مجلة الرسالة/العدد 41/الألوان والصور في شعر ابن الرومي
→ مهجور اللغة | مجلة الرسالة - العدد 41 الألوان والصور في شعر ابن الرومي [[مؤلف:|]] |
الأدب العربي والأدب الغربي ← |
بتاريخ: 16 - 04 - 1934 |
الشعر تمثيل وتصوير، قبل أن يكون لفظا منمقا وكلاما مزوقاً، وكما تعجبنا دقة الراسم حينما يبرز الأضواء والظلال، والألوان والشكول، لصورة من الصور، فكذلك تعجبنا يقظة حواس الشاعر حين يصور لنا في منظومه وأبياته ما يرسمه الراسم بريشته وألوانه وحين يبدي لنا الشاعر حور العيون، وسحر الجفون، وحمرة الخدود، وبروز النهود، بتمثيل وتصوير لا بريشة وألوان، كلا الفنانين ممثل للحقيقة إلا أن الراسم يصوغها شكولاً وألوانا، والشاعر ينقلها شعورا ووجدانا
قد يجتمع - وهذا نادر - للراسم خيال الشاعر، وللشاعر دقة الراسم، فان كل شيء من ذلك فقد استوى كل منهما على عرش الفن - فأي الرجلين كان ابن الرومي؟
كان ابن الرمي رساما فنانا، ومصورا ماهرا، مرهف الحواس شديد التأثر بالطبيعة كأن أعصابه أسلاك كهرباء وعينيه عدسة الكامرا ينطبع عليها مختلف المناظر والصور. وكأن أذنه - ميكرفون - موكل بالتقاط دقيق الأصوات وجليلها. وكان ابن الرومي أيضا شاعرا مطبوعا واسع الخيال، خصب الشعور، مشبوب العاطفة. ولئن حق لأبي العلاء أن نسميه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. فمن حق ابن الرومي ان يكون شاعر المصورين ومصور الشعراء
لأن في شعره دقة المصور وتعدد الوانه، وروعة خيال الشاعر وسمو عواطفه. وهو حين يصف قينة شادية، يستهويك من شعره عاطفة مشبوبة وخيال خصب، ثم تصوير دقيق وإتقان للألوان الطبيعية.
وقينة إن منحت رؤيتها ... رضيت مسموعها ومنظرها
شمس من الحسن في معصفرة ... ضاهت بلون لها معصفرها
في وجنات تحمر من خجل ... كأن ورد الربيع حمرها
وللمشاهد الطبيعية الفاتنة، ومجالي الربيع الموقنة، لوحات ساحرة في شعر ابن الرومي ونحب أن نعرض عليك لوحة من هذه اللوحات لترى صدق قولنا. قال يصف روضة
وجادها من سحابة ديم ... ورد أنوارها وعصفرها
وساق من حولها جداولها ... فشق أنهارها وفجرها
فارتدت الماء من جوانبها ... فزانها ربنا ونضره أمامها بركة مرخمة ... ترضى إذ ما رأيت مرمرها
أعارها البحر من جداوله ... لجا غزير المياه أخضرها
أفلا ترى انك في كل بيت، حيال زهرة تقطفها، وريحانة تنشقها، وبركة إطارها من مرمر ومياهها أشبه بمياه بحر اخضر؟
ثم أن حاسة اللون عند ابن الرومي حاسة زاكية متوفرة: وهي في شعره بمنزلة علبة الألوان عند الرسام. لا تقوم صورة إلا بها، ولا تأخذ حظها من الحياة والحركة إلا بأصباغها. فحين يصف لك الكأس تترقرق فيها الخمر لا يشبهها بحصباء من الدر على ارض من الذهب، وإنما يوكل بها حاسة اللون الزاكية اليقظة فلا تكاد تعرض إلا للونها البراق وشعاعها الخفاق. وقد يكون حظ ابن الرومي من تألق الخمرة ولهيبها. اكبر من حظ أبي نؤاس من نشوتها ودبيبها
صفراء تنتحل الزجاجة لونها ... فتخال ذوب التبر حشو أديمها
لطفت فقد كادت تكون مشاعة ... في الجو مثل شعاعها ونسيمها
ولقد عرض قوس قزح لعيون الشعراء ما عرض، فلم نر شاعرا قبل ابن الرومي أو بعده استطاع أن يصور ألوانه الطبيعية في أبياته تصوير الرسام له في لوحته وألوانه. فأنت تحت سحاب مطرز بالألوان، مرصع الأردان ما دامت تقرأ له هذه الأبيات
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... من الجو دكنا والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأخضر ... على احمر في اصفر اثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض اقصر من بعض
واحب أن تلتفت إلى البيتين الأخيرين فان فيهما من جودة التصوير ومهارة تثبيت الألوان ما يعجز عنهما شاعر غيره.
