترك الوجود، ولكن يستحيل على الفكر الناضج أن يظن أن هذه الأشياء تأتي من العدم وتنحدر إلى العدم، فليست تدل الظواهر على أن هذا الشيء المعين حينما جاء إلى الوجود، قد بدأ حياة لا يربطها بالماضي سبب من الأسباب، أو حينما يذهب وينقضي قد زال أثرهو تلاشت مادته، إنما تدل الدلائل جميعا على إنها مادة موجودة يطرأ عليها التغيير فتكون اليوم حجرا، وتصبح غدا نباتا يحيا، وقد تكون أنسانا يفكر ويسعى بعد غد، فليت شعري، أو ليت شعر الفلاسفة الأولين، ماذا عساها أن تكون تلك المادة التي تملأ الكون وتبدو في صور مختلفة متباينة؟ تلك هي المشكلة التي حاول فلاسفة أيونيا أن يلتمسوا لها جوابا يقنع ويرضي
وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فانه لن يصادف إلا عددا قليلاً من ألوان المادة التي يجوز لها أن تكون كذلك، إذا لا بد لهذه المادة الأولية المنشودة إلا تكون محدودة الصفات والخواص، وأن تكون مرنة شديدة المرونة في قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساء أو اصبح صباح، غير الماء؟! فهو أدناها عند العقل الأيوني مأخذا، وأقواها حجة. فليس عجيبا إذ أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، وهو في طليعة الباحثين عن تلك المادة التي نشدها العقل، والتي تتركب منها الأشياء جميعا، وتنحل أليها الأشياء جميعا، ويعلن أن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر، الهم إلا اختلافا في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجا؟ وإذن فهو غاز حينا، وصلب حينا ثالثاً، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
رضى العقل بادئ بدء بالماء جوهرا للكون، ولكنه ما لبث أن أدرك انه مهما يكن للماء من مرونة وحيوية، فان صفاته محدودة، ضيقة، لا يمكن أن تسع كل ظواهر الوجود، وإذن فلا بد للعقل أن يبحث ويجد في البحث عن مادته الأولية التي ينشدها فجاء انكسمندر وقرر حقا أن كل مادة يكون لها صفات بعينها لا تصلح مطلقا أن تكون أصلا للكون، لأن مجرد الاعتراف بصفة ما هو دليل قاطع على وجود نقيضها، فلا يمكن عقلا أن تفهم معنى الحرارة إلا إذا اقترنت ذهنك بالبرودة، ولو تلاشت هذه لذهبت في أثرها تلك، وأذن فيستحيل إن تصف مادة بخاصة معينة إلا إذا كان ثمت مادة أخرى لها صفة مناقضة، وينتج من هذا انه لا يمكن أن يكون الوجود مركبا من مادة تميزها صفات، وإذن فلم يتردد انكسمندر في القول بأن الأشياء جميعا، إنما تفرغت عن مادة لا تمدها حدود، وليس لها صفات، اللهم إلا صفة واحدة هي الثبات وعدم التجول؛ أي الخلود. ولعلها في عنصرها وسط بين الهواء والماء. هكذا يغريك انكسمندر بتصديق منطقه، ولكن ما لبث الإنسان أن وجد في هذا المنطق الخلاب مغمزا وثغرة. إذ كيف تنشأ هذه الفروق الشاسعة بين صفات الأشياء، إذا كانت كلها مشتقة من مادة واحدة لا صفة لها، فبديهي أن تجيء أجزاء هذه المادة الأولى على نسقها وغرارها؛ فلا تكون للأشياء الجزئية صفات كذلك، وأذن فليستأنف العقل بحثه عن ضالته هنا نهض انكسمينس فخطا بالعقل خطوة ثالثة: إذا كانت مادة طاليس لم تصادف من العقل اطمئنانا، لأنها ليست من الشمول بحيث تسع بأسره، وإذا كانت مادة أنكسمندر قد أصابها الرفض لأنها تخلو من الصفات التي تدرك في أجزائها، فما يمنع انكسمينس أن يقع اختياره على مادة ثالثة، فيها الشمول الذي ينقص الماء وفيها الصفات التي تعوز مادة انكسمندر: إلا وهو الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت الأبدان والأجسام. أليست الحياة أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا؟ أليس الهواء يملأ الفضاء ويغمر الكائنات ويستحيل إلى صور متنوعة، وهو فوق ذلك أسبق من الماء إلى الوجود، فالهواء إذن هو الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينا فيكون هذا الشيء، ويتخلخل حينا فيكون شيئا آخر.
