الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 395/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 395/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 27 - 01 - 1941


للدكتور زكي مبارك

(أدباء مصر الجنوبية - العقاد الحقود! - أين متحف وزارة

المعارف؟ - جريمة الكتمان في نظر الجنية الحسناء).

أدباء مصر الجنوبية

مصر الجنوبية هي السودان، وهو تعبير جميل، ويزيده جمالاً أنه لم يصدر أول مرة إلا عن أدباء تلك البلاد.

والحق أننا فرطنا في حق السودان كل التفريط من الوجهة الأدبية، وإن لم نغفُل من الوجهة السياسية. ولو أننا بذلنا في خدمة السودان أدبياً معشار ما بذلنا في خدمته سياسياً لوصلنا إلى نتائج باهرة في توحيد القلوب بين من يقيمون هنا ومن يقيمون هناك، ولكننا تركنا أمر السودان للساسة، والساسة عندنا لا يفكرون كثيراً في الوسائل التي تجعل تعاطف سكان وادي النيل أمراً طبيعياً لا يحتاج إلى تعب أو نضال.

ومن العجيب أن يفكر السودان فينا قبل أن نفكر فيه، فهو يهتم بأخبارنا، ويساير حياتنا الأدبية والاجتماعية والسياسية، ويرى من الواجب أن يتعرف إلينا في كل وقت، فأين نحن من هذه الشمائل الروائع؟

أين الباحث الذي فكر في قضاء شهر أو شهرين في السودان لدرس ما هنالك من تطور الآداب والفنون والأذواق؟

أين الشاعر الذي رأى من واجبه نحو وطنه أن يستلهم الوحي من منابع النيل؟

أين المؤلف الذي خاطر بجزء من وقته وماله ليخرج كتاباً عن السودان، وهو اليوم في يقظة أدبية تستحق التسجيل؟ (مع عرفان الفضل للباحثين داود بركات وعبد الله حسين).

ولنفرض جدلاً أن السودان لا يرتبط بمصر من الوجهة القومية أو السياسية، فيكف يغيب عنا أن السودان قطر أصيل في العروبة، وأن أهله من النماذج الجميلة لأدب النفس وشرف الوجدان، ومَن كانوا كذلك فهم جديرون بعناية الباحثين والمفكرين من كتاب وشعراء!

الفطرة السليمة لا تزال من حظ أهل السودان. ولو أن معالي الدكتور هيكل باشا كان أقام بينهم مدة أطول من المدة التي أثمرت كتابه الطريف (عشرة أيام في السودان) لأظفر بمحصول نفيس في تقييد الأوابد من مكارم الأخلاق.

أقول هذا صادقاً، فما أذكر أبداً أنني رأيت ما أكره فيمن عرفت من السودانيين، فالسوداني مفطور على طيبة القلب، وهو يرى نكران الجميل من أفظع العيوب، وله بوارق من الذكاء تؤهله لاحتلال الصف الأول بين رجال الفكر إذا ظفر بالتوجيه الرشيد.

فمتى نعرف واجبنا نحو أدباء مصر الجنوبية؟

ومتى نفهم أن الأُخوة لها حقوق؟

أما بعد، فأنا أتأهب لكتابة سلسلة من المقالات عن الأدب الحديث في السودان، ولكن المصادر بعيدة مني، إلا شذرات قليلة قدمها إليَّ أحد أعضاء النادي السوداني بالقاهرة، وهي شذرات لا تحقق ما أريد، فماذا أصنع؟

كنت أتمنى أن تتاح فرصة لزيارة السودان والوقوف على أخبار الحياة الأدبية هناك لأحدث قراء (الرسالة) في جميع الأقطار العربية عن إخوان مجهولين حفظوا عهد العروبة والإسلام في بلد جميل، يغفُل عن جماله أكثر العرب والمسلمين.

كنت أتمنى أن أرى السودان، ولو في وقدة الصيف، لأقول لإخواني هناك: إن مصر لا تنساكم، ولن تنساكم، ولو ضُرب بينها وبينكم ألف حجاب.

