مجلة الرسالة/العدد 390/من وحي الريف
→ القدر والقصص | مجلة الرسالة - العدد 390 من وحي الريف [[مؤلف:|]] |
من وَراء المِنظَار ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1940 |
ريف وروح. . .
للأستاذ حبيب الزحلاوي
السرعة إحدى خصائص العصر، وهي على رغم أخذها الناس بالسوط تستحثهم على المضي، تتهيب الأديب، لا تجرؤ على الدنو منه ساعة سبحه في الفراغ الطويل، أو تأمله بدائع الكون العظيم، أو انجذابه بسحر الطبيعة ومفاتنها
للأديب الذي يركب القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، أو منها إلى الصعيد بعض العذر في رمي الريف بالصورة الواحدة ذات الوجه واللون الواحد، وله أن يدعي الملال من الرؤى الرتيبة، لا لأن طبيعة الريف هي كذلك، بل لأن أثر السرعة في نفسه أبلغ من أثر تهيئها لتقبل الجمال ولمح قسمات الروعة والبهاء المطوية والمنشورة، البادية والخافية والتشبع منها على مهل
والريف كالمرأة في مجموع تكوينها سحر يدرك بالغريزة، وفي تفصيل قسماتها فتنة تعيها لطافة الحس بالاشتراك مع الشعور والذوق وتفتق البصيرة
الريف للأديب المتسرع جمال موقوت وبهجة زائلة، ولقرينه المتأمل هيكل في مباءة الأرواح. . .
ما سمعت من أديب ثناء على ريفنا الصامت، بل رأيت ملامح الضجر تضج من الصمت فقلت هو ذا مظهر من مظاهر السطحية لا يقوى صاحبها إلا على مسايرة العصر في سرعته وتسرعه، ويعجز عن مجاراة الروح في سبحه وتأمله وانجذابه
لم ترني (الدقهلية) نخيلاً تبدى لي في الصعيد بقامته الممشوقة، وأغصانه المعروشة، وعناقيده المدلاة، وبلحه النحاسي القاتم والذهبي الصافي اللون، بل أرتني منابت الأرز تلبس عشرات ألوان متناسقة متساوقة من خضرة السندسي المفرح، تسبح في أمواه رقراقة لا تفيض حتى يدرك النبت النضج فيتناوله المنجل، وكأني سمعتها تقول: (نعوم في أمواهنا نستكمل حياتنا فيها كما يستكملها الأديب الموهوب في حب متقطع متواصل يحيا به حياة دائمة التوقد والالتهاب حتى قطعه المنجل!)
رأيت فصول العام مستوفاة في أرض الريف في ساعة واحدة هنا وهناك ربيع وخ للقطن والقمح والأذرة والبرسيم، وهنالك صيف وشتاء لأرض تتأهب لغرس جديد
إن تعجب يا صاحبي فاعجب لقطان هذا الريف السمح السخي إذ لا شيء أدعى للعجب بله الدهشة من تلقيك عكس ما كنت تتوقع وتتأمل
في طباع قطان الريف جود وبخل، حلم وسفه، ظَرف وسماجة، ذكاء وبلادة؛ ولعلي لم أتلمس وألتفت إلى الاستكانة وضدها الأنفة، والتواضع وضده الكبرياء، والشجاعة يقابلها الجبن، وسهولة الخلق وتوعره، لأنها وإن كانت من الصفات التي تسم روح الفلاح بميسم الانطلاق والحرية والاعتماد على النفس ولكنها مكبوتة فيه، مخنوقة من الجور الذي لا تبلى جدته، ولا يصدأ معدنه، الجور الناعم الباسم وقد توارثته الأجيال الحاضرة عن الظالمين والمظلومين من أقدم العصور
والريف وضيء الطلعة، واضح السنة، كفتاة في مستهل الصبا، عفيفة الطوية، إن تصدت تتصدى لأليفها، أو للقريب من روحها، وليس للمحة الخاطفة عندها مهما بان سناها سوى أثر البرق. . .
