الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 394/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة/العدد 394/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 394
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 01 - 1941


(المختار) لعبد العزيز البشري

للدكتور زكي مبارك

- 10 -

حديث اليوم عن (المختار) للأستاذ عبد العزيز البشري (عضو مكتب المجمع اللغوي) لا عضو المجمع اللغوي، كما ظن من أخطئوا فهم قرار وزير المعارف. ولسنا بهذا نستكثر عليه عضوية المجمع وقد ظفر بها الأستاذ أحمد أمين، وإنما أردنا تحديد مكانه بجوار (الخالدين)

فمن صاحب هذا الكتاب؟

كانت بيني وبين الأستاذ عبد العزيز البشري مصاولات سجلتُها في كتاب (الأسمار والأحاديث) ثم انتهت تلك المصاولات بالحقد من جانب، وبالصفح من جانب، فمن الذي حَقَد؟ ومن الذي صفح؟ لقد رجعتُ إلى قلبي أستفتيه فلم أجده يضمر لهذا الرجل غير الإعزاز والتبجيل، ولكني مع ذلك أنكر مذهبه في الإنشاء، ولا أرى رأى وزارة المعارف في إفهام الطلبة أن نثر البشري يصلح للاقتداء والاحتذاء، إن صح أن لوزارة المعارف رأياً في الكتب التي تفرضها على الطلاب، فسيأتي يومٌ نتبين فيه أنها قد تحكم على بعض الكتب بالسَّماع، وهو يومٌ غير بعيد، ما دامت وزارة المعارف إلى رجال لا تؤذيهم كلمة الحق من أمثال الدكاترة هيكل والسنهوري وغربال

عبد العزيز البشري كاتب مشهور، مشهور جداً، حتى جاز للأستاذ خليل مطران أن يحكم بأنه (أعرف من كل معرَّف بين الناطقين بالضاد) ومن كان كذلك فهو أقوى من أن يُهدَم، ولا خوف عليه من صيحة النقد الأدبي، وإذا فلا بأس من أسماعه قول الصدق بتلطف وترفق، عساه يغَّير ما بأسلوبه من تكلف وتصنّع وقعقعة وعجيج.

البشري كاتب (على الطريقة البشرية). كاتب يذكَرك في كل سطر بأنه أديب يتصيد الأوابد من مجاهيل القاموس واللسان والأساس، وتلك حال المنشئين المبتدئين، وهي حال يُنكرها أعلام البيان، لأنها تشهد على أصحابها بالبعد من الاتسام بوسم الفن الرَّف الكاتب الحق هو الذي يشغلك بنفسك، ويوجهك إلى مصيرك المنشود، ويفرض عليك درس غرائزك وأهوائك، بدون أن يفكر في حملك على الإعجاب بخصائصه الإنشائية. ولو شئت لقلت إن الكاتب الحق لا يخطر في باله حين يكتب أنه من أصحاب الأساليب، لأن الكاتب العظيم تصبح عنده الكتابة من وحي الفطرة والطبع، بحيث لا يشعر أن التأنق غرض مقصود، وإن إضافة الفن الجميل إلى طوائف المتأنقين

الكاتب الحق يقتنص قلبك وعقلك في مهارة الصائد الختول الذي يرى الصيد ولا يراه الصيد. الكاتب الحق يروضك على تغيير ما بنفسك بنفسك، فلا تتوهم أن له يداً في نقلك من حال إلى أحوال، وإنما تشعر أنه يعبِّر بالنيابة عنك، وأنك لو حملت القلم لكنت أقدر منه على الإبانة والإفصاح.

الكتابة من فنون التدريس، والمدرس الحق هو الذي يحاورك وكأنه تلميذ مثلك. هو الذي عناه لامرتين حين قال:

والأساس في الكتابة أن تكون فنَّا أخفى من نظرة العاشق بمحضر الرقباء. هي سياسة دقيقة جدَّا. هي سياسة تشبه سُرى العافية إلى الجسم العليل، وقد تشبه تسرُّب الداء إلى الجسم الصحيح، لأن الكتابة فن، والفنون تتجه إلى الهدم كما تتجه إلى البناء، على فرض أن الفن قد يسيء في زعزعة بعض المأثور من التقاليد