فمتى أرى السودان؟ متى؟ متى؟

سأسارع فأراه في وجوه شعرائه وكتابه وخطبائه في حدود ما أصل إليه من آثارهم الأدبية، إلى أن يمنّ الله بزيارة أشرب فيها ماء النيل ممزوجاً بالطين، كما شربت ماء الفرات ممزوجاً بالطين، لأقول: إني ذقت رحيق النيل كما ذقت رحيق الفرات. متى أشرب أول كوب من النيل وأنا بنادي المعلمين في الخرطوم، كما شربت كوب من دجلة وأنا بنادي المعلمين في بغداد؟

لن أنسى أبداً كيف ذقت ماء دجلة أول مرة، ولن أنسى أبداً كيف رحلت إلى (الفلوجة) لأذوق ماء الفرات في طعمه الأصيل قبل أن ترفع عنه الأقذاء.

اللقاء قريب، يا أخواني في السودان، فسأتحدث عن أدبكم بعد أسابيع، على شرط أن تذكروا أن الخطأ يغلب في الحكم على المجهول، وقد قضت الأقدار بأن تكون أحكامي على أدبكم منقولة عن السماع، وهو يخطئ أكثر مما يصيب.

أما وفاؤكم لمصر، فلن يجزيكم عنه قلمي، وإنما يجزيكم عنه من شاءت إرادته العالية أن تكونوا مضرب الأمثال في الصدق والمروءة والإخلاص.

العقاد الحقود

في صبيحة اليوم الذي ظهر فيه مقالي عن نقد كتاب (المطالعات في الأدب والحياة)، طلبني الأستاذ عباس العقاد بالتليفون وأنبأني أن صدره انشرح لذلك المقال، وأنه موافق على ما ورد فيه من الملاحظات، إلا عبارة واحدة آذته أشد الإيذاء وهي العبارة التي تسجل أنه رجل (حقود)؛ فأجبته بأني نظرت إلى الحقد من بعض جوانبه الأخلاقية؛ ثم وجهته توجيهاً يرتضيه رجال الأخلاق، وأضفت نفسي إلى جملة الحاقدين لنكون سواءً! في التخلق بهذا الخلق الجميل! مع الاعتذار لحضرة الأستاذ نجيب هاشم الذي ساءه أن يكون لي بين أهل الحقد مكان.

وهل ينكر العقاد أنه رجل حقود؟

إليكم القصة الآتية:

في مصر شاعر (مشهور) هو الدكتور أحمد عارف الوديني المقيم بشارع العَجم في مصر الجديدة، وهو شاعرٌ قَصَر شعره على الإخوانيات، فلا يقرض الشعر إلا في تحية صديق، أو تهنئة زميل، وقد تسمو به همته إلى مجاملة الأمراء والملوك في المواسم والأعياد.

لقيته مرة في (المترو) بصحبة الأستاذ العقاد، فسألني عن الرأي في شعره، فقلت: أنت يا دكتور وديني أشعر رجل في مصر بعد الأستاذ الجارم! فظهرت عليه إمارات الاكتئاب، ولكن الأستاذ العقاد تلطف فصرح بأنه أشعر من الجارم في بعض الفنون!

ومضى الدكتور الوديني إلى الجارم بك فحدثه بما قلت وبما قال العقاد؛ فأعلن الجارم أن الرأي ما رأي العقاد! ثم لقيني الدكتور الوديني بعد أشهر وهو يقول:

- هل تعرف كيف ناقضَك العقاد؟

- وكيف ناقضني العقاد؟

- العقاد يرى أنني شاعر العرب

- أنت شاعر العرب؟ أنت؟ - وبشهادة العقاد!

- وكيف والعقاد يرى نفسه أمير الشعراء؟

- هو أمير الشعراء، وأنا إمام الشعراء، والأمير يأتمّ بالإمام، كما قال الجارم الصناّج.

- هذا جائز، ولكن ما الدليل على أن العقاد يعدُّك شاعر العرب؟

- كتب إليّ خطاباً يقول فيه:

(إلى المفرد العَلمَ، صاحب الإنبيق والقلم، شاعر العرب في شارع العجم؛ عزيزي ونور عيني، الدكتور عارف الوديني)

- وهل ترى أن العقاد مدحك بهذا القول؟

- تلك غاية المديح

- وهل ترى أن العقاد صنع معك أجمل مما صنعتُ؟

- بالتأكيد!

- اسمع، يا دكتور، أنا جعلتك أشعر الناس في مصر بعد الجارم، والعقاد جعلك شاعر العرب في شارع العجم.

- وما العيب في ذلك؟

- العيبُ أنه جعلك أشعر من الأستاذ أمين الخولي ولم يزد، والخولي جارك!

