مجلة الرسالة/العدد 41/غلطة نحوية
→ بديع الزمان الهمذاني | مجلة الرسالة - العدد 41 غلطة نحوية [[مؤلف:|]] |
تعتزل الحب! ← |
بتاريخ: 16 - 04 - 1934 |
للآنسة سهير القلماوي
لا تستغربوا هذا العنوان، وأستحلفكم أن لا تستتفهوه، فسترون بعد حين أن للغلطات النحوية شأناً وأي شأن. ستدركون عظمة الغلطة النحوية وخطورتها، ولن يكلفكم هذا الإدراك ما كلفني. ستقرءون المقال وستؤمنون بعده إن للغلطة النحوية الواحدة قدراً، وأنه لقدر لو تعلمون عظيم
ما كادت تنتهي من محاضرتها حتى عادت إلى أستاذها تستطلع رأيه، وتحاول أن تلمح في تقاطيع وجهه قيمة جهدها الذي بذلته. لقد كانت تحسب حساباً كبيراً لنقده، وخاصة لابتسامته الساخرة التي يلاقي بها جهداً بذل في غير موضعه واستنتاجاً سخيفاً متكلفاً بعيداً عن الصواب، وعن طبيعة الأشياءكما يقول. وما وصلت حتى بادرها بقوله: أهنئك، قالت أشكرك، قال أريد مقابلتك، قالت ومتى تشاء؟ قال أأنت قادمةً لعمل في دار الكوكب غداً؟ قالت لا. قال إذا قابليني بعد غد فسأكون هناك، قالت حسن، إلى بعد غد
وجلست تفكر بعدها ماذا يريد منها يا ترى؟ لم يدعها في حياتها قط إلا لعمل ذي شأن، أو لمسألة ذات خطر. ثم هو يتعجل تلك المقابلة، ما سر هذه العجلة؟ أكانت المحاضرة سخيفة إلى هذا الحد؟ ولم هنأها إذا؟ ولم تره في ظرف من ظروف حياته يقول غير ما يعني، أكان هازئاً؟ ولكنها لم تلمح منه إلا الجد ليلتها، ثم هي توقن إنه لن يستهزئ بها مهما يكن، في مكان وفي ظرف كهذين، وأخيراً هي تحس في شيء من الإخلاص أن المحاضرة كلفتها جهداً، وإنها وإن لم تكن خالية من المآخذ، إلا إنها بكل تأكيد لا تستحق إستهزاءاً علنياً ومقابلة مستعجلة. وأحس قلبها إن الأمر أهون مما تظن، ولكن متى خضع العقل للقلب؟ لقد ظل العقل في عمله يقدر ويحسب، يستبعد ويستقرب، يرجح وينفي، كل هذا وهو متعب مكدود، فأفسد عليها يوماً كانت أعدته لراحته الكاملة.
ظلت يوماً وبعض يوم تفكر، وتقلب الاحتمالات التي أمكن أن يخترعها عقلها في مثل هذا الظرف، وبدأت تحس إن تفكيرها في الموضوع أصبح آلياُ دائرياً، يبدأ ليعيد، ثم يبدأ من جديد وهكذا، وانتهت أخيراً بإبعاد كل احتمال أن تكون المقابلة خاصة بالمحاضرة، فلو كان ثمت متعجل في شأنها لقاله لها يومها، وإلا لأنتظر فرصة أخرى فهي لا تتغيب عنه كثيراً وما جاء صباح الأحد حتى استعدت للذهاب إلى المقابلة، وما كانت تستعد حتى سألها والدها ان تصحبه في نزهه كان يسرها جداً أن تصحبه فيها، ولكنها اعتذرت بضرورة ذهابها لمقابلةأستاذها، وسألها هل ستبطئين عنده، فتكلفت شيئا من عدم الاكتراث تخدع به نفسها، وقالت لا أدري، لأني لا أعرف لماذا يريد مقابلتي. ولكن نفسها لم تنخدع بهذا المظهر المتكلف وبدأ عقلها سيرته الآلية من جديد، وسخطت على نفسها، ما الذي يثير حب استطلاعها إلى هذا الحد؟ وفي استهزاء مؤلم اكمل صوت في قلبها و (خاصة إذا كان الأمر أهون مما تتوهمين) فثار عقلها واسترد سيرته الإلية في حمية جديدة.