الكاتب الحق هو دائماً من أصحاب المبادئ والعقائد، في حدود ما يتصور من المبادئ والعقائد، لا في حدود ما يتصور الناس، ومن هنا يجوز للكاتب أن يلقاك بما تحب وبما لا تحب، وهو حين يستفحل قد يزلزل رأيك في جميع الشؤون ولو حدثك عن مواقع هواك

والوصول إلى هذه الغاية يحتاج إلى سياسة عالية، وتلك السياسة قد تستوجب أن يطوي عنك الكاتب ما يرمي إليه من مقاصد وأغراض، ليضمن غفوة عقلك عن مقاومة ما يدعو إليه. وقد تحار فيما يريد منك الكاتب، ثم تعرف بعد قليل أنه لم يُرد لك غير ما تريد لنفسك، وهو في الواقع أصاب مقاتلك من حيث لا تشعر، وكيف تشعر وقد استدرجك بأسلوب ألطف من اللطف وأخفى من الخفاء؟

فأين البشري كاتباً من هذه المعاني؟

هو رجلٌ صخَّاب ضجّاج يدقَّ الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد!! ألم يَعجب البشري من أن يصل على يوسف إلى قمة البلاغة وليس في كلامه نظمٌ متكلف؟ وما ذلك النظم؟ هو عنده نظم يتكلفه (صدور الكتَّاب)، كأن صدور الكتَّاب لا يكونون إلا متكلفين! وكان الأمر كذلك عند البشري، لأنه لم يفهم البلاغة على وجهها الصحيح، فكانت في ذهنه أجراس طنطنة وأصوات ضجيج

كل هم هذا الرجل أن يفتنك في كل حرف بأن الكتابة شيءٌ ضخمٌ فخمٌ يروعُك وَيهولُك، وإن لم يكن لذلك موجب توحيه الفكرة أو يفرضه البيان، فلأي غرض يصنع بنفسه هذا الصنيع؟ ومتى يعرف أن السحر من أوصاف البيان، والأصل في السحر أن يقدَّم الأباطيل وهي في مرأى العين حقائق لا أباطيل؟

هل سمعتم بالرحا التي تطحن القرون؟ هي البشري في بعض نثره القعقاع؟

يندُر أن تجد في نثر هذا الرجل صفحة خلت من التكلف. ويندر أن تشعر بأنه خلا لحظة إلى قلبه يستلهمه ويستوحيه، فهو مشدود في كل وقت بزمام التفصُّح الثقيل، إلا أن يثور على (حرفة) الكتابة فيرسل نفسه على سجيتها الأصيلة، وذلك لا يقع منه إلا في أندر الأحايين

عبد العزيز البشري من الأذكياء، ولكن ذكاءه انحرف بعض الانحراف، فلم يكن له في أدبه من أثر غير ما عرفنا وعرفتم من القرم إلى التندر والأغراب

كنت أتمنى أن يدرك البشري كنه الوشائج بين جذور الفن وجذور الذكاء، ولكن البشري مضى لطِيته فلم ينتفع بآراء الناقدين.

كان البشري يستطيع أن يكون كاتباً عظيماً، لأن لهذا الرجل ذخيرة منسية من الفطرة والطبع، ولو أنه استجاب لوحي روحه لأتى بالعجب العجاب، ولكنه تكلف ما لا يطيق، فأضيف إلى المتحذلقين

ولكن ما الموجب لمواجهة هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح؟

هو الموجب الذي فرض أن أُفسد ما بيني وبين المرحوم مصطفى صادق الرافعي وكان من كرام الكاتبين

فأنا بصريح العبارة أتهم أهل التكلف وأراهم أطفالاً في دولة البيان

وليس معنى هذا أني أنكر قيمة الصياغة الفنية، فالكتّاب الكبار قد يشقون في تحبير ما يكتبون أعنف الشقاء، ولكنهم ينتهون إلى عرض آرائهم بأساليب هي الغاية في الوضوح والجلاء، فلا يتوهمُ متوهمٌ أنهم عانوا عنَت الإنشاء وقد هاموا على وجوههم في تجاليد الليالي

