مجلة الرسالة/العدد 390/من وَراء المِنظَار
→ من وحي الريف | مجلة الرسالة - العدد 390 من وَراء المِنظَار [[مؤلف:|]] |
رسَالة الشِعر ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1940 |
1 - صاحب السلطان الحقيقي
وهذا صاحب سلطان آخر لم أدر بادئ الرأي ماذا أسميه، وترددت بين أن أنعته بصاحب السلطان الثعبان وأن أسميه صاحب السلطان المهرج أو المشعوذ أو النصاب، حتى رأيتني أدعوه آخر الأمر على رغمي صاحب السلطان الحقيقي، ولعلها بعد كرامة من كراماته! والحق أني لم أر حتى اليوم من أصحاب السلطان من بلغ من الجاه نصف ما بلغه منه ذلك الألعبان الثعلبان
دخل الحجرة في نفر من حاشيته فسلم مسبل العينين خافض الجناح مطأطئ الرأس يكاد يتهدم من الضعف ويبدو كأنما ينوء بعمامته الحمراء الضخمة التي تعلو جبينه العريض، والتي زاد من حمرتها شدة بياض لحيته وشعر عارضيه وفوديه؛ وجلس وهو يلملم هلاهيله ويضعها بحيث لا تخفى مسبحته العظيمة التي تدور بعنقه وتتدلى إلى منتصف بطنه، وما برح يتمتم ويحرك شفتيه وهو يخلع نعليه حتى تربع على الكنبة وأسند عصاه إلى جانبه
وأحسست وقد استوى على الأريكة جواً من الهيبة يشيع المكان كله، فقد سكت الجلوس سكوتاً لم تتخلله إلا عبارات الترحيب والتحيات تزجى إلى الشيخ من كل ناحية، وهو لا يرد إلا همساً كأنما يحدث نفسه؛ وما دخل إنسان من أهل القرية تلك (المنظرة) التي جلس فيها الشيخ، والتي اتخذها العمدة مكان سهره وموضعاً للفصل بين المتخاصمين، حتى أقبل على الشيخ فتناول يده من فوق المتكأ فلثمها وردها إلى مكانها في خشوع ورهبة وفي نفسه من الغبطة من لثم يد الشيخ ما ينسيه قضيته إن كان صاحب قضية، أو يذهب كربته إن كان ذا كربة. . . وما رأيت قط صاحب قضية جرؤ على الإفضاء بما جاء من أجله في حضرة الشيخ، فليس من اللائق أن ينشغل المجلس عن الشيخ بقضية من القضايا مهما بلغ من خطرها، وإن كان الشيخ ليبدو وكأنه في شغل عمن حوله بما هو فيه من تمتمته وإطراقه
ولبث الشيخ على تلك الحال إلى أن رأيته ورآه من في الحجرة يهز رأسه هزاً عنيفاً ذات اليمين وذات الشمال ثم يدق كفاً بكف قائلاً في صوت مرتفع وعيناه مغمضتان: (الله! الله لطيف بعباده. . حي يا قيوم اصرف عنا الأذى. . . اصرف عنا الأذى يا الله!) ونهض الشيخ فراح يمشي في الحجرة جيئة وذهاباً وفي وجهه عبوس وضجر وخوف وقد فتح عينيه ولكنه لم يرفعهما عن الأرض كما أنه لم يفتر عن هز رأسه تلك الهزة السريعة العجيبة. . . ودخل الحجرة فتى يلبس جلباباً أبيض فضفاضاً واسع الردنين والطوق إلى درجة غير مألوفة، وتبينت أنه من حاشية الشيخ فقد جلس بين أصحابه دون أن يسلم على أحد حتى على أهل المنزل وهذه أمور يتقنها هؤلاء (المجاذيب) وينفردن بها من دون الناس إلا من المجانين
ورأيت الشيخ يلمحه عند دخوله لمحة خاطفة ما أحسب أحداً لاحظها لفرط سرعتها؛ وبعد أن قطع الشيخ الحجرة في ذهابه ومجيئه بضع مرات عاد إلى مكانه وجلس فأطرق قليلاً ثم هب واقفاً في حركة (بهلوانية) عجيبة كأنما أطلقه لولب خفي وصاح قائلاً: (يا خفي الألطاف) وعاد فجلس والعيون ترمقه في دهشة وحيرة. ودخل الخادم يقدم القهوة فبدأ بالشيخ ولكن الشيخ أشار إليه بيده إشارة عصبية، ونهض اثنان من دراويشه فصرفا الخادم عنه لأنهما يعلمان من حال شيخهما ما لا يعلمه ذلك الخادم الذي التقت الدهشة في وجهه بالرهبة والاحتشام. ثم إن الشيخ عاد فوثب من موضعه وثبة من لدغته عقرب لدغة أطارت صوابه وصاح في صوت مزعج: (يا لطيف! يا لطيف. . . حوش يا رب حوش بحق جاه سيد المرسلين. . . الطف يا لطيف سقت عليك النبي. . . سليمة إن شاء الله، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً. . .)
ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الجالسون صفير الخفراء من أطراف القرية البعيدة، وحضر العمدة ومعه بعض الرجال، ثم عادوا بعد حين يعلنون أن الحرائق الثلاث أخمدت سريعاً والحمد لله. ونهض الشيخ يريد الخروج فقد رأى في وجه العمدة ما لا يخفى معناه عليه، وخرج الناس وراءه وما منهم إلا من يتمسح به ويزحم غيره ليحظى بلثم يديه فإن لم يستطع قنع بلثم ردائه، وقد ازداد الشيخ عظمة في نفوسهم بما أظهر من كرامة لا تنكر، ولما كانوا عند الباب الخارجي سمع لغط شديد وجلبة تتخللها الإيمان بالله والطلاق، وتبينا أن كلاً من هؤلاء يتمسك بأن ينال شرف مبيت الشيخ عنده؛ وفصل الشيخ في الأمر بإشارة منه أذعن لها الجميع فقد اختار من بينهم من يضيفه وأنعم عليه بهذا الشرف العظيم.
ودارت الأيام ورأيت الشيخ في مواطن كثيرة، أرجو أن أسوق إلى قارئي العزيز بعض ما التقطه منظاري منها ليؤمن معي إن لم يكن قد آمن بعد بأن الشيخ هو على رغم الناشين المنكرين من أمثالي صاحب السلطان الحقيقي.
الخفيف