مجلة الرسالة/العدد 395/فرق لمكافحة الغناء المريض
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 395 فرق لمكافحة الغناء المريض [[مؤلف:|]] |
دير مِديْان ← |
بتاريخ: 27 - 01 - 1941 |
للأستاذ سيد قطب
إذا صح ذلك الصدى الذي استرجعته لكلمتي في العدد الأسبق من (الرسالة) عن (الذوق الفني ونهر الجنون) من إخوان لي في الفكرة لم أعرفهم من قبل، كان عدد الذين (لم يشربوا من النهر) أكثر كثيراً مما قدرت، وكان عجيباً أن يضيعوا كل هكذا في غمار الشاربين المخمورين!
وإنهم ليفضون إليَّ بأسباب غريبة لصمتهم عن الجهر بآرائهم، أسباب لم تصادفني مرة واحدة، ولو صادفتني لعرفت كيف أثور عليها وكيف أحطم شباكها، ولكن مجرد اصطدامي بها حافزاً للثورة المحطمة لا للسكون الكظيم.
إنهم يشكون نفوذ بعض المشتغلين والمشتغلات بالغناء المريض في مصر هذا النفوذ الذي يعوق المقالات في إدارات الصحف فلا تنشر إذا كان فيها تصحيح لطريقتهم في الموسيقى والغناء، ويحبس الأغاني والألحان في محطة والإذاعة فلا تذاع، إذا كان فيها للضعف وتأثير في الشهرة، وفرصة للموازنة بين المشهورين وغير المشهورين. . . هذا النفوذ الذي يشتريه بعض المشهورين والمشهورات بالمال والشفاعات تارة، وبجاه المعجبين بهم الشاربين من النهر معهم من أصحاب السلطان والمرشحين للسلطان تارة!
ولست أدري مدى هذه الشكايات من الصحة، ولكن تواترها على ألسنة لا مصلحة لها في الادعاء، وبسط حوادث معينة في صحف (محترمة!) معينة. كل هذا جعلني أوجس شراً، خشية أن تقبر هذه الكلمة التي يخططها قلمي فلا تبصر النور، وأن تصدها الشفاعات والدسائس عن الظهور!
وعلى الرغم من ثقتي بالرسالة التي أوسعت صدرها غير مرة لنقد عظماء الفكر في الشرق والغرب، فأنا أرجو أن تعذرني في هذا التوجس، فإن الحوادث التي سمعت عنها تشير إلى الخطة منظمة يتوسل إليها بعض المشهورين والمشهورات بكل وسيلة مهما كلفتهم من جهد وتضحية، لكتم النقد وإذاعة الثناء، وقبر كل نبوغ يبزغ، ويهدد شهرتهم بين الغوغاء.
وحين يصح هذا يكون جناية على الفن والذوق والخلق، وعلى كل إحساس رفيع في الأمة وكل شعور كريم، جناية تجب مكافحتها، وأنني لأهب هذا القلم لهذا الكفاح وأعلم أ الحواجز والسدود التي يشكو منها الشاكون لن تحول دون هذا القلم حين يريد.
إننا لن نشتم هؤلاء الناس الذين يسحقون روح الشعب في كل أغنية، ويهدون عزيمته في كل لحن؛ ولن نوجه إليهم فاحش اللفظ ولا هجر القول، ولا شأن لنا بأشخاصهم، ولكننا ننتقد طريقتهم، ونندد بآثارها المقيتة في النفوس. وما دام الأمر كذلك فسنجد لهذا القلم مجالاً غير محدود، على الرغم من كل الحواجز والسدود، لن يكون هؤلاء المشتغلون والمشتغلات بالغناء الزائف المريض بأعز من عظماء الفكر الذين تناولهم النقد في أبعد الحدود.
والأمم تنشئ الفرق لمكافحة المرض حين ينتشر الوباء، ولمكافحة اللهب حتى يصب الحمم على الأبرياء، ولمكافحة المخدرات حين تهدد سلامة البلاد. . . فمن الواجب مصر أن تنشئ الفرق لمكافحة الغناء المريض الذي يسحق كبرياءها، ويحطم رجولتها وأنوثتها، ويثير أحط غرائزها، ويخدر أعصابها كالمخدرات.
وما أمزح أو أتهكم! فأنا أقترح جاداً إنشاء هذه الفرق، من كل ساخط على هذا الترنيم الوجيع، مشمئز من هذا التكسر الخليع. وهذه الفرق تستطيع الشيء الكثير: تستطيع بث الدعوة، وضرب المثل، ومقاومة كل نفوذ تجاري يبذل في إدارات الصحف ومحطة الإذاعة. . . وتستطيع تتبع هذه الأنغام بالتجريح والتهجين في كل مجتمع وناد، مع تصحيح الإفهام وتقويم الإحساس.
ولست أبالغ حين أنهي إلى وزارة الشئون الاجتماعية إلى وزارة الدفاع أن هذه الأغاني تعوق جهودهما في انتشال المجتمع المصري وتقويمه، وفي بث روح الحماسة وتقويتها، فشبان البلد وشوابها مشغولون ومشغولات بالمأتم الدائم في كل مذياع، الحافل بالنائحين والنائحات، وبالدموع الرخيصة المتصنعة، وبالدغدغات الخليعة المتكسرة في الألحان والأغنيات.
وحين نكافح (الطابور الخامس) يجب أن نحسب حساب (الغناء المريض) ويجب أن نسكت هذه الدغدغة وهذا التميع وتلك المخدرات المتسربة إلى الضمائر الهامسة في الإخلاد.