هل سمعتم بالسمك الرَّعاد الذي لا يوجد في غير نهر النيل؟

هو سمك كسائر الأسماك، ولكن فيه قوة كهربائية، وكذلك الكلام البليغ: فهو كلام كسائر الكلام، ولكن فيه قوة كهربائية وصلت إليه من ثورة الروح أو فورة الوجدان

ليست القوة في اللفظة اللغوية، اللفظة التي يدلنا المجمع اللغوي على قبرها المجهول، وإنما القوة في اللفظة التي يَحُلها روح الشاعر أو الكاتب فتصبح وهي محمَّلة بالمعنى الفائق والخيال الطريف

فكيف جاز للشيخ البشري أن يمنّ علينا بأنه أحيا بعض الألفاظ من موت، وهو لم يسكب عليها قطرة واحدة من دم القلب؟

حدثنا الأستاذ خليل مطران في مقدمته لكتاب الشيخ البشري أنه وقف منه موقف الدليل من المتحف، وقد صدَق ثم صدق، فزائر المتحف يخرج كما يدخل، فلا يكون محصوله غير ذكريات، ولا كذلك زائر المعرض فهو يقتني ما يروقه من النفائس حين يشاء

فهل كان الأستاذ خليل مطران يعني ما يقول وهو يجعل كتاب الشيخ البشري متحفاً من المتاحف، لا معرضاً من المعارض؟

المتاحف نفائس، ولكنها لا تصلح للاقتناء، لأنه يعرَّضها للبوار الشنيع!

فالمتحف المصري هو أعظم ما في العالم كله من النفائس، وهو يقدَّر بألوف الملايين من الدنانير، ولو بيعت ذخائره لجعلت المصريين أغنى الناس أجمعين، ولكن هذا المتحف النفيس يمسي وهو من سَقَط المتاع إذا عُرِض للبيع، فحياته في الموت، ونباهته في الخمول

وكذلك تكون (آثار) الكتّاب المولعين بالزخرف والبريق، فألفاظهم نفائس، ولكنها رسومٌ هوامد، وهي لا تُنقل من المعاجم إلى (المختار) إلا كما ينقل الرفات إلى (الضريح)

والقول الفصل أن الكتابة قلبٌ يُفصح وعقلٌ يبين، وليست ألفاظاً تُضمَّ إلى ألفاظ. الكتابة قوة روحانية لا تتفق للكاتب إلا بموهبة سماوية، فمن أراد أن يكون كاتباً فليرحل من طبقات الأرض إلى أجواء السماء

الكتابة رزق من الأرزاق، فمن حدثكم أنه يملك منها ما يريد فهو جهول، فما كانت الكتابة إلا بوارق يمنّ بها الرزاق الوهاب، وهو قد يمنّ بها على من يجهلون أنه أهلٌ لأعظم الحمد وأجزل الثناء، لأن المنة لا تعظم إلا حين تساق إلى أهل الجحود!

محصول (المختار)

بعد هذا الشؤبوب ننتقل إلى الجزء الأول من (المختار) فنراه محصولاً من الجهد المحمود في عرض طوائف كثيرة من سور الدنيا والناس، وإن كان قُدِّم بروحٍ مكدود، ونفَسٍ مجهود، لأن الكاتب لا يفصح عما بنفسه إلا بعد أن يعاني من المشقات ما لا يطاق

هو تحفة فنية، وكيف لا يكون كذلك وهو عصارة ذهن البشري مدة الحياة، كما طاب له أن يقول في عبارة الإهداء، والبشري من كتابنا الكبار، وإن قيل في أسلوبه ما قيل

وهل من القليل أن يكون عندنا كاتب يقضي الليل والنهار في تعقب الألفاظ والتعابير ليؤلف منها قافلة حائرة لا تعرف أين السبيل في بيداء الوجود؟

هل من القليل أن يكون عندنا رجلٌ يستطيب الحبس بين جدران داره ليتسقَّط مرابع العشب اليابس من خيالٍ آبد، أو لفظ مجهول؟

هذا المعنى وحده مما يُطلب، فليكن عندنا ألف بِشريّ، لأن تنوع الأساليب من شواهد الحيوية في الشعوب، وبضدها تتميز الأشياء

