الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 41/بديع الزمان الهمذاني

مجلة الرسالة/العدد 41/بديع الزمان الهمذاني

بتاريخ: 16 - 04 - 1934


للدكتور عبد الوهاب عزام

رحيله عن نيسابور

فارق بديع الزمان نيسابور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. نعرف هذا من قوله وهو يمدح خلف بن احمد أن سنه خمس وعشرون سنة. وهو مولود سنة ثمان وخمسين. ثم هو يكتب من سرخس إلى الشيخ أبي الطيب سهل بن محمد فيذكر ان الخوارزمي كتب إلى الأمير يسأله ألا يقبله في حضرته ويذم الخوارزمي ويرد عليه دعواه الغلب في مناظرته، ويهدده بالعودة إلى مساجلته. والخوارزمي مات في رمضان سنة ثلاث وثمانين

ويفهم من هذه الرسالة انه ذهب إلى مرو كذلك، يقول عن الخوارزمي، ان اللسان الذي اخرس لسانه، والبنان الذي انبس بيانه، لم تكسبهما مرد مجادة، ولا كستهما سرخس بلاده. وهما معي لم يفارقاني:

ولم يسم الأمير الذي نزل بحضرته في سرخس، والظاهر انه أحد أمراء السامانية. وقد اكرم الأمير مثواه كما قال في آخر الرسالة نفسها عن الخوارزمي: (وإما مسألة الأمير ألا يخرطني في سلكه ولا يمكنني من بساط ملكه فقد شملتني على رغمه أطراف النعم، وبلتني سحائب الهمم، وللراغم التراب، وللحاسد الحائط والباب) وفي سنة ثلاثة وثمانين مات الخوارزمي! يقول الثعالبي (وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا الجو للهمذاني، وتصرفت به أحوال جميلة، وأسفار كثيرة)

وفي رسائل بديع الزمان رسالة كتبها إلى من هنأه بمرض الخوارزمي يقول فيها: (فكيف يشمت بالمحنة من لا يامنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن افلت، فليس يفوت) وفي ديوانه قصيدة يرثى بها الخوارزمي ويرد على من قال: (قد خلا الجو للهمذاني) يقول فيها:

حنانيك من نفس خافت ... ولبيك من كمد ثابت

أبا بكر اسمع. وقل كيف ذا ... ولست بمسمعة الطائت؟

تحملت فيك من الحزن ما ... تحمله ابنك من صامت

حلفت لقدمت عن معشر ... غبيين عن خطر المائت يقولون أنت به شامت ... فقلت الثرى بفم الشامت

وعزت علي معاداته ... ولا متدارك للفائت

وقال الأنام خلا الجو لي ... لعمري ولكن على عانت

ابيض ولكن إلى عاقر ... واصفر ولكن على ساكت

اكثر البديع أسفاره بعد مفارقة نيسابور. يقول الثعالبي:

(ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى وجبى ثمرتها، واستفاء خيرها وميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا استمطر منه بنوء، وسرى معه في ضوء، ففاز برغائب النعم، وحصل على غرائب القسم) ويقول الهمذاني في رسالته إلى القاسم الكرجي: (فإني وإن كنت في مقتبل السن والعمر، قد حلبت شطري الدهر، وركبت ظهري البر والبحر، ولقيت وفدى الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر)

وفي رسالة أخرى: (وإني أيد الله القاضي، على قرب العهد بالمهن قطعت عرض الأرض وعاشرت أجناس الناس.) وليس يمكن بما عندنا من الرسائل غير المرتبة أن نتتبع أسفاره في خراسان وسجستان وغزنة، ولكننا نعرف انه فارق خراسان لما وقع بها من الحروب، والظاهر إنها الحروب التي وقعت في أواخر الدولة السامانية، ونعرف إن الأتراك قطعوا الطريق عليه وهو ميمم سجستان كما قطع الأعراب طريقه وهو قاصد نيسابور من جرجان: (ولما وقع بخراسان ما وقع من حرب، وجرى ما جرى من خطب، واضطربت الامور، واختلفت السيوف، والتقت الجموع وظفر من ظفر، وخسر من خسر، كتبني الله في الأعلين مقاما، ثم ألهمني من الامتداد عن تلك البلاد، والإقلاع عن تلك البقاع. واعترضتنا في الطريق الأتراك. واحسن الله الدفاع عن خير الأعلاق وهو الرأس، بما دون الأعراض وهو اللباس. فلم نجزع لمرض الحال مع سلامة النفوس، ولم نحزن لذهاب المال مع بقاء الرؤوس. وسرنا حتى وردنا عرصة العدل، وساحة الفضل، ومربع الحمد، ومشرع المجد، ومطلع الجود، ومنزع الاصل، ومشعر الدين، ومفرع الشكر، ومصرع الفقر، حضرة الملك العادل أبي احمد خلف بن احمد الخ) هذا هو الذي مدحه في ست من مقاماته، وبعض رسائله مدحا لم يبذل لغيره مثله، ولكن بديع الزمان لم يعفه العتب الموجع حين آنس منه الإغضاء عنه.