وجاءتها ابنة خالتها تعرض عليها الذهاب إلى أختها لترى هناك صديقة عزيزة عليها، وكانت تود رؤية هذه الصديقة فهي لم ترها منذ سنين، ولعلها لا تراها سنين أخرى، ولكنها اعتذرت ثانية، فسألتها ابنة خالتها: ولكن ألا تعرفين لأي شئ يريدك، وكأنها أحست تطفلاً فأكملت حتى تستطيعي أن تلحقي بي هناك إذا كان الأمر لا يستغرق طويلاً. قالت بعدم اكتراث، لست أدري ماذا يريد، فلا أستطيع أن أعدك باللحاق بك. وبدأ عقلها سيرته من جديد، وبدأت نفسها تضحك منها وتعيد (الأمر أهون مما تتوهمين).
وأخيراً وصلت دار (الكوكب) وصعدت الدرج في اتزان عجيب تحاول أن تؤخر المعاد ما استطاعت حتى لا يستشف أستاذها عجلتها وحب استطلاعها. ودخلت حجرته فحيته وحياها، ثم جلست تنتظر. وتكلم في مواضيع مختلفة، وهي تحاول في جهد أن تتبع كلامه وأن تخفي عجلتها واشتياقها لمعرفة ما جاءت من أجله وجاء ذكر المحاضرة فأثنى عليها، ثم قال: ولكني اترك ما بها لغيري من أساتذتك، لأن لي معك الآن أمراً من أخطر الأمور. وخفق قلبها ولم تستطع حفظ مظهر الاتزان الذي تكلفته منذ الصباح، ودون أن تدري قالت في لهفة ظاهرة وما هو!؟ قال يا فريد آتني بعدد الرسالة الماضي.
فأرتفع الصوت الهازئ في نفسها يضحك ويقول (الأمر أهون مما تتوهمين) قال غلطة تكبرك بكثيرما قرأتها حتى كلمت الأستاذ الزيات بشأنها تلفونيا.
وارتفع صوت العقل وقال ألم اقل لك إن الأمر خطير ولكن العقل ما كاد يزهى حتى قال أستاذها متابعا كلامه - غلطة نحوية كبيرة. إما أنتقلعي عنها، وإما أن تطلعي على الناس بمذهب جديد هو عدم التفريق في الجمع السالم بين مذكر ومؤنث، ومن يدري قد تجدين من يؤيدك. . . . . . . واستمر في كلامه
(غلطة نحوية) كانت كلوح ثلج نزل على رأسها الملتهب يوما وبعض يوم. وكأنه لمح شيئا من غيظ تخفيه بسكوتها بعد أن لم تجد آمن منه ستاراً. فقال: ألا تستحق هذه الغلطة انتقالك من العباسية إلى عابدين؟
وهمت أن تقول له إن هذا الانتقال ايسر ما كلفتها تلك الغلطة، ولكنه اسمر يحاول إغاظتها:
دوني في مذكرتك ان أستاذك استدعاك من العباسية إلى العابدين من اجل غلطة نحوية. وضحك في سخرية مثيرة للغيظ، فقالت محاولة إخفاء غيظها - سادون!
أستاذي: - غلطة نحوية كلفتني هذا. فليت شعري ماذا سيكلفني هذا المقال؟ ولكني أؤكد لك لا في تملق كما تقتضيه حال الخائفة من عقابك، وإنما أؤكد في صدق وإخلاص أن لولا يقيني برحب صدرك ما خططت حرفا في هذا المقال.
سهير القلماوي