عبد العزيز البشري كافَح في ميدان الكتابة كفاح المستميت، فلنعرف له هذا الفضل، ولنذكر أنه قضى ثلاثين سنة وهو معدودٌ من أبطال القلم في هذه البلاد. ولنذكر أيضاً أنه رجلٌ ذوَّاق إلى أبعد الحدود، فقد يندُر أن يكون له مثيل في الطرب لأطايب الدقائق الذوقية لعوامِّ الناس، أما فهمُ الشيخ عبد العزيز للشعر فهو أعجوبة الأعاجيب

ينقسم كتاب البشري إلى ثلاثة أبواب: الأدب والوصف والتراجم، وفي كل باب فصول منها الوسط والجيد والرائع، وهو يحتفل بالأسلوب في جميع الفصول على الطريقة البِشرية، ويكفي أنه صار كاتباً له أسلوبٌ خاص

مَطلع الكتاب محاضرة ألقاها البشري في أول اجتماع لنادي القلم المصري، وهو النادي الذي يجتمع أعضاؤه في كل سنة ليتناولوا معاً طعام العشاء! فما الذي قال في تلك المحاضرة الافتتاحية؟

كان الظن أن تكون محاضرة ينقلها روتر وهاناس إلى جميع بقاع الأرض، لأن مصر أول أمة في التاريخ أقيم فيها لحامل (القلم) تمثال، ولكنها كانت محاضرة سطحية لم يرسم فيها المحاضر غير خطوط يغلب عليها العِوَج والانحراف، في غير موجب للعِوج أو الانحراف

فمن أغلاط هذه المحاضرة أن الكاتب جعل توليد الفنون الشعرية في الأندلس أثراً من آثار الانحطاط. ألم يقل إن الأندلسيين (وّلدوا في الشعر فنوناً لتؤدي من الأغراض اللينة الرخوة ما عسى أن تثقل عليه أوزان الشعر؟) ذلك ما قال بالحرف، وهو شاهدٌ على غفلته عن الغرض الذي استوجب أن يفكر الأندلسيون في توليد القوافي والأوزان

ومن أغلاط هذه المحاضرة أن الكاتب عاب التكلف على (أصحاب البديعيات) فهل يعرف مَن (أصحاب البديعيات) وقد عدَّهم من الشعراء المتكلفين؟

أصحاب البديعيات لا يعاب عليهم التكلف، يا فضيلة الأستاذ لأن التكلف عندهم غرض مقصود، فهو نظم تعليميٌّ يجري مجرى (المُتون)

ومن أغلاط هذه المحاضرة أن يظن الكاتب أنه كان من الطبيعي أن ينحط الأدب المصري في عهد الأتراك (ولو قد ظل مع هذا على شأنه الأول من القوة وسعة التصرف لما كان أدباً مصرياً، ولا كان مما يتسق لأذواق المصريين)

فما معنى ذلك؟ هل يتوهم أن مصر في العهد التركي كانت تحولت إلى بيئة تركية؟ هو إذاً يجهل أحوال مصر في تلك العهود، فقد كانت في مصر بيئات منفصلة عن المجتمع السياسي كل الانفصال، وبفضل تلك البيئات ظلت مصر موئل اللغة العربية في عصور الظلمات، إلا أن يجوز قياس المجتمع في العهود الماضية على المجتمع في هذه العهود!

محاضرة البشري في افتتاح نادي القلم المصري تشهد بأن اطلاعه على تاريخ الأدب في مصر مبتور الأطراف

ثم ماذا؟ ثم نقرأ بحثه عن (حيرة الأدب المصري) فنعرف أن الكاتب هو الحيران!

هو بحث نُشر في مجلة المعرفة سنة 1932 وإنما نصصتُ على التاريخ لأمسك بتلابيب الكاتب الذي يقول:

(وعلى الجملة فإنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم لرأيته موزعاً بين حياة في الجزيرة لمصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يصور عواطفه المصرية التي يُلهمها ما ينبغي أن يُلهم المصري من عواطف وإحساس)

ذلك هو فهم الشيخ البشري للأدب المصري في سنة 1932 فهل رأيتم أغرب من هذا الفهم؟

في سنة 1932 كان أدباء مصر فريقين، فريقاً لا يعرف غير الأدب العربي القديم، وفريقاً لا يعرف غير الأدب الأوربي الحديث كما يتصور الشيخ عبد العزيز، فأين كان أدباؤنا الكبار من أمثال حافظ وشوقي والزيات وهيكل والمازني والعقاد وتيمور وطه حسين؟ هل كان هؤلاء جميعا من المذبذبين بين القديم والحديث؟ وأين كان الصحفيون من أمثال حافظ عوض وعبد القادر حمزة وتوفيق دياب؟

أشهد أن عبد العزيز البشري لم يصدر في حكمه إلا عن وَهمٍ هو أشبه الأشياء بالإفك المدخول!

