الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 394/أومنُ بالإنسان!

مجلة الرسالة/العدد 394/أومنُ بالإنسان!

بتاريخ: 20 - 01 - 1941

3 - أومنُ بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

نظرة واسعة - من الحياة؟ - ممثل مجهول. . . - زواج

الفكر بالمادة - أعماق النفس عي أعماق الكون - الحياة هي

الإنسان - الباقيات - أمومة الأخلاق وأبوة العلوم - نوعان

من الرجال - العكازتان. . .

في السماء: كل نجم عليه غشاء سرمدي من السكون. . . ولو ألقيت نظرة على النجوم والكواكب لم تر شيئاً إلا لمحة عينك أنت واختلاج ضوء يكاد يكون من خداع النظر. . .

وفي الأرض: كل شيء يسير في حركات محدودة وسنن مطردة وتكاد لا تسمع إلا أصوات الريح أو لطمات الموج أو أصواتاً تظهر من تلاقي الريح أو عبث الأمواج بالأشياء. . . وما عدا ذلك فأصوات حيوان لا تعدو أن تكون مقاطع ونبرات بسيطة محدودة يصح أن تلحقها بعزيف الرياح على شعاب الجبال وقصبات الأشجار، أو بهدير الأمواج ذلك الصوت الواحد المكرر على توالي الأزمان.

ولا ترى تلك الدورات الأبدية من ليل ونهار، وربيع وخريف، وشتاء وصيف، ورياح وأمطار، وفيضانات دورية، وأرحام تدفع وأرض تبلع، وحياة رتيبة للبهائم والوحش والطير والأسماك. . .

تلك هي الحياة في الأرض من غير الإنسان. . . لا تجديد في أساليبها ولا تنويع إلا ما خلق الله على الجلود والريش والأزهار والثمار والجدد البيض والحمر في السفوح والجبال. . . وإلا ما تنقله الرياح والمياه في دوراتها من مكان إلى مكان. . . وإلا ما توزعه قوى الطبيعة بالمكيال الوافي الواسع الكريم. فلا يضاف للطبيعة شيء لم يكن منها، ولا يقلقل فيها شيء من موضعه، ولا ينقح فيها شيء يستحق التنقيح

إذاً لمن هذا كله؟ لمن الليل والنهار، وهذه الآلات الهائلة التي تدار، والحيوان الأبد والداجن والأزهار والثمار والأنهار والجبال وألوان الشفق في الأصائل والأسحار؟. أهو للحمير والقرود والنمور والثعالب والفيلة والاساد والفهود والثعابين والخفافيش والبوم والغر والحشرات والديدان؟!

كلا! ليس في هؤلاء من يصح أن يفقه شيئاً من ذلك الإبداع والجمال ولا أن يسند إليه الدور الأول في رواية الحياة. . . وإنما هذه مخلوقات على هامش الحياة. . . هن أعاجيب وتهاويل وصور لزينة المسرح ودواب لحمل لأدوات إليه. . . أو أن شئت فقل إن هؤلاء (حروف) في أبجدية (الأسماء) التي يلزم أن تتألف منها رواية الحياة التي يمثلها ممثل مجهول. . . ممثل لا بد أن يكون حراً يذهب في أي اتجاه على المسرح، ويجدد في التمثيل والإخراج كل يوم، ويقوم بأدوار جميع ما على الأرض ويتمثل فيه الابتكار الذي يجعل الحياة غير يوم مكرور دائم مملول لدى النظار من سكان السماء، وسكان الأرض من الراصدين الواعين. . . ويحشر كل شيء في رواياته ويضع عقله وقلبه على كل شيء. . .

وَمنْ هذا غير الإنسان؟!

لقد وزع الله عقوله وقلوبه على المواد والقوى سافلة وعالية، فجعل أفئدة من الناس تهوى إلى خدمة شيء، وأفئدة أخرى تهوى لخدمة شيء آخر كي لا يتعطل أفق من آفاق الحياة من غير نظر إليه وتفرس فيه. ولكي يزاوج بين خواطر الفكر وخواص المادة فتنتج الأحكام عليها، وتتبين حكمته المخبوءة وراء أسرارها ولتطلع العقول على فنه وإحاطة علمه بكل شيء. . . قانون المزاوجة هنا أيضاً: فبين فكر الإنسان وبين أسرار المادة زوجية تنتج علماً أو فناً أو إحساساً أو شعوراً. . . (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)

والإنسان كالقيثارة ذات الأوتار الكثيرة. . . تظل صامتة ساكتة حتى تضربها يد الأقدار بالمعلومات والأحزان والأفراح فيظهر ما في أوتارها من نغم عجيب. . .