اقتربت من فتيات ريفيات يجنين القطن، وكنت إذ ذاك متيقظ النفس، متشوقاً إلى رؤية جنى محصول مصر العزيز، ولكني ما كدت ألقي بالنظرة الخاطفة حتى غامت الرؤى في عيني. . .
لقد تذكرت الأديب فخري أبا السعود، هذا الرجل الذي صدمته الحياة فتغلب عليها بالموت. . . تذكرته للفصل الممتع من الكتاب القيم الذي نقله إلى العربية لمؤلفه توماس هاردي في وصف فتيات ريفيات يجمعن القمح في الحقل، وإني لأنقل شذرة من الفصل للدلالة على أدب السرعة الذي نأخذ ذواتنا به لسهولته وخفته وعلى الأديب الموهوب الذي يندمج في موضوعه فيمتزج به، فيشيع فيهما روح واحد، فتسمع تجاوب الروح الواحد. . .
(تركت الآلة الحاصدة المحصول وراءها في أكوام صغيرة، كل كومة منها تصلح لأن تكون حزمة، وعليها أكب الحاصدون بأيديهم، وكان معظمهم من النساء، وكان الرجال يرتدون قمصاناً وسراويلات تجمعها حول أوساطهم أحزمة من الجلد) (أما بنات الجنس الآخر فكن أهم شأناً وأمتع منظراً، شأن المرأة حين تندمج في مظاهر الطبيعة يدل أن تظهر بينها مجرد ظهور، كما هي الحال غالباً، فالرجل في الحقل يبدو شخصية قائمة فيه، أما المرأة فتبدو جزءاً منه، قد فقدت استقلال شخصيتها وتشربت روح المنظر المحيط بها ومزجت نفسها به)
وفي هذا الصباح كانت العين ترتد عفواً إلى الفتاة ذات السترة القرنفلية الشاحبة، إذ كنت أعدل الجميع قداً، وألينهن غصناً، ولكنها كانت قد شدت قلنسوتها على جبينها حتى لم يعد يرى شيء ومن وجهها حين تنحني، وإن كان من الممكن التنبؤ بلون وجهها بالنظر إلى خصلات شعرها الأسود الرمادي الممتد من تحت حافة قلنسوتها، ولعل من أسباب طموح العين إليها أنها لا تحاول اجتذابها، وأن تلتفت الأخريات حولها من حين إلى حين
وظلت تنحني وتقوم في حركة رتيبة كسير الساعة، تستخرج من آخر كومة هيئت ملء يمناها من السنابل، وتضرب قممها براحتها لتسوي رؤوسها، ثم تنحني ملياً، وتتقدم ضامة العيدان بكلتا يديها إلى ركبتيها، وتدفع يسراها ذات القفاز تحت الحزمة لتقابل اليمنى على الجانب الآخر، معانقة القمح معانقة المحب، وتجمع أطراف الحزمة وتجلس عليها وهي تربط، وتدفع أذيالها إلى أسفل كلما عبث بها النسيم، وكان جزء من ذراعها يبدو عارياً بين جلد القفاز الخشن وبين كمها ناعماً رقيقاً، وكلما تقدم النهار ابتسمت عليه الخدوش وبض منه الدم، وكانت تعتدل قائمة من حين إلى آخر لتستريح وتصلح من ميدعها وقلنسوتها، وعندها يرى الناظر وجه فتاة مليحة بيضاوياً ذا عينين سوداوين تحف به خصلات من الشعر الأسود سبطة تعلق بكل شيء تقع عليه، وكان خداها أشد شحوباً، وشفتاها الحمراوان أرق، وأسنانها أكثر تناسقاً مما يشاهد في بنات الريف)
سلام على ريفنا الملهم، وعلى أديب ليستلهم فيصور، ورحمة لفخري أبي السعود فقد عاش وكتب بدمه، ومات وهو يعلم أن الدم روح مسفوكة
حبيب الزحلاوي