أما بعد فما جملة القول في هذا الكاتب؟

هو من أمهر الوصافين للمرئيات، حتى لتحسب أن قلمه ريشة رسام تنتقل بين الألوان، ولكن أين الكاتب المنشود، الكاتب الذي يحدثنا عما نعرف أو نجهل من أسرار النفوس وسرائر القلوب؟

لقد تفقدتُ هذا الكاتب في مقالات عبد العزيز البشري فلم أجده، بالرغم من طول الصبر على البحث والتفقد؛ فأين ذهب وكنت أرجو أن أراه في ثنايا تلك المقالات؟

تحدثك مقالات البشري أنه صحب كثيراً من الناس، وتنظر فتراه وصف ملامح من صحب من الناس، ولكنك لا تجده تنبه إلى ما تدل عليه خصائص تلك الملامح، فهل يكون من حق الناقد أن يفترض أنه لم ير وجوه الناس إلا عن طريق

(الصور الشمسية)؟

البشري الكاتب له عينان تريان الألوان، وأذنان تسمعان الأصوات، ولكنه عاش بلا قلب، فلم يدرك دقائق الفروق بين الألوان والأصوات من حيث الدلالة على المعنويات

كان البشري في مختلف أطوار حياته موصول بكبار الرجال، فماذا استفاد؟ وماذا أفاد؟ هل سمعتم أنه نقل رجلاً من رأى إلى رأى؟ هل سمعتم أنه انتقل من حال إلى حال؟ البشري هو هو لم يتغير ولم يتبدل، فقد قامت الشواهد على أنه ظل دهره على مذهب واحد في فهم الأدب والحياة، مع أن الدنيا تثور من حواليه في كل حين

انظروا ما صنع البشري وهو يصف (بنك مصر) لتروا كيف وقف عند المرئيات ولم يتعدها إلى المعنويات!

ما هو بنك مصر في نظر البشري؟

هو قصرٌ (فُرشت أرضه بجلود الصِّلال، أو بالوشى الصنعاني نُمنم بمثل أكارع النمال)

أتلك هي صورة (البُنُوك) في نظر الأديب؟

كنت أرجو أن ينظر البشري نظرةً أبعد من هذه النظرة، فللبنوك معانٍ أخطر وأعظم من السقوف والجدران، ولكن البشري لا يفكر في غير المرئيات

ثم أسأل نفسي مرة ثانية عن الموجب لإيذاء هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح

وأجيب بأن هذا أثر الغيظ من فجيعتي في هذا الكاتب، فهو من عصابة أدبية أساءت إلى الأدب المصري حين صيرته متاحف تهاويل، ومعارض تزاويق، ثم فَرضتْ على الدولة وعلى الجمهور أن يفهموا أن هذا هو الأدب الحق، وأن لا أدب سواه!

لم يُجِد البشري إلا في فن واحد: هو وصف المرض، فما نظرتُ فيما كتب في وصف بلائه بالأمراض إلا صرخت بالتوجع له من أعماق القلب، ومن أجل حزني عليه مزقت الصورة الأولى من هذا المقال وكتيته مرة ثانية، وما أذكر أني كتبت مقالاً مرتين منذ عهدٍ بعيد. . . أجاد البشري وصف المرض، ولكنه وقف عند الغرض القريب فلم يتغلغل في وصف بلاء الرجال بالأمراض؛ فأين هو من مقال شِبلي شمُيِّل في وصف عناء المريض؟ شِبلي شميِّل الذي يقول:

(ذقتُ ذل السؤال، بعد عزَّ الإفضال، فلم أجد أشقى من المريض)!