وما كان لأي (طابور خامس) أن يؤثر ما تؤثر هذه الأغاني - حتى الأناشيد الوطنية والحماسية التي خرجت أشبه بالمناحة مرة، وبالنشيج المترنح مرة - إذا استثنينا (نشيد الجامعة) لأم كلثوم.
لم تبق عاطفة إنسانية نبيلة لم يشوهها هذا الغناء، ولم يبق شعور وجداني كريم لم يفسد طبيعته.
فالحب مثار الحيوية في النفوس، ومبعث القوة في الوجود. هذا الحب الذي تدخره الحياة لأبنائها، لتبيحه لهم في أفضل ساعاتهم وأملئها بالفيض الروحاني، والتفتح العقلي، والنضوج الجسمي، وتعبر به عن أقصى غبطتها بهم ورضاءها عنهم، وتدل به على صلاحيتهم لها وأدائهم لحقوقها. هذا الحب الذي هو (جواز المرور) من حمله من الأحياء أباحت له الحياة خدرها وأثمن مكنوناتها (كما يقول العقاد). هذا الحب الذي يفجر في الإنسان كل منابع السمو والعطف والمرح والاستعلاء كما يفجر في الحيوان - في صورة الغريزة - كل منابع النضج والقوة والازدهار.
هذا الحب كله عاد في ذلك الغناء رجع الصدى الهزيل للغريزة المضعوفة، وصوت الأسى الذليل للحيوانية المريضة، ودمعة الضعف الكسير للرغبة العاجزة.
والألم أنفس الأحاسيس الإنسانية. الألم الطهور الكريم صقيل الطبيعة البشرية، ومنضج المشاعر الفجة؛ وبوتقة الشهوات الخبيثة. . .
هذا الألم عاد في ذلك الغناء تصنعاً زرياً، وتكسراً شائهاً، وتميعاً (مقرفاً) ونعومة خبيثة.
والفنون على الإجمال، هي رمز الأمل الطليق من قيود الواقع المحدود، المتعالي على مطالب الضرورة القاصرة، وهي مهرب النفس الإنسانية الطموح حين يعجز الواقع عن تلبيتها فتجد في الفنون دنيا من المستقبل، وعالماً من الملأ الأعلى، وفسحة من الكمال الموموق.
ولم تكون الفنون تعبيراً عن جوعات الأجسام، ولا شهوات اللحم والدم إلا في أحط صورها وأولى درجاتها، ولكن ألواناً من القوة الحيوانية العارمة، والنشاط الغريزي الفاره، والجوع البهيمي المتنزي قد يعجب النفس لما فيه من معنى الحيوية المتوثبة والقوى المتحفزة.
فموسيقى الجازبند تعبيراً عن الحيوانية الهائجة ولكنها قد تجد لها شفيعاً في الدنو من دائرة الفنون بما فيها من قوة الهياج، وضجة الزياط، وثورة الدم في العروق.
ولكن أي شفيع للحن أو أغنية هي تعبير عن الحيوان المضعوف السقيم، يتميع بالغريزة العاجزة الكليلة، ويتخلع بالرغبة العجفاء الهزيلة، ويدغدغ غرائز السامعين المخدرين؟ ما سمعت أغنية واحدة أو لحناً واحداً، ولا سيما الأغنيات الأخيرة إلا أحسست بالتقزز للرجل المتراخي النائم على نفسه، المتخاذل في حركاته، المهوم للنعاس في نغماته، وللمرأة المتخلعة في نبراتها، المدغدغة في تأوهاتها، ولشواب البلد وشبانها يتهالكون من الرخاوة، ويتحاملون الهزال، ويرفعون عقيرتهم بالنواح: (يا لوعتي يا شقايا يا ضنى حالي - طول عمري عايش لوحدي - ما يهونشي)
وكل هذا هين لولا فجيعتي في شاعر أعزه وتربطني به روابط ودية وثيقة، وصلات أدبية طيبة. وقف مرة أمام المذياع يقدم قطعة من تأليفه لحنت هذا التلحين، وأديت هذا الأداء؛ فقال: إنها في صورتها هذه الممسوخة تعبر عما أحس به وهو ينظم مقطوعته، وأنه يعتز بهذا التعبير كل الاعتزاز.
شعرت بالفجيعة مع ثقتي بأن عوامل غير عامل الإعجاب الفني بكل تأكيد هي التي أوحت إليه بما يقول. شعرت بالفجيعة لأنه شاعر وصاحب قلم، وكل ذوي الأقلام يتعين أن يكون مكانهم في صفوف المكافحين عن ذوق الأمة الفني وعن سلامة فطرتها التي تنهكها هذه الألحان.
ولقد انتهيت إلى مقاييس لا تخطئ في تقدير صحة الفطرة الفنية وسلامة الشعور الإنساني، وهي في يدي كمقياس الحرارة في يد الطبيب. فأيما إنسان دل مقياس الحرارة في فمه على رقم غير الرقم الصحي، فهو مريض مهما نطقت ملامحه بالصحة وجوارحه بالعافية؛ وأيما إنسان أحس في ضميره اختلاجه للحن من تلك الألحان المريضة، فهو مشوه الفطرة سقيم الطبع، شارب من النهر مخمور.
وللصحافة رسالة يجب إلا تنكل عنها، وواجب يجبأن تؤديه؛ وقد تعاورني الرجاء واليأس في إصلاح هذه الحال، ولكن يجب أن تكون فداحة العبء مثيراً لعظائم الجهد، ومن يدري، فقد نعثر على كنز مخبوء في طبيعة هذه الأمة، أو منبع مطمور من منابع الفطرة، نزيل عنه الركام، فإذا تفجر اكتسح هذه الرواكد وتلك المخلفات.
(حلوان)
سيد قطب.