مجلة الرسالة/العدد 389/رِسَالة الفَنّ
→ رسَالة الشِّعر | مجلة الرسالة - العدد 389 رِسَالة الفَنّ [[مؤلف:|]] |
البَريدُ الأدبيّ ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1940 |
شيء موجود
الانجذاب
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يصف عامتنا الرجل الطويل اللسان الذي لا يكتم الحق، والذي يلقيه على عواهنه يخز به الصغير ويخدش به كبرياء المتكبر، ويجر به الخير ويسبب به الكارثة. . . بأنه (مسحوب من لسانه) وهذا الوصف يفهم فهمين: الفهم الأول هو ما تؤدي إليه هذه الصورة المادية التي يقعد عند إدراكها القانعون بالصور المادية، والفهم الثاني هو ما يدركه الطماحون الذين يسعون إلى المعاني، والموهوبون الذين تسعى المعاني إليهم، وهو أن يُعتبر الرجل المسحوب من لسانه إنساناً إذا رأى الحق انشدَّ إليه فلم يتثاقل عليه، ولم يفكر في الامتناع عنه، ولم يتريث في الذهاب إليه، وإنما هو يندفع قاصداً إياه ليسكن فيه، ولينعم بلذة هي السكنى، ولينتشي بما تبعثه في نفسه من الاطمئنان الذي لا يرتاح إلا إذا حصله والذي يقلق إذا فوّته، وهو في اندفاعه نحو الحق لا يمشي على رجليه، ولا يطير بجناحيه، وإنما يحرك لسانه بالقول يقرر به الحق الذي لمحه من غير جهد يبذله في تحريك لسانه، ولا عناء يتجشمه في تقريره للحق. بل إن الجهد يبذله إذا أمسك لسانه، والعناء يتجشمه إذا قاوم الحق وتعنت معه والتوى عليه. . .
وهذه الصورة المعنوية للرجل المسحوب من لسانه هي نفسها صورة المجذوب الذي يبيع الدنيا بكلمة حق يقولها فيفتقر ويخسر الناس، ويطيح إلى خارج أنظمتهم وقواعدهم، ويعدم النصراء منهم والأنصار ويتلقى على أم ناصيته التهم تكال له جزافاً أشرفها وأنظفها أنه مجنون لا عقل له ولا تمييز، والسخرية تنهال عليه من كل جانب لأنه الإنسان الشاذ الذي يقول ما لا يصح أن يقال والذي يفعل ما تواطأ الناس على ألا يفعلوه. . . وهذه الصورة هي أيضاً نفسها صورة الأديب الفنان الصادق الحس السليم المنطق الصادق التعبير الواضح القصد، فهو نفسه المجذوب وهو نفسه المسحوب من لسانه الذي يقول للمجتمع مهما اغتر المجتمع: إنك يا أيها المجتمع مغرور ومخطئ، والذي يقول للسلطان مهما قوي السلطان ومهما اشتد: أيها السلطان إنك حائد عن الحق ومنزلق إلى الباطل، والذي يقول للعقيدة مهما تغلغلت في النفوس وتأصلت في القلوب: أيتها العقيدة إنك فاسدة ترتكزين على مغالطة، فانهاري لأقيم مكانك في نفوس للناس عقيدة أخرى تقوم على أساس من الحق الصافي.
وهذا الأديب لا يصل إلى هذه الدرجة من قوة النفس إلا عن واحد من سبيلين. فإما أن يكون قد ولد من أبوين صادقين غربلا نفسيهما قبل أن ينتجاه، ونفيا عن روحيهما كل خدعة وكل أكذوبة، وركنا إلى الحق في إحساسهما وتفكيرهما ونزعاتهما، ولم يعودا يتأثرا بالهوى، ولم يعودا يظنان بأنه كان يصح أن يكون لهما أكثر مما لهما، وهذان أبوان لم يلتقيا. . . وإما أن يكون كبقية الناس قد ولد وقد ورث نواة الخطيئة الحادثة من تفاعل الغرور عند أبيه والطمع عند أمه، وأن يكون قد انتبه إلى هذا على أثر حادثة من الحوادث، فبدأ بأخذ نفسه بمراقبة الحق وتحريه والقصد إليه حتى تنفتح نفسه للحق انفتاحاً فيحبها الحق كما تحبه وينزل فيها كما تنزع إليه، وليست نفس الإنسان إلا حقاً من الحق إذا صفت وانغلقت دون الغرور والطمع نمت خالصة واستدعت من الحق حقاً وحقاً، وكلما أحاطت بحق مثلته فصار منها، وكلما كبر ما فيها من الحق وزاد، اشتدت قوتها على استدعاء الحق الذي غاب عنها، ولا تزال هكذا حتى يكون لها إذا أرادت أي حق أن يلبيها مهما كان نزاعاً إلى التستر.