إن الفرق بين مقال البشري عن المرض ومقال شميل عن المرض أبعد مما يتصور القراء، فما السبب في هذا البعد؟

السبب أن شميلا تأذى بالمرض فوصفه بصدق، أما البشري فرأى المرض فرصة لمقالة أدبية فقال كلاماً يُعوزه الصدق، ولم صدق البشري فيما حكى عن مرضه لكان من الحتم أن يموت قبل أعوام طوال!

عبد العزيز البشري مزخرِفٌ ومبهرِج، وبفضل الزخارف والبهارج وصل إلى أشياء، لأن الجمهور عندنا قد يكتفي من الكاتب بإجادة التزيين والتلوين

يسأل البشري عن الكاتب الذي يصور العواطف المصرية وأنا اسأل عن الكاتب الذي يصور العواطف الإنسانية، فما يهمنا أن نكون مصريين كما يهمنا أن نكون إنسانيين، فالشاعر الإنساني يجد لعواطفه صدًى في جميع البلاد، أما الشاعر (المحلي) فأفقه ضيق محدود. . . وما أريد الغض من العواطف التي توحيها الأجواء المحلية، وإنما أريد أن يتغلغل الشاعر والكاتب في أعماق الأرواح والقلوب بحيث يحدث قراءه عن آفاق روحية وعقلية لا يهتدون إليها إلا بوحيٍ من العقل الملهم والقلم البليغ

أنا أرجو أن يدرك كتّاب هذا العصر أننا مللنا من الحديث المعاد، وأننا نودّ أن يكون لهذا العصر تاريخ جديد في الأدب العربي، تاريخ ينطق بأننا عبّرنا عما في نفوسنا وقلوبنا بصراحة وصدق وإخلاص؛ تاريخ يشهد بأننا تغنّينا صادقين بعواطف هذا الجيل، وتألّمنا صادقين من مآثم هذا الجيل

لا أريد أن يكون الكاتب مصرياً، وإنما أريد أن يكون إنساناً مصرياً، إنسانً تعنيه الوشائج الإنسانية، ومصريٍّا تعنيه الأواصر المصرية؛ وأنتظر أن يكون الكاتب المنشود رجلاً قديراً على تشريح العواطف والأحاسيس فبل أن يكون رجلاً قديراً على ترقيش الألفاظ والتعابير. وأرجو أن يفهم أن له مهمة أسمى وأعظم من القناعة بإعجاب أهل هذا الجيل؛ فالكاتب الحق لا يخاطب العصر الحاضر وحده، وإنما يسكب رحيق قلمه في أذن الزمان وقلب الوجود

الكاتب الحق هو الذي يفرض علينا أن ندرس عواطفنا وأهواءنا في كل وقت، ويشعرنا بأن حساب الضمير لا يقِل قدسيةً عن أداء الصلوات. الكاتب الحق هو الذي يروضنا على الاقتناع بأن نعمة القلم الصوّال أعظم من جميع النعم، وأنفس من جميع الذخائر، وأشرف من جميع ألوان التكريم والتعظيم والتشريف، لأنه يمكّن صاحبه من مناجاة الضمائر والقلوب، ويوحي إلى القارئ أنه قَبَسٌ من السر المكنون في سرائر الغيوب

الكاتب الحق هو الذي لا تصرفه الأكاذيب والأراجيف عما يجب عليه من الفناء في خدمة الواجب. هو الذي يستعذب الأذى في سبيل الشريعة الأدبية - والأدب من الشرائع - هو الذي يرى أن لا بأس عليه من الحرمان في أبشع جانبه ونواحيه، ما دام يؤمن بأنه كاتب موهوب، لأنه يعرف أن نعمة الكتابة لا توهَب لغير المصطفين من أذكياء الرجال

الكاتب لا يستوحش من زمانه إلا وهو متكلف، أنه يستفيد من الظلم أكثر مما يستفيد من العدل، ولأنه ينتفع بالفوضى أكثر مما ينتفع بالنظام، ولأن الإساءة من أهل زمانه قد تصيره رجلاً لا يعتمد على غير صاحب العزة والجبروت

الكاتب رجلٌ مؤمِن. ألا ترون كيف يحتقر ما بأيديكم يا ظالمي أنفسهم بعبادة المنافع الفانية؟

زكي مبارك