فأنت ترى من هذا أن الفلسفة في أول صورها كانت لا تعدو في بحثها ظواهر الأشياء وأجسامها المادية، وكيف تريدها على أن تجاوز الظواهر المادية وهي لم تعترف بما وراء المادة من حياة وفكر؟ فالحياة عندها أنفاس مادية لا أكثر ولا أقل
وكان طبيعيا إلا يجمد العقل عند هذه المرحلة من التفكير والنظر، فجاوزها في البحث عن جوهر الوجود وكنهه، لا يأبه كثيرا بالصور المادية التي يتخذها ذلك الجوهر لبوساً مختلفة يظهر فيها للحواس وبعبارة أخرى فقد خلفت الفلسفة وراءها مرحلة طبيعية، لم تكن تنشد فيها إلا مادة ولم تعترف لغير المادة بوجود، واستقبلت مرحلة ميتافيزيقية، تعترف فيها بوجود شيء وراء المادة يدرك بالفكر المجرد دون الحواس. وان كانت الشقة بعيدة بين هذين النقيضين - بين تلك الفلسفة الطبيعية وهذه الفلسفة الميتافيزيقية - لا أن هذه قد اعتمدت على أساس تلك، لأنه إذا كان الخلاف بين الأشياء، هو فرق ما بين التكاثف والتخلخل، إذن فلا يفضل مخلوق مخلوقا آخر إلا من حيث الكمية المادية فحسب، وبعبارة ثانية، فالذي يفرق بين الكائنات اختلاف الحكم، أي في العدد، وإذن فكنه الوجود وحقيقته هو الأعداد، فالكون سلسلة من أعداد تتجمع وتتفرق حينا. ومن هنا نشأت المدرسة الرياضية الجديدة التي كان زعيمها فيثاغورس، فقد ذهبت طائفة الفيثاغوريين إلى اعتبار الأعداد جوهر الكون وأساسه. ومن الواحد خرجت جميع الإعداد، وأن تكن مختلفة متباينة، إلا إنها لا شك تنطوي جميعا تحت ذلك الفرد. وقد يستوقفك هذا التباين بين الأشياء، فتسأل كيف يمكن أن تجتمع هذه النقائض كله تحت أصل واحد، وأن يكون هذا الأصل هو الواحد الرياضي. كيف يكون هذا الحيوان وذلك الماء وهذه الشمس وما إلى ذلك أشباها تلتقي عند جوهر واحد؟ ولكن هذا الشتيت المتضارب في الظاهر إنما هو أجزاء هذه الوحدة التي أحدثك عنها، أو يحدثك عنها الفيثاغوريون، كما يكون إصبعك وعينك وشعر رأسك وسائر أجزاء بدنك - وهي متنافر الصورة لا يشبه بعضها بعضا - وحدة لا شك في تماسكها واتحاد أجزائها، وتكون في النهاية واحدا
وأحب أن أضع إصبعك على هذا الضرب الجديد من التفكير الفلسفي، لتدرك تطور الفكر مرحلة بعد مرحلة. فالفيثاغوريون لم يعودوا يفكرون في أجسام مادية، هم لا ينشدون مادة الأشياء الاولية، كما فعل طاليس وأنكسمندر وانكسمينس، ولكنهم كما ترىيضربون في الأعماق ويجاوزون هذا الغشاء المادي ليصلوا بتفكيرهم إلى جوهر الكون
ولكن مذهب الفيثاغوريين بدورة لم يسلم من النقد، فهو يبالغ في الإكبار من شأن الواحد، ويصر على أن تكون الأعداد جميعا - أي الأشياء - أجزاء. من ذلك الواحد يحتويها ويشملها كما يحتوي الكل أجزاءه، ولكن إذا كان الفرق بين الأصل وما يتفرع عنه فرقاً عدديا فقط، فبديهي أن يكون الأصل وفروعه في منزلة كيفية واحدة، ولا يكون أمامنا مبرر لتفضيل هذا على ذاك إلا بالفرق في الحكم، أعني انه يجب أن يكون التعدد أصلا وجوهرا تفرع عنه الواحد. إذن لابد للعقل أن يتناول هذا المذهب بالتهذيب والتعديل حتى يتخلص مما يشوبه من تناقض.