وعندئذٍ تربّد وجه الدكتور الوديني وقال: يظهر أن العقاد رجلٌ حقود!

والحق أن العقاد حَقودٌ حقود، وإلا فكيف جاز أن يجعل الدكتور الوديني شاعر العرب في شارع العجم، فقط، مع أنه شاعر العرب بعد الجارم!

والحق أيضاً أن الخطأ لم يقع إلا مني، فالدكتور الوديني كان استراح إلى ذلك اللقب الطريف وعدّه تلطفاً من الأستاذ العقاد، والعقاد يلاطف أصدقاءه في أكثر الأحايين، ولكنه في هذه المرة يسئ مع سبق الإصرار؛ فقد غاظه أن تتسع آفاق الشاعرية (الودينية) بحيث يكون صاحبها أشعر الناس بعد الجارم، والشعراء يحقد بعضهم على بعض!

وعزاءً الوديني، فلن يكون إلا شاعر العرب في شارع العجم، بفضل ما في هذه العبارة الطريفة من عذوبة الطِّباق والجِناس.

أين متحف وزارة المعارف؟ عرف قراء الرسالة خبر الخطاب الذي تلقيته وأنا في باريس من الدكتور طه حسين، الخطاب الذي قال فيه (أحمد الله إليك) وهي العبارة التي عدّها من المخترعات، وصار يبدئ ويعيد بأني تعودت الافتراء عليه؛ ثم ظهر أن الخطاب صحيح بشهادة كاتبه الأمين (توفيق)، وقد رجوت الدكتور طه أن يشتري مني ذلك الخطاب قبل أن أبيعه لمتحف وزارة المعارف، ولكنه لاذ بالصمت البليغ

أتركُ الدكتور طه لشأنه، فقلبي يحدثني بأنه رجلٌ لا يحفظ العهد، وأنتقل إلى الأستاذ مصطفى أمين المفتش المساعد لكبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف

عندي ذخيرة للبيع، ذخيرة أدبية ولكن أين المشتري؟ وأين من يعرف حاجتي إلى المال وقد شاع وذاع أني من الأغنياء؟

عندي كتاب لا يصلُح للاقتناء من حيث هو كتاب، ففي مكتبتي منه نسختان، وإنما يصلح للاقتناء حين يتبرأ منه من أُهدِيَ إليه، وهو صديق (أمين)!

هذا الكتاب هو (تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي) للمرحوم الشيخ أحمد الإسكندري وعليه إهداء بإمضاء المؤلف (إلى حضرة صديقه المفضال مصطفى أمين) وبتاريخ 26 يناير سنة 1913

فأي أثر أعظم وأشرف من كتاب يهديه الشيخ أحمد الإسكندري إلى صديقه الأستاذ مصطفى أمين في مثل ذلك العهد البعيد، يوم كان الناس يعرفون قيمة الوداد؟!

أين نحن من سنة 1913؟

وهل هان كتاب الشيخ الإسكندري وكان من المراجع التي اعتمد عليها مؤلف (ذكرى أبي العلاء)؟

هو كتابٌ وجدته عند أحد البقالين بمصر الجديدة وقد اشتريته بنصف درهم، فأين من يشتري مني هدية أحمد الإسكندري إلى مصطفى أمين؟

وأين متحف وزارة المعارف لأقدم إليه تلك التحفة السنية؟ أين لا أين؟!

جريمة الكتمان في نظر الجنية الحسناء

لم يكن الكتمان جريمة قبل أن أُسرف على نفسي بالكلمة التي نشرتها في (الرسالة) عن الجرائم الأدبية، وكنت نسيت تلك الكلمة، فلم يذكّرني بها غير الملام الذي عانيتُه من الجِنّية التي كانت ترى أن أعلم الغيب فأعرف لأي سبب قضت أيام الصيف في الصعيد، الجنية الرخيمة الصوت التي تُزلزل وجودي حين تباغمني الحديث من وراء حجاب، الجنية التي تقرأ الأشعار والمقالات والأقاصيص وتزعم أني أسرق أفكارها المبتكرة في كل ما أحدث به قرائي من ألوان الجد والفتون، والتي تهدد برفع أمري إلى القضاء إن عدت إلى انتهاب ما تُسِرُّ إلى أذنيّ أو عينيّ من معاني وآراء