فالأرض من غير الإنسان هي ذلك البيت الصامت وذلك الدولاب الدائر وتلك الدورات الأبدية التي لا غاية لها ولا بد تتلقى فيضها وتنتفع بقواها. ولا اطراد في ارتقائها ولا تغيير في أوضاعها ولا زيادة فيها

فأين المخرج من تلك الحدود الواقفة الجامدة؟ وأين الباب إلى ما هو أعظم وأوسع؟

إن عمق النفس هو الذي يوحي بعظمة الدنيا وتنوع المناظر فإذا خرج المرء من نفسه تبين له أن الحياة في وحدة قوانينها وتشابه دوراتها ومقاطعها ما هي إلا شيء محدود ممل مسئم. . . ولكن الإنسان أدرك عظمة الله وعظمة الكون لما أدرك عمق نفسه وعرف الطريق إلى الكمالات والصور التي لا تتناهى لما عرف باطن نفسه إلى عالم أرحب وأوسع لما طال النظر في نفسه

وما عرفت الإنسانية جلال الله ولا تبينت صفاته وتوضحت لها حكمته، إلا من عقل الإنسان الفائق الذي أطال النظر في الدنيا ذات الدورات المحدودة المكررة وأطال النظر في النفس ذات الدورات غير المحدودة وزواج بين هذه وتلك

وهذا يسلمنا إلى أن نقول: إن الإنسان هو الحياة الدنيا بالمعنى المعقد المركب غير المتناهي. . .

ولا حد للحياة إذا التقت الطبيعة بالعقل الإنساني الذكي الحساس المفكر. . .

ولا دخل الطبيعة إلا في تقديم المواد الخام إلى يده وفكره ليصنع بهما ذلك التنويع المدني. . .

ويخيل إلى أن روحه ميراثاً خفياً من نظام الجنة وجمالها وراحتها واتساعها، وهو يحاول بعد طرده منها أن يوجدها في الأرض. . . والله معه!

وإذا كان كل شيء في هذا الوجود يرمز إلى معنى بسيط فإن النوع الإنساني يرمز إلى جميع أنواع الحياة وألوانها مضروباً بعضها في بعض كما يضرب عدد هائل من الأرقام في نفسه من الواحد إلى آخر العدد إن كان للعدد آخر. . .

فالإنسان هو (مكان) التقاء عوالم الوجود المشهود كله ليحدث من النقاء كل شيء بكل شيء منفردين نتائج وصور بسيطة، ومن التقاء جميع الأشياء بعضها ببعض نتائج وصور معقدة لا يمكن تقريبها إلا للعقول الكبيرة التي لا تكاد تدركها إلا بالوهم أو الذهن الرياضي صياد الأخيلة والأحلام والفروض

وعمار عالم الفكر بتلك المعاني الناتجة عنه هو وتنوعها إلى ما لا نهاية أمره معجب! وخصوصاً إذا تصورنا أنها معان محدودة بحدود الرءوس البشرية، معدومة في غيرها، إلا إذا خرجت وتجسدت وتشكلت في قميص مادي. . .

ترى هل هي ذات وزن وحياة عند الله الكبير ذي العقل المحيط والعلم الواسع؟ وهل هي على تناقضها واختلاف الانفعالات المتصلة بها ذات قيم عنده؟ أم هي ملاه وسلويات لذلك النوع المدلل في الأرض تموت معه وليس لها في سجل الوجود أثر بعده؟

إن تصورنا فناء عالم الأفكار العظيمة الرائعة التي تتداول عقول الإنسانية كاف وحده أن يقذف في قلوبنا الإيمان بوجود عالم ثان وعقل آخر يحصى ذلك الحصيد ويجني ذلك القطاف العجيب الناتج من ازدواج الحياة المادية والروحية في الإنسان

أسرتان اثنتان من أفكار الإنسان هما الباقيتان فيما أرى على وجه الزمان في سجل الأرض:

أسرة الأفكار الخلقية وأسرة الأفكار العلمية التجريبية. . .

والأسرة الأولى هي التي سددته إلى غايته وهيأته للخلافة في الأرض، وتحدرت في أعصابه، وأيقظته إلى سموه، وجعلته ذا قيمة لدى نفسه. . . والى تلك الأسرة ينتمي الدين، ومنها انفتحت أبواب السماء للإنسان ونزل إليه وحيها

والأسرة الثانية هي التي مهدت له طريق الحياة المادية، وسلطته على الطبيعة يرتفق منها مرافق حياته ما وسعته الطاقة، وهي التي أنمت ثقته بنفسه وأظهرت آثار وجوده وجعلته متصرفاً في المادة بما لا طاقة لغيره من الأنواع به. . .

