الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 41/الأدب العربي والأدب الغربي

مجلة الرسالة/العدد 41/الأدب العربي والأدب الغربي

بتاريخ: 16 - 04 - 1934


على ذكر رواية خسرو وشيرين

لا ريب إن الأدب العربي مقصر دون الأدب الغربي في كثير من

النواحي. برغم ماله من الميزات الخاصة وبرغم عراقته وحداثة الأدب

الغربي بالنسبة إليه. فقد سار الأدب الغربي بخطى واسعة وتطور في

عصوره. على حين سار الأدب العربي دائماً على نمط يكاد يكون

واحداً. وكبا بعد العصر العباسي الزاهي كبوة لم يقل منها إلا اليوم.

وكان من عهدها إلى العصر الحديث في حكم العدم إذا قيس بآداب

الأمم الرفيعة.

ولا ريب إن الأدب العربي يكسب كثيرا - وقد كسب بالفعل كثيرا - بلقاحه بالأدب الغربي، وهذا اللقاح يتأتى عن طرق ثلاثة:

الأول اطلاع أدباء العربية على الأدب الغربي. فان لذلك اكبر الأثر في نفوسهم وفي كتاباتهم وان لم يشعروا لم يتعمدوا إدخال ما قرءوا فيما يكتبون.

والثاني ترجمة الآثار الغربية المشهورة من نثر وشعر إلى لغة الضاد. فان ذلك يؤثر في أبناء العربية الذين لم يطلعوا على آداب غيرها تأثيرا يكاد يدنيهم ممن اطلعوا عليها.

والثالث إدخال الأشكال والمواضيع الشعرية الغربية في الأدب العربي إذا كانت غير موجودة فيه. فان ذلك يزيد اللغة ثروة وقوة، يقدر الأدب العربي على مجاراة آداب الغرب

والشعر العربي خاصة خلو من كثير من الأشكال والمواضيع التي يتناولها الشعر الغربي كالدراما والملحمة والشعر المرسل والقوافي المنوعة والأوزان المتداخلة في القصيدة الواحدة. فالشعر العربي فضلا عن كون مواضيعه محدودة قوامه الوحدة في الوزن والقافية، والأحكام في القواعد، والصنعة والرصانة في الأسلوب، وعلى المعنى ان يخضع لكل هذا فلا يخرج إلا مصقولا في قالبه. بينما الشعر الغربي اكثر مرونة واقل قواعد واسهل في يد الناظم واقدر على التحول والتنوع وزنا وقافية اتباعاً لمعاني القصيدة المتتابعة، ومن ثم استطاع الشاعر الغربي أن يودع شعره من دقيق المعاني وعميق الأفكار وخاصها وجزئيها ما يشق على الشاعر العربي الذي لا طاقة له بغير ذكر العام والكلى، فكلما جاد الشعر العربي راع أسلوبه وأحكمت ديباجته ورافقت موسيقاه، وكلما جاد الشعر الأوربي دقت معانيه ولطفت أخيلته وتجسم وصفه وتصويره وعبر عن الخوالج النفسية البعيدة الغور. وبالجملة كانت نتيجة الوحدة في العروض والقافية في الشعر العربي إن كان شعر أسلوب، ونتيجة التنوع والمرونة في عروض الشعر الغربي وقافيته إن كان شعر معنى.

وإذا كان شعراء العربية الأقدمون قد قنعوا بذلك الضرب المقيد الموحد من الشعر وأدوا به معانيهم وأغراضهم العامة، فلن يقنع به عصرنا، هذا إذا كنا نريد للشعر العربي مجاراة الشعر الأوربي، ونريد أن يؤدي من لطيف الأوصاف للمشاهد الطبيعية والحالات النفسية ما يؤديه ذلك الشعر، ولابد لنا - كما اقتبسنا من الغرب القصة القصيرة والطويلة والرواية التمثيلية والمقالة في عالم النثر - أن نقتبس في عالم الشعر الأوضاع والأشكال التي توسع أفق شعرنا العربي وتزيده قوة وخصبا

والواقع إن القافية الموحدة التي تنظم القصيدة من أولها إلى آخرها غير معروفة في الشعر الغربي، وقد قال ملتون في مقدمته لملحمته المشهورة (الفردوس المفقود) انه عول على نضمها شعرا مرسلا وعلى نبذ القافية نبذا تاما لأنها اثر من اثار الهمجية، وكثيرا ما عاقت الشعراء عن تسجيل سامي المعاني، وبرغم مغالاة ملتون في قوله هذا - إذ للقافية روعتها ولزومها في كثير من ضروب الشعر - فلا شك في إن القافية كثيراً ما تقف عقبة في سبيل نظم دقيق المعاني وجليلها

لابد من رياضة الوزن العربي والقافية العربية على المرونة والسهولة والتنوع في القصيدة الواحدة تبعا للمعاني، كي يساعدا الناظم البارع على بيان أغراضه، فلا يعتمد الاعتماد كله على المعاني والتشبيهات ونحوها، بل يعتمد أيضاً على جرس الألفاظ وموسيقى الوزن ووقع القوافي وتجاوبها واختلافها لإبراز أوصافه وإحياء صورته التي يريد في خلد القارئ، فقد برع الشعر الغربي في هذا الضرب من الملائمة بين المعنى واللفظ والوزن ولاسيما في أشعار الوصف فبذ بتصويره ريشات المصورين في كثير من الأحيان ولا بد من التخلي عن بعض القيود والقواعد وإدخال بعض السهولة والحرية واقتباس ما يمكن اقتباسه من الأوضاع والأشكال الشعرية الغربية على أننا يجب أن نذكر أولا ما سنقتبسه لن يلغي القافية الموحدة والوزن الموحد من العربية الغاء، بل تظل هذه الطريقة العربية الخاصة قائمة، لها ميزتها من الرصانة والفخامة، ولها مناسباتها التي تستعمل فيها فتؤدي غرضها أحسن الأداء، لن نهجر طريقتنا إلى طريقة غيرنا بل ناخذ مما عند غيرنا ما يزيد لغتنا وشعرنا سعة وثروة، ويجب أن نذكر ثانية إن الناظم الغربي إنما يستخدم تلك الحرية والمرونة في شعره ليؤدي بها أغراضا خاصة، تجسيم وصف، أو تمثيل حركة، أو تقليد صوت، أو اسلاس قصص، فيجب ألا نهجر القافية والوزن الموحدين إلا أن يؤدي تنويع الوزن والقافية مثل تلك الأغراض، وإلا كان الأمر مجرد تسهيل للنظم يغض من قيمة الشعر الفنية ويورث الناظم الكسل وقلة التعب في معالجة القصيد

