الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 390/القدر والقصص

مجلة الرسالة/العدد 390/القدر والقصص

بتاريخ: 23 - 12 - 1940


(بمناسبة شقاء أشخاص روائيين)

للأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل

في عام 1850 قدمت شارلوت برونتي الطبعة الثانية من قصة أختها إميلي برونتي المسماة مرتفعات وُذَرِنج بمقدمة جاء فيها:

(لا أدري أكان صواباً أو ملائماً أن تخلق كائنات مثل هيثكليف، ويصعب أن أظن ذلك، لكنني أدري أن الكاتب الذي يملك الموهبة الخالقة يملك شيئاً لا يسيطر دائماً عليه - شيئاً يريد ويعمل لنفسه بغرابة أحياناً، فقد يضع (الموهوب) قواعد ويبتكر مبادئ، ثم ترقد (موهبة الخلْق) أعواماً في خضوع لهذه القواعد والمبادئ؛ وعندئذ، ومصادفة وبغير إنذار بالثورة، يحين وقت لا تعود تقبل فيه أن (تَسْلفَ الأودية، أو تربط برباط في خط المحراث) - حين (تضحك من زحام المدينة، ولا تهتم بصياح الحوذي) - حين ترفض كل الرفض أن تصنع من رمل البحر حبالاً لحظة أخرى، وتشرع تنحت التماثيل فتجد (أنت) صورة من بلوتو أو جوف وتيسيفون حورية ماء أو مريم كما يوجِّه القدر أو الإلهام. وليكن العمل عنيداً أو مجيداً، مفزعاً أو سماوياً، فإن لك اختياراً ضئيلاً متروكا، غير أنه اختيار هادئ ساكت. أما أنت أيها الفنان الاسمي (الصوري) فإن نصيبك منه كان أن تعمل مستكيناً بإرشاد لم تفهمه، ولا استطعت أن تستوضحه - إنه لا يلفظ في صلاتك، ولا يُلغى أو يغير على هواك. فإن كانت النتيجة خلابة، فسيمدحك العالم أنت الذي تستحق من المدح قليلاً؛ أما إن كانت تشمئز النفس منها، فإن العالم نفسه يلومك، أنت الذي تستحق من اللوم قليلاً كذلك)

وفي عام 1930 قدم هـ. و. جَرُد لطبعة هذا العام من هذه القصة، بمقدمة أيد فيها شارلوت في تفسير قسوة القصة بالقضاء والقدر أو الإلهام، وقال:

(إذا لم يمكن وصف قصة مرتفعات وذرنج بأنها أعظم قصة (غير مسرحية) في لغتنا، فإن لها على الأقل أن تدعونا بعدل إلى اعتبارها أصفى قصصنا إلهاماً؛ وقد أحسنت شارلوت برونتي كشف قوتها العجيبة إذ تكلمت على (القدر أو الإلهام) (إلى أن قال): ليست الطبيعة، بل القدر، يبدو أنه أخذ القلم من الكاتبة، وكتب لها. (حتى قال): لو كان مدب القصة شيئاً أقل من (القدر أو الإلهام) لكانت سفينتها غرقت وسط متاعب الأنانية)

هكذا قال مقدماً القصة الغريبة الرفيعة. ولم يكن يسع شارت الموهوبة الملهمة إلا أن تتأمل غرائب القصة وسببها الدافع وإلا أن تجد أنه القدر. أما الإلهام فمن القدر. ولم يكن يسع (جَرُد) إلا أن يُعجب بهذا التوفيق إلى تفسير سبب هذا العمل الأدبي الطافح بالقسوة والغرابة، وإلا أن يؤيده ويكرره في راحة وسرور

ولو لم تتكلم (شارلوت) و (جرد) عن عمل القدر في هذه الرواية لكان جديراً بنصف قراء هذه القصة أن يتساءلوا مستنكرين: لماذا قسمت حظوظ شخصيات هذه القصة كما قسمت؟! ولماذا نجح الشر فيها كل ذاك النجاح؟! ولماذا شقيت شخوصها الطيبة ما شقيت؟!

طالعت كثيراً من المآسي فلا أذكر أني عجبت من المؤلف عجبي من إميلي برونتي وإن تكن قصتها المحشودة بالمآسي ليست في قالب المأساة

الناس يشقون بمكتوب القدر، ويسألون الله اللطف والرحمة؛ وقد يتعجبون في تسليم من الحكمة الخفية كيف تكون. وقد يستغربون وجود غاية مجهولة معقولة لأن عقولهم لا تغني في هذه القضية بغير إيمان ثابت. فقد يسأل القارئ بعد تلاوة هذه المأساة وأمثالها: أما كفى المؤلف شقاء الناس في الحياة فيشقي شخوصه في الورق والخيال وهي من صنع يده لولا أن قَدَر الحياة يتدخل في قَدَر الخيال! إنه لا يجوز أن تشقى هكذا تلك الأحياء الخيالية الطيبة. فإن جاز شقاء شخوص روائية فحين يصف مؤلف أشخاصاً حقيقيين في قصة وصفية غير وضعية إلا أن يكون المؤلف قاسياً وحشياً