والأسرة الأولى كانت الأساس في بناء الحياة المدنية وإتاحة الفرصة للفرد أن يفكر ويعمل لخدمة المجموع في حماية القوانين والمعاهدات، وكانت الأساس في توجيه روح الفرد إلى المثل العليا وبناء سيادة الإنسان. . .

وقد استصبحت الإنسانية بأنوار الأنبياء بناة الأخلاق قبل أن تستصبح بأنوار العلماء بمئات القرون. . . وكانت الأخلاق للحياة بمكان الأمومة الرحيمة تنمو في رعايتها وتشب وترشد. وكانت العلوم بمكان الأبوة الساعية الجاهدة. . .

فالأرض مدينة لنوعين من الرجال: الباحثين في أطواء الروح الإنسانية، المستخرجين منها وسائل طمأنينتها، السباقين إلى أدراك سموها وتفردها، الواضعين لها أسس قيمها الذاتية، الرائدين بأبصارهم وبصائرهم كل أفق في الأرض والسماء، المستنزلين لها أسرار السماء بالإخلاص والبكاء. . . وهم لا شك الأنبياء والأصفياء الذين لم يقفوا عند حدود الكثافات والسدود والقيود المادية، بل ارحبوا وأفضوا فأتوا بالخير والتفاؤل والاطمئنان والنوع الثاني هو نوع المخترعين الذين يزيدون في وسائل راحة الأجسام ويخفقون المشقات والآلام وينمون قوة الخَلْق والتقليد في يد الإنسان ويزيدون صور الحياة بالتنويع والترصيع والتوشيع والافتنان

ولئن كان النوع الثاني هو صاحب الدولة على عقول الناس الآن لكثرة ما فتح عليهم من بركات الأرض فينبغي ألا ينسى المنكرون أن النوع الأول هو مقيم أساس الحياة الإنسانية والآخذ بيد البشرية حتى بلغت دور الرشد. وهو الأكبر خدمة والأبعد أثراً، إذ هو الذي بعث في النفوس طمأنينتها على قيمتها وأيقظتها لذاتها وأرشدها لمدخرات روحها وعقلها، وهو الذي أوجب عليها الملاءمة بين ما تصنع وما تنتظر

وستستحيل كل بركات العلم إلى آفات ونقم وشرور إذا لم تتذكر الإنسانية جهاد آبائها الأنبياء القدماء وتقيم حياتها الجديدة على أسس ما أفنوا أعمارهم في وضعه وتوسيده، وما قتلوا وصلبوا في سبيل إعلائه وتشييده

غير هاتين الأسرتين السالفتين من الأفكار فهو زبد يذهب جفاء. . . هو باطل لا حقيقة له ثابتة دائمة. هو صور عابرة لتسلية النوع في جهاده وتخفيف إعناته

ويخيل إليّ حتى درجن الظن. . . أن فكر الإنسان لا يجدي عليه شيئاً إلا حين يتجه إلى فتح جديد في عالم أخلاقه أو في عالم المادة للانتفاع بها وكشف خصائصها، ولقط أسرارها واستخدامها، وأنه ما وضع في الحياة موضعاً أصيلاً إلا في هذا الموضع. . .

فمعرفته بأخلاقه تقيم حياته على الصراط السوي الذي ليس فيه عقبات وسدود من فعل الغرائز والشهوات وعقابيل للطفولة وتفرغه للعمل المثمر الدائم في المادة

ومعرفته بأسرار الطبيعة تفتح له أبواب العمل فيها وتنتج له بركات السماء والأرض وتريحه وترقيه وتفرغه للعبادة بالفكر والعمل

أما فترات التفلسف النظري والهيام وراء البدوات والفروض فتلك لا محصول وراءها أو هناك محصول ضئيل

هاتان عضَوان لا يستطيع الإنسان أن يمشي بدونهما خطوة واحدة، وإنما يدور على نفسه كما كان في العصور الأولى ولو كان في القرن العشرين. . .

ولا يمشي بإحداهما ويترك الأخرى إلا أصيب بالعرج والتعثر فأمم الأخلاق بدون علم وعمل في المادة أمم بائدة مستضعفة معطلة القوى، محدودة الحياة، مسلوبة الحقوق.

وأمم العلم بدون أخلاق سباع ضارية يأكل بعضها بعضاً وتأكل غيرها، ويتجه كل علمها وفنها إلى خدمة الشر والإثم وتستحيل بركات العلم فيها إلى نقم، كما يتجه كل العلم والهندسة في الشوكة إلى قمتها الحادة، وكما يستحيل الدسم في الطعام إلى سم إذا ذهب صلاحه واختلت أخلاطه.

عبد المنعم خلاف