وابن الرمي حين يصف القيان الشوادي والجواري الفواتن يدرن الكؤوس ويملكن النفوس، ويبرز لنا أعضائهن عضوا عضوا ويعرض علينا أجسامهن عرضا، حتى لا تفوتنا بضاضة الإهاب ولا شفافة الثياب
من جوار كأنهم حوار ... يتسلن من حياة عذاب
لابسات من الشفوف لبوسا ... كالهواء الرقيق أو كالسراب فترى الماء ثم والنار والآ ... ل بتلك الابشار والأسلاب
وكما كانت حاسة اللون اليقظة تصور اختلاف الوان الطبيعة وتباين شكولها فلا تفوتها خافقة أو بارقة. كذلك كانت أذنه السامعة المرهفة تلتقط أدق الأصوات وأخفى النغمات. وهو حين يصف لنا صوت المغنية وحيد، لا يصف غنائها فحسب، بل ينقل لنا بأذنه الحساسة رقيق نغماتها ولطيف نبراتها وعذوبة صوتها نقلا يشبه نقل الميكرفون.
مد في شأو صوتها نفس كا ... ف كأنفاس عاشقيها مديد
وارق الدلال والغنج منه ... وبراه الشجا فكاد يبيد!
فنراه يموت طورا ويحيى ... مستلذ بسيطه والنشيد
فيه وشيى وفيه حلى من النغ ... م مصوغٌ يختال فيه القصيد
ما هذا شعر! إن هو إلا حاك يحكى واسطوانة تغنى ولو أردنا أن نعرض عليك أشعاره في وصف الأقزام والمحدودين لحسبت نفسك أمام شريط سينمائي تطالعك فيه هذه الصور المضحكة. ولكن من الخير أن تكتفي بصورة واحدة من هذا الشريط وهي صورة الأحدب
قصرت أخادعه وطال قذاله ... فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة ... وأحس ثانية لها فتجمعا
فقد شخص لناظر القارئ وفي هذين البيتين صورة طبق الأصل للأحدب يعجز عن تصويرها امهر المصورين.
وجملة القول في شعره انه كان تعرض له الصورة أيا كان نوعها فلا يصورها بحاسة واحدة تنما يوكل بها حواسه كلها. فترسم عينه أشكالها وألوانها وأضوائها وظلالها ولمحاتها وخلجاتها، وتنظم أذنه صوتها وجرسها، وينقل الأنف عرفها وريحانها، واللمس وقعها وأثرها. أي أن جميع حواسه تنهض في تصوير هذه الصورة حتى تبرزها موفورة الحظ من الحياة، وفي هذه الأبيات يصف فيها شمس الأصيل وهي تجنح عن روضة، غنى عن الشرح
وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مزعزعا
ولاحظت النوار وهو مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض اضرعا
وقد ضربت في خضرة الروض صفرة ... من الشمس فاخضر اخضرارا مشعشعا وأذكى نسيم الروض ريعان ظله ... وغنى مغنى الطير فيه فسجعا
وغرد ربعي الذباب خلاله ... كما حثحث النشوان صنجا مشرعا
لئن حفل شعر أبي تمام والبحتري بالكنايات الظريفة والاستعارات الطريفة، فأبن الرومي في الشعر التصويري الملون نسيج وحده
حلب
كمال الحريري