نهض اكزنوفنس بشيء من هذا التهذيب المنشور، فليس واحد الفيثاغوريين عنده واحد حسابيا، بل هو الكون بأسرة هو الله الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وهو يصلك عن طريق الحواس، فلا تراه عيناك، ولا تسمعه أذناك، إنما هو حقيقة مجردة تصل إليك عن طريق الفكر المحض.
ثم تبعة بارمنيدس فسار في طريق سلفة اكزنوفنس، وجاوز حده، فلم يكتف بأن يكون الواحد المجرد - أي الله - مصدراً لجميع الكائنات، بل لم يعترف لهذه الكائنات نفسها بوجود الموجود، في الوجود شيء. واحد: هو الله، فليس ثمت مصدر وصادر، ليس ثمت خالق ومخلوق، إنما الجميع الشيء واحد، هو الله هذا الكائن المطلق، هو وحدة الحقيقة ولا حقيقة سواه، فكل ما ليس إلهاً لا حقيقة له في الوجود. وبديهي أنه لا يتعدد ولا تحده حدود من مكان، ولا يمكن أن يكون خارج نطاق عقل مفكر بحيث يتخذ من هذا الكائن موضوعا للتفكير. ومعنى هذا أنه ينكر على الإنسان أن يضن نفسه حقيقة موجودة مفكرة، كلا بل هناك شيء واحد يفكر ويكون موضوعا للتفكير في وقت معا. فهو لا نهائي، ولهذا لا يجوز عقلا أن يكون هناك من الفراغ ما يشاغله شيء آخر أو إله آخر. وهكذا كانت فلسفة بارمنيس هذه ضربة قاتلة قضت على الآلهة المتعددة التي كان يعبدها معاصروه.
لا حقيقة إذن لهذه الأشياء المتباينة التي يخيل إلينا إنها تملأ الكون، ليس ثمت إنسان ولا حيوان ولا نبات ولا أرض ولاسيما، كل هذه أوهام خلقتها الحواس خلقا من عدم، وأنشأتها إنشاء. باطلا لا يرتكز على صورة خارجية، وهو لا يعلل لنا هذا الخداع الحسي الذي يصيب أفراد البشر جميعاً، ولكنه يأسف لهذا النقص الذي يصور لنا الباطل حقا.
وقد أيد هذا المذهب بعد بارمنيدس فيلسوفان، لم ينتجا جديدا، ولكنهما اكتفيا بالدفاع والتأييد، وهما مليسس، وزبنو، ولكن العقل الذي لا يقنع بقليل ولا كثير، أبي هذه المرة أيضا أن يستكين لهذا الرأي زمنا طويلا، إذ بدا له في منطقة الضعف والتناقص.