ثم ذهب الهمذاني إلى غزنة حاضرة الدولة الغزنوية ومدح السلطان محموداً بأبيات. ولا نجد في رسائله تفصيل مقامه في غزنة ولقائه السلطان. ولكننا نجد له رسائل كثيرة إلى الفضل بن احمد الاسفرائيني وزير السلطان يذكر بعض خطوب هذه الدولة، ويهنئ ببعض فتوحاتها. والأبيات التي مدح بها السلطان مثبتة في الديوان، وفي اليتيمة وأولها:

تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني

أأفريدون في التاج (م) ... أم الاسكندر الثاني؟

أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان

أظلت شمس محمود ... على انجم سامان

في هراة

ثم سار إلى هراة ليرحل عنها كما رحل عن غيرها، ولكن كتبت له الإقامة بها حتى الممات. يقول في رسالته إلى الشيخ أبي نصر انه سار من سجستان إلى بوشنج، وانه لما سكنت الحرب وانفتحت السبل إستأذن الأمير في المسير إلى هراة. ويقول في رسالة أخرى (ويا سبحان الله ما علمت إن هراة تنسيني صرصر والصرات، حتىانستني دجلة والفرات، على ظهر الغيب نظر الريب. فكيف بنا إذا دخلناها وحللناها فسقاها الله من بلد، وأهلها من عدد.) وذلك إن بعض الهرويين أرسل إليه مرحبا قبل دخوله المدينة، ويظهر من رسائله انه لم يغتبط بالإقامة في هراة أول عهده بها، ولا أزمع المقام فيها، يقول في رسالته إلى الشيخ أبي النصر (كتابي أطال الله بقاء الشيخ، والماء إذا طال مكثه، اظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه).

كذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذ طال ثواؤه، ويثقل ظله، إذا انتهى محله. قد حلبت اشطر خمسة اشهر بهراة ولم تكن دار مثلى لولا مقامه. ونجده: في رسالة أخرى يشكو حيفا أصابه في هراة.

(والله، أطال الله بقاء الشيخ الرئيس، ما سكنت هراة اضطرارا، ولا فارقت غيرها فرارا. وإنما اخترتها قطنا ودارا، واخترته سكنا وجارا، لتكون ارفق لي من سواها، ولأزداد به عزا وجاها. فان كان قد ثقل مقامي، فالدنيا أمامي، وان كان قد طال ثوائي، فالانصراف ورائي. لست والله ذباب الخوان ولا وتد الهوان. والشام لي شام، مادام يكرهني هشام، وهراة لي دار، ما عرف لي فيها مقدار، وقرى الضيف غير السوط والسيف الخ) فهذا يدل على انه غير مطمئن إلى هراة وإن أختارها سكنا. ونجده في الديوان يقول من قصيدة مدح فيها ابن عدنان رئيس هراة.

قد طال مكثي في هراة فهل لكم ... في أن أوليكم قفا الأعراض

ولو أنني ماء الحياة لملني ... ورداه وتنكبوا أحواضي

أحسنتم يا للكرام ضيافتي ... عند الورود فاحسنوا إنهاضي

ولكن بديع الزمان، على هذا ألقى عصا التسيار في هراة واتخذها موطنا وأمضى بها بقية عمره. فما الذي بدّل رأيه وحبب إليه المدينة؟ يقول الثعالبي: (ومازال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر القديم والحديث حتى وفق التوفيق كله وخار الله له في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد الخشنامي. وهو الفاضل الكريم الأصيل الذي لا يزاد اختبارا إلا زيد اختيارا. فانتضمت أحوال أبي الفضل بصهره، وتعرفت القرة في عينه والقوة في ظهره. واقتنى بمعونته ومشورته ضياعا فاخرة، وعاش عيشة راضية.