واكبر اعتراض يقام أمام إدخال هذه الأساليب الشعرية الغربية نبوها على السمع الذي اعتاد الوحدة في الوزن والقافية العربيين. وهو اعتراض وجيه غاية الوجاهة: فان اقتباس تلك الأساليب إن أدى إلى فساد موسيقى الشعر العربي التي هو قوامه كان وبالا وكان علينا أن نقلع عنه مهما كان له من فوائد، ولكن هذه العقبة يمكن تذليلها بوسيلتين:

الأولى التدرج في التحرر من قيد الوزن والقافية تحررا يسير بطيئا مع الزمن ولا يفاجئ الآذان كبير مفاجأة، فان التطور دون الطفرة جدير بتعويد الآذن على اختلافات العروض والقوافي في القصيدة الواحدة، حتى تستطيب تلك الاختلافات وتلتذها وتصير لها فيها متعة كالمتعة التي نجدها في النظم الواحد، وقدما اخترعت الموشحات والأبيات المختلف شطراها طولا فكانت خرقا في الطريقة السائدة وكانت بلا ريب نابية على الأسماع في أول الأمر، ولكنها بمرور الزمن صارت مألوفة ولم يعد أحد من كبار الشعراء يتحرج من اللجوء إليها في بعض أغراضه.

والوسيلة الثانية هي أن يتصدى لإدخال هذه الأساليب في شعرنا العربي كبار الشعراء الذين عالجوا القريض سنين طوالا، مارسوا اللغة واستوعبوا ثروتها واستنبطوا أسرارها وحذقوا عروضها، فهم وحدهم بخبرتهم ودربتهم وتمكنهم قادرون على أن يدخلوا في اللغة ما يلائمها وينبذوا ماعداه، ويصقلوا ما يدخلون بصقا لها حتى يصير جزء منها ويثبت فيها وينمو ويثمر، أما أن يتصدى لذلك الناشئون المتحمسون للتجديد على غير بصيرة فلن يأتوا إلا بكل غث لا يؤدي أغراض الشعر الغربي ولا يبقى على جمال الشعر العربي ولا يكتب له بقاء.

والقافية اشد من الوزن قبولاً للتلقيح بالأساليب الغربية، والشعر المرسل خاصة يكون ذا مستقبل باهر في العربية إذا عالجته الأيدي القديرة، وقد مارسه الأستاذ فريد أبو حديد غير مرة ونجح فيه نجاحا غير قليل، ونشر في الرسالة ترجمة لفقرات من (عطيل) امتازت بالسلاسة ولم ينقص من قدرها في نظري سوى إن الأستاذ أختار لها بحر الرمل، وليس هذا ولا الخفيف المنظومة فيه رواية خسرو وشيرين بأليق البحور لبدء معالجة الشعر المرسل. بل اكثر البحور العربية استعدادا لذلك البحر الطويل الذي هو بطوله وفخامة موسيقاه واتادها اقدر على الاستغناء عن القافية وأحق بان يترجم إليه الشعر المرسل الغربي المعروف (بالبلانك فيرس) وان يحل عندنا محل ذلك الضرب الذي يختص عند الغربيين بشعر الدرامات والملاحم، ولا ريب ان ترجمة روايات شكسبيروأمثالها إليه أولى من ترجمتها نثرا.

ولقد كان شوقي في أواخر أيامه اقدر الناس على ولوج هذه الأبواب لو أراد، لولا شديد اعتداده بالوزن والقافية الموحدين، فانه كان قد مارس قرض الشعر نحو نصف قرن حتى حذق صناعته، وكانت له موهبة في الأسلوب عالية، فبلغ في النهاية غاية الجزالة والسلاسة، وكان له من الوقت متسع للتجريب والمحاولة، ولو عمل على إخصاب اللغة ببدء هذه الأساليب الغربية فيها لخدمها خدمة اجل كثيرا من خدمته أياها بمعالجة النظم التمثيلي في أخريات أيامه، ورواياته التمثيلية ذاتها شاهدة بذلك: فان ميزتها الكبرى والوحيدة براعة الديباجة، أما إذا قيست بمقياس التأليف التمثيلي وقوبلت بالمؤلفات الغربية التي كان يقلدها ويترسمها فلن تكون شيئا مذكورا

على انه إذا كانت العربية قد فقدت شوقيا وحافظا الذين عالجاها حقبة وتمكنا منها، فما يزال لها من كبار الشعراء المجربين من هم قادرين على توسيع افقها ومضاعفة ثروتها بطرق هذا الباب من الاقتباس والابتكار، فلعلهم يتقدمون، ولعل مجهودات الأستاذ فريد أبي حديد تكون الخطوة الأولى في هذا السبيل.

فخري أبو سعود