ويظهر أن مخرج هذه الرواية للسينما راعى شيئاً من ذلك، فرأيناها خلواً من شر ما فيها من شذوذ وقسوة. وإن يكن قد شوهها بالبتر والاقتضاب والتعديل

هذا، وقد كان كلام شارلوت على القدر والإنسان والاختيار المتروك له، وهو مناط الكسب، كلاماً صائباً يوافق في عمومه رأي السيد جمال الدين الأفغاني في مقالة (القضاء والقدر)

وفي (عهد الشيطان) للأستاذ توفيق الحكيم أقصوصة عنوانها (الأميرة الغضبى). وهي (ريسكا) بطلة قصته (أهل الكهف). والمؤلف يحاور بطلة قصته بهذا الحوار الذي طرق به موضوع القدر:

- قل لي أنت قبل كل شيء: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟. . . لو أن قلمك تمهل لحظة قصيرة ولم يقصف تلك الحياة لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!

- لست قاسياً يا سيدتي ولا ظلوماً. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر

- لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟

- لا تحمليني يا سيدتي هذه التبعة!

- جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!

- آه، ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود

- نحن الظالمون وهم المظلومون. . . شيء بديع!

- إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم، وهم براء من كل صفة من هذه الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغى إله لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة عين، كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة، ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلا يا سيدتي. إني لم أرد موت مشلينيا ولم أرد بقاءه، ولم أحب ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل، إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: (التناسق)

فكيف لا يعرف الخالق الذي يحدثنا عنه الأستاذ الحكيم الظلم والعدل والقسوة والحنان والغضب والرضى وهو الذي خلقها؟! وكيف لا يشعر بها وهو يتصف بأكثرها؟ أو أن هذا الذي يصفه الأستاذ طراز من الخالقين طريف: اختصاصه الأبدان وليس من اختصاصه العواطف!

وكيف يجهل هذا الخالق المفاجآت ولا يحسب حساب الظروف وطارئ الطلبات، والمخلوقات يعرفونها ويعدون لها ما استطاعوا من عدة؟! أفينحل الكون العظيم لو أجاب الخالق دعاء إنسان يطلب شيئاً معقولاً هيناً على القدرة الإلهية؟!

وما عزاء المتدين عن مصائبه إذا لم يكن له أمل في رحمة الخالق وفي نعمة الجنة؟ إذن ما أضيع المخلوق! وما هذا التناسق الغريب الذي لا يكون إلا مركباً من نسبة من الشر لا تنقص؟! فكيف إذن يكون الحال في الجنة التي لا شر فيها، ألا يكون فيها تناسق؟! كذلك القصص التي ليست مآسي، هل انعدم التناسق فيها؟! فإن يكن المراد (التناسق الذي يقتضيه الحال) فأين إرادة الخالق واختياره؟! وكيف يكون خالقاً من ليست له إرادة ولا اختيار ولا تدبير فيسيطر عليه المقام والسياق والاتفاق! فقد يسوقه التناسق فينساق فيكتب في لوح القدر تراجيدية أو درامة أو كوميدية. . . ثم هو بعد ذلك خالق وله قدر!

وقد انتهى دور أفلاطون في مسرح الدنيا، لكن ديكنسون استطاع أن يهيئ له مرة أخرى دوراً في محاورته (بعد ألفي عام) وهي حوار بين أفلاطون وبين شاب عصري كذلك أسدل الستار على حياة فولتير وواشنطون ونابليون، لكن مادارياجا أنطقهم وبعثهم في الخيال المسطور في (ساحات الفردوس). وقد رقد المعري بعد سهاد دنياه ولكن الأستاذ العقاد أيقظه ليسجل في صفحات (رجعة أبي العلاء) أنباء رحلته في هذا العصر في الدنيا الحديثة. هذا وإن كان الأستاذ العقاد قي استصوب كلام الأستاذ الحكيم في (كناشة الأسبوع) بقوله:

(وهذا كلام جميل أصيل لا يحل به المؤلف مشكلة بريسكا وحدها ولا مشكلة الفن وحده، بل لعله يحل به مشكلات كثيرة، ويكشف به أسراراً كثيرة، من مشكلات القدر وأسرار الوجود)

لقد أراد الأستاذ الحكيم أن يفسر القدر في القصص فنظر إلى القدر في الوجود فلم يوفق إلى حقيقتهما معاً حيث وفقت شارلوت برونتي إلى تفسير أقدار القصص برأي معقول. وللحكيم العذر في إخفاقه لأنه سلك سبيل القدر الإلهي، وهو عصي على الإفهام

شجعني على إبداء هذه الملاحظات على (سُنَّة) الأستاذ الحكيم في (مخلوقاته) الروائية، أنه (خالق) لا يعرف الغضب ولا يشعر به، وأني لست مخلوقاً روائياً فأدخل في اختصاصه. . .

عبد المجيد مصطفى خليل.