مجلة الرسالة/العدد 395/أخلاق القرآن
→ في سوق الوراقين | مجلة الرسالة - العدد 395 أخلاق القرآن [[مؤلف:|]] |
الحديث ذو شجون ← |
بتاريخ: 27 - 01 - 1941 |
العفو
للدكتور عبد الوهاب عزام
العفو خلق يسمو بصاحبه عن الانتقام، ويكبر به عن المجازاة، ويتعالى أن يلقى الشر بالشر ويجزي السيئة بالسيئة. العفو خلة تؤثر الرحمة على العقاب، وتحل المودة محل العداوة، والوئام محل الخصام. ترى الرجل يؤذي في نفسه أو ماله فإذا قدر على خصمه استكبر أن ينزل إليه فيأخذه بجريرته، وآثر أن يغفر ويرحم، ووجد في هذا الإحسان من العزة والعظمة والطمأنينة ما لا يجد في الانتقام، ولقاء الجناية بجزائها.
وإنما العفو عند المقدرة. فليس الذي يصبر على الضيم، ويخنع للقوة، ويستسلم للظلم عفواً، ولكن خائفاً ذليلاً. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام
وقد قال تعالى في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). وقال بعض المفسرين: (كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا)
وعظماء الناس يؤثرون العفو ما لم يجدوا فيه مفسدة لأمر من أمور الدين أو الدنيا. وقد عرف بذلك كثير من ملوك المسلمين ولا سيما الخليفة المأمون العباسي. ورويت في العفو عند المقدرة أخبار تنبئ عما يملك قلب الرجل العظيم من الحلم والعفو في الخطوب الجسام. كما أُثِر من استعطاف المؤمنين في مقام العقاب ما يذهب بالحفيظة، ويوجب المغفرة.
كانوا يرون العفو وسيلة إلى استصلاح النفوس وإزالة الأحقاد، وإحلال الوئام محل الخصام فيؤرثونه على الانتقام.
قال خالد بن الوليد لسليمان بن عبد الملك: (إن القدرة تذهب الحفيظة، وقد جل قدرك عن العقاب ونحن مقرون بالذنب. فإن تعف فأهل للعفو، وإن تعاقب فبما كان معنا).
وقال رجل لبعض الأمراء: (أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر مَن بُرئي أحبُّ إليه من سقمي، وبرائي أحب إليه من جُرمي).
وقال بعضهم: إن عاقبت جازيت، وإن عفوت أحسنت، والعفو أقرب للتقوى.
والقرآن الكريم يحث على هذا الخلق الكريم ويهذي الناس إلى هذه الخلة التي تلقي جهل الجاهل بحلم العفو، وشر المسيء بخير المحسن.
سمى الله تعالى نفسه العفوّ، قال: فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوَّا غفورا؛ وفي آية أخرى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون؛ وقال أيضاً: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير؛ وقال: إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفوَّا قديرا.
وقد أمر الله سبحانه الناس بالعفو فقال للرسول صلوات الله عليه: خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين؛ ويقول: فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. ونهى أن يعاقب المسيء بحرمانه من الصدقة والبر فقال: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله غفور رحيم.
وأجاز القرآن المجازاة بالعدل ولكن جعل العفو أقرب للخير فقال: (وأن تعفو أقرب للتقوى.) كما قال في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور.)
وقد أشاد القرآن بالعافين عن الناس، وبين عظم جزائهم في قوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
وكانت سيرة الرسول ﷺ عملاً بأمر القرآن وتأدباً بآدابه. قال رسول الله: (أمرني ربي أن أصل من قطعني وأعفو عمن ظلمني.)
فانظر إليه يوم فتح مكة والجزيرة العربية في سلطانه، وصناديد قريش طوع أمره، وقد لقي ما لقي منهم أكثر من عشرين عاماً وفي كل بقعة من مكة والمدينة ذكرى ما لقي من ظلم وعدوان وأذى، وفي كل جماعة من قريش رجال قد قسوا عليه وعلى أصحابه ونالوا منه ومن دينه، وصدوا عن دعوته جهد طاقتهم. فما مد إليهم يوم الفتح والقدرة يداً بعقاب، ولا جازاهم بما فعلوا ولا بأقل مما فعلوا، بل عفا عنهم عفواً عاماً شاملاً وكان أكبر أعدائه أعظمهم نصيباً من عفوه ورحمته. قال: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً. أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وفر صفوان بن أمية أعدى أعدائه خوفاً من ذنبه ويأساً من العفو، فأرسل وراءه النبي من يؤمنه وأعطاه عمامته أمارة الأمان. فلما طلب منه أن يجعل له الخيار شهرين ليدخل فيما دخل فيه الناس أو يهاجر قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
ولما اجتمعت عليه قبائل هوازن بعد الفتح وأرادت أن تؤلب عليه القبائل وترد فتح مكة هزيمة خرج الرسول لحربها وكانت واقعة حنين التي لقي فيها المسلمون ما لقوا من الهزيمة أول الأمر ثم وثب الرسول وانحاز إليه أنجاد أصحابه حتى أنزل الله سكينته ونصره. فلما ظفر بالقوم وقد عظمت جنايتهم، جزاهم بالإساءة إحساناً وبالذنب عفواً. يقول الطبري:
أتى وفد هوازن رسول الله ﷺ وهو بالجوانة وقد أسلموا فقالوا يا رسول الله إنما أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامتنّ علينا منّ الله عليك. فقام رجل من هوازن. . . فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك (يعني أنهم قوم حليمة مرضعة الرسول).
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر.
فقال رسول الله: أبنائكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؛ بل تردّ علينا نساءنا وأبنائنا فهم أحب إلينا. فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فإذا أنا صلّيت بالناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم.
فلما صلى بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به. فقال رسول الله: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وقال المهاجرون: (وما كان لنا فهو لرسول الله)؛ وقالت الأنصار: (وما كان لنا فهو لرسول الله). وقال الرسول: (أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه. فرُدَّ إلى الناس أبنائهم ونساءهم) ذلكم مثل من أمثال تُبِيِن عن خلق رسول الله، وهو الخلق العظيم الذي أوحاه إليه القرآن، وإنما تتجلى عظمة العظيم بالعفو حين القدرة، والترفع عن الاقتصاص بالذنوب.
وذلكم تأديب القرآن أمة القرآن، وتعلم رسول الله عباد الله، وإنما يريد القرآن أن يكون المسلمون أكبر من أن يُذلّوا إذا غُلبوا، وأعظم من أن ينتقموا إذا قدروا.
عبد الوهاب عزام.