لقد علمت الآن أن الفلسفة قد اعترفت بوجود واحد، وكل ما عداه وهم وباطل اختلقته الحواس اختلقا. وليت الدفعة قد وقفت عند هذا الحد، بل جاء هرقليطس، فسار في هذا الاتجاه شوطا بعيدا، فأنكر وجود حتى هذا الموجود الواحد! وله في هذا الإنكار منطق، إلا يكن مقنعا، فهو لا يخلو من ظرف كثير قال إن هذا الكون وما يشتمل عليه من كائنات، في حركة متصلة دائمية، لاتنقطع ولا يصيبها الجمود لحظة واحدة، هو كسيل يهوي من قمة الجبل إلى هاوية السفح، كله تغير وحركة وانتقال، فكلما فتحت ناظريك على هذا المجرى رأيت صورة لم تراها من قبل ولن تراها بعد، لان الماء لا ينتظرك حتى ترسل إليه البصر مرة ثانية، وإذن ففي كل لحظة ينشأ مجرى جديد. ولعلك تدرك خطورة هذا الرأي، فلو صح لذهب علمي وعلمك هباء منثورا. إن كل ما نعلم خيال منحول ووهم ملفق، لأنه إذا كان العالم الخارجي لا يستقر على حال ثابتة، فكيف تصدر على شيء منه حكما من الأحكام، انك أن علمت شيئا عن الكون فما إلا في لحظة بعينها، ولا يجوز أن يكون ذلك العلم صحيحا على الكون في كل آن. فان الكون سينقلب كونا آخر قبل أن ينطق لسانك بالحكم، كلا، بل قبل أن تدور في رأسك الخلجة الفكرية. انك ترى ملايين الأكوان المتعاقبة، كون يجيء في أثر كون، وإذن فمن الشطط أن تقرر حكما عن شيء من الأشياء لأنه لا يستقر على صفة ولا ولا يبقى على حال. الأمر في ذلك كفلم سينمائي تمر صورة مرا سريعا متداركا، فلا تلبث أن تقول إني أرى الآن صورة كذا حتى تفر مسرعة لتخلي المكان لما بعدها، وإذن فليس في الوجود ثابت كما يزعم الفلاسفة من قبل
هنا نشأت طائفة جديدة - أعني جماعة الذريين - وجاهروا برأي جديد يلائم هذا الموقف الذي خلفة هرقليطس، هم يقررون معه أنه ليس هناك موجود ثابت إذا نظرنا إلى الكون من وجهة الشكل والصورة، ولكن الثبات والخلود في كمية المادة التي يغص بها الكون، فثمت عدد لا يحده الحصر من العوالم، تتكون جميعها من ذرات متشابهة، ولكنها تكون بعد تركيبها كائنات متباينة، كما تتألف الكتب المختلفة من حروف هجائية بعينها، ومع ذلك فليس هي بالمتشابهة. هذه الذرات لا تفتأ تجتمع فتكون هذا الجسم أو ذلك، ثم تنحل وتالف في أسلوب جديد فتحدث كائنا جديداً على هذا الأساس يمكنك أن تدرك معنى التغير والحدوث في الصورة والثبات والخلود في المادة. وبناء على هذا يكون كل شيء في الوجود مؤلفا من ذرات مادية، حتى الروح الذي يدب في الأحياء. فهو عندهم مكون من ذريات دقيقة غاية الدقة، مستديرة أو قريبة من المستديرة. وليست عملية التنفس إلا اكتساب لذرات جديدة من نوعها تسبح في الفضاء. ولما كانت هذه الذرات مبثوثة في أنحاء الكون، فليس من شك في أن الحياة تدب في الكائنات جميعا
بدأت الفلسفة إذن بالبحث عن المادة الأولى التي تتألف منها الأشياء جميعاً، ثم أدركت أن للوجود جوهراً وراء المادة، فالتمسه الفيثاغوريون في الواحد الحسابي، ثم التمس من جاء بعد الفيثاغوريون من فلاسفة آيونياً (جنوبي إيطاليا) في الإله الذي خلق الكائنات، ثم أنكرت الكائنات وبقى الله وحده موجوداً لاوجود لسواه، ثم حام الشك حول ثبات الكون على صورة واحدة، وأخيراً قرر الذريون أن الكون متغير في صورته، خالد في مادته. . . .
تطور سريع في الفكر كما ترى، اسلم العقل إلى حال من الارتياب والشك، ارجوا أن أحدثك عنها في فصل تال.
زكي نجيب محمود