وفي رسائل الهمداني تصديق خبر الثعالبي، فهو يقول في إحدى رسائله من هراة (والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفلة كفرخ يومين، قد حببت إلى العيش، وسلبت عن رأسي الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام (ص162) وهو يتكلم في رسائل هراة عن الزرع والاكرة والخراج وديونه على الناس والسفاتج (والشأن أن أعيشعيش الجعل، بين السرقين والعمل، وأنا على ذلك محسود. . . أرأيت رجلا يندم أن ولده آدم، أو يألم أن يسعه العالم، يحسد في قرية يشتريها وفي رسالة إلى بعض وزراء السلطان محمود: ومما أبث الشيخ الجليل، إن مبلغ خراجي بهراة ألفان. وعلى المخف من الجريان ثلاثة مدورة، بيض مقشرة، وعلى المثقل تسعة وعشرة. وودت لو أمكن التبلغ بأقل من هذا فافعل ولكن أفواها فاغرة، وأضراسا طاحنة، وعيالا وأذيالا، الله وكيلهم وأنا ربهم واكيلهم. وإن أمكن تحويل هذا المقدار من الخراج ببوشنج لتتوفر حقوق بيت المال، وأصان عن مجازفات العمال، وتبعات الحال، فتلك غاية الآمال وفي رسالة إلى والده: وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج، وان يرتب له عمارة شتوية تسعه والشيخ الفاضل العم، فليتفضلا وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين فما يعجبني لقاء ليس له بقاء، ولا وصل بعده فراق، فان لم يمكن استصحاب القوم فلا يتأخر بنفسه، فسيرد على خمسمائة نير وألف أكار، وأحوال منتظمة، وأسباب مستقيمة).

ومن اجل هذه الثروة قصده الناس واستماحوه. وفي رسائله واحدة كتبها إلى مستميح عاوده مرارا: عافاك الله: مثل الإنسان في الإحسان مثل الأشجار في الأثمار. سبيل من أتى بالحسنة أن يرفه إلى السنة. وأنا كما ذكرت لا املك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي. أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود. ولكن هذا الخلق النفيس، لا يسعه الكيس، الخ.

وفاة بديع الزمان

كان الهمداني يتعجل العمر ويستكثر السنين فهو يتكلم عن الشيب في مدحه خلف ابن احمد وهو في سن الخامسة والعشرين

ويرحب بالشيب ويفضله على الشباب وهو في سن الثلاثين: فجزى الله الشيبة خيراً، إنها لاناة، ولا رد الشبيبة إنها لهناة وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه، وبئس المثل النار والعار وونعم الرائضان الليل والنهار. وأظن الشباب والشيب لو مثلا لكان الأول كلبا عقورا، والأخر شيخا وقورا، ولأشتعل الأول نارا وانتشر الآخر نوراً. والحمد لله الذي بيض القار وسماه الوقار. وعسى الله ان يغسل الفؤاد كما غسل السواد. أن السعيد من شابت جملته، والشقي من خضبت لحيته) وفي رسالة أخرى: وأسال الله خاتمة خير وعاجل وفاة. إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها.) فهذا ينم عن طبع مكتئب وصدر يضيق بالحياة وكأن وفاته في سن الأربعين كان استجابة العمر لهذه السجايا.

في رسائله رسالتان يذكر فيهما مرضه، يقول في إحداهما (وقد عملت في أمر الدواء ما أشرحه له شفاها. وجملة الأمر أني أؤمل النفع في تناوله، وحالي الآن صالحة) ويقول في الأخرى (ولكني وقيذ أوجاع، أنتقل من حمى إلى صداع. وأخشى أن يأخذ مني لفح الهواء مأخذه، فلذلك لا ابرز عن البيت، وأنا فيه حي كميت. وعلى كل حال فإذا خفت وطأة الهواء، وحان وقت المساء، لعبت لعباتي إلى حضرته، متزوداً من طلعته إن شاء الله تعالى) وما أدري متى أصابه هذا المرض وهل كان مرضه الأخير أو غيره.

ويقول الثعالبي (وحين بلغ أشده وأربى على الأربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.) ويقول جامع الرسائل في عنوان رسالة (وله في تهنئة فتح الجابية بباب بلخ. وهذا آخر كتاب أنشأه. ومات يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.)

يتبع

عبد الوهاب عزام