من الذي يهدّد، يا شقية، أنا أم أنتِ؟

ومن السارق والناهب؟ أنا أم أنتِ؟

أتحداك في السر والعلانية أن تمضي خطوة واحدة في تنفيذ ذلك التهديد، فإن فعلتِ فسوف ترين كيف أقتلع جميع الأشجار والأزهار من الجيزة الفيحاء، وكيف أصيّرها أقفز من الفؤاد الذي جازه غيث الحب فأمسى وهو يَباب

ومن أنتِ حتى أسرق منكِ؟ هل كنتِ إلا طيفاً شفافاً يحاور روحي وهو معتصم بأجواء السماء؟ هل كنتِ إلا روحاً يتمثل في صوت رنان حنان نُقِل من وادي الخلود إلى وادي الفناء، إن جاز القول بأنك من أهل دنيانا الفانية؟

من أنتِ حتى أسرقُ منك، ومن دمي المسفوح على سنان القلم خُلِق روحك الظَّلوم؟ أنا أسرق منكِ وما كان ذكاؤك الوهّاج إلا شرارة طارت عن فؤادي؟ ويطيب لك أن تحتجبي عني لتصح دعواك في التأبي والتمنع. فهلا نطقت بقولة الحق فاعترف بالخوف من المصير المحتوم لمن يواجه اللهب العاصف؟

حماك الله من روحي، يا شقية وكتب لك السلامة من غزوات قلمي!

ثم تعالَيْ إلى كلمة سواء:

لقد هدّدتِ بالقطيعة الباغية إن لم أكتب (الصفحتين الممزقتين من جديد) الصفحتين المظلومتين بسبب التخوف من الأكاذيب والأراجيف

فمن يردّ عني عدوان أبناء الزمان، إذا خرجت على شريعة الكتمان؟

أنت يا طفلتي جاهلة جَهْلاء، ولو كنت تعرفين من خلائق أهل العصر بعض ما أعرف لعز عليك أن تعدي الكتمان من الذنوب أهل العصر، يا طفلتي الغالية، لا يسرهم أن يَنْبُغَ فيهم كاتب بليغ إلا أن يكون بوقة ضَّجاجة تهتف بما يرتاحون إليه من الأفق والرياء

الكاتب، يا طفلتي الغالية، قد يستبيح ما لا يباح من النقد الجريء، وبعض أهل العصر يفهمون جيداً أن منازلهم الأدبية لم تكن إلا ضرباً من المتاع المسروق، فهم يتصورون الناقد في شبح رجل يقدم عنهم بلاغاً للنيابة العمومية!

ومن أجل هذا يحرص قوم على إفهام الجمهور أن الرجل لا تكون له إلا شخصية واحدة، فهو موظف فقط، أو كاتب فقط، وليس من حقه أن يكون موظفاً بالنهار وكاتباً بالليل، وكيف يحق له ذلك وهو بَشرٌ مثلهم خُلقَ للوظيفة بالنهار، ولمنادمة السخفاء بالليل؟!

الكاتب، يا طفلتي، رجل مهدد في كل وقت، لأنه من عنصر غريب لا يرتاح إليه المجتمع، إلا أن يكون من أهل البراعة في خل المجتمع؟ وذلك خلق لم أفكر فيه، ولا يسرني أن أصير إليه، لأني أمقت الفناء في أقوام كل محصولهم من الشرف أن يقال إنهم يبغضون الاستعباد، وكنت أرجو أن يكون قرائي ملوكاً يسيطرون على جميع الممالك والشعوب، فعزة الكاتب من عزة القارئ، ولا يستريح إلى السامع الذليل إلا المحدث الذليل

وقد أنفقت من شباب القلم ما أنفقت في خلق جيل يفهم عني ما أريد، ثم كانت فجيعتي فيك يا شقية، فأنت تريدين أن أخضع للجمال، وأنا لا أعرف إلا خُيلاء السيطرة على الجمال، والرجال قوامون على النساء، ولو كره المتظرفون من أبناء الجيل الجديد!

وأنا مع هذا شديد الرغبة في الخضوع لإرادتك السامية، كما يتطامن الصائد في أصول الأدغال، فماذا تريدين أن أقول؟ هل تريدين أن أكتب الصفحتين الممزقتين من جديد؟

أنا عندما تريدين لتكوني بإذن الهوى عندما أريد؟ وإلى قلبك البكر سوف أسوق الحديث في غير هذا الحديث

زكي مبارك