والإنسان الذي يحاول هذه المحاولة ويعاني فيها هذا العناء، ليس له قصد إلا هذا الحق المجرد، فهو إذا وصل إليه مجذوباً، حدث بينه وبين الحق تصادم هو عناق اللقيا، وكان لهذا التصادم صوت هو قبلة الشوق، وهي من الأديب كلام، ومن سواه فنون أخرى. . .
وقد تعجز أي قوة في الأرض عن أن تحول بين الأديب المجذوب المسحوب من لسانه وبين كلمة الحق يفرقعها رنانة مدوية كما يفرقع العاشق المجنون قبلة التحرق إذا التقى بحبيبه.
وكما أن العاشق المجنون يظل يسعى، ويظل يصبر الزمن الطويل حتى يلتقي بحبيبه بعد أن يكون قد داخ في البحث عنه، وفي الصبر عنه، وفي الشوق إليه، فإن الأديب المجذوب هو أيضاً يظل يسعى، ويظل يصبر الزمن الطويل وهو مملوء شوقاً إلى حق يعلل به حقاً، أو يقيم عليه حقاً، فكيف يمكنه إذا لمحه وتبينه أن يعود إلى الصبر عنه والصبر مر؟! إنه لا يعود إلى الصبر، وإنه ليتهافت على معشوقه الذي كان غائباً عنه ثم تجلى. . . سبحانه من معشوق وتعالى!
هي دوخة يدوخها المجذوب قبل أن يصل، فلا يلومنه إنسان إذا هتف كذلك الذي هتف وهو عريان في الحمام، وقال: (وجدتها)! وانطلق من الحمام وهو عريان ليعلن أمام مخلوقات الحق أنه قد وجدها، وهي أنه إذا غطس جسم في الماء انزاح من الماء ما يساوي حجمه حجم ذلك الجسم الغاطس. . .
وفي أثناء هذه الدوخة تظهر على الأديب المجذوب المسحوب من لسانه إمارات لا تظهر إلا على الدائخين فعلاً وحقاً فهو إذا انفرد بنفسه أو إذ لم ينفرد بنفسه فهو لا يفتأ يفكر مع نفسه ويتناقش مع نفسه، ويتحدث مع نفسه بالإسرار أحياناً، وبالجهر أحياناً، وإن عقله ليهديه في بعض الأحيان إلى ما يحسبه حقاً ثم يهديه بعد ذلك إلى ما يهدم هذا الذي حسبه حقاً فإذا به يضحك فجأة وهو منفرد أو بين الناس ساخراً من نفسه لأنه حسب باطلاً من الأباطيل حقاً في زمن من الأزمان، وقد لا تقف به الحال عند الضحك. بل إنه قد يلطم نفسه لطمة، وقد لا يقف به الحال عند هذا بل إنه قد يضرب رأسه في جدار إذا كان قد رتب على هذا الباطل الزور قولاً فأعلنه أو فعلاً فأداه.
إنه يعامل نفسه كما يعامل غيره. بل إنه ليشتد مع نفسه ويصارحها بعيوبها أكثر مما يشتد مع الناس وأكثر مما يصارحهم بعيوبهم، فليس هناك ما يدعوه إلى أن يترفق مع نفسه كما يترفق مع الناس مجاملة أو تهيباً أو توقيراً أو عطفاً أو شفقة، وهو مع شدته هذه أشد الناس رحمة لنفسه، فهذا الذي يصنعه ليس إلا تخليصاً لها من أدران البهتان وظلمات الأراجيف.
وإذا كنا قد رأينا أديباً كهذا الأديب قد انشطرت نفسه شطرين وتسلط كل شطر منهما على الآخر يحاسبه ويناقشه ويناضله كمن بينهما عداوة تهدي إلى الحق، فإننا قد رأينا أيضاً مغنين مجذوبين ورسامين مجذوبين وممثلين مجذوبين ومجذوبين آخرين من غير هؤلاء وهؤلاء.
والفرق بين كل واحد من هؤلاء وبين الأديب المجذوب، أن الأديب المجذوب مسحوب من لسانه إلى الحق فهو يعلنه بالكلام الملفوظ أو بالكلام المقيد كتابة، وأن الواحد من هؤلاء مندفع إلى الحق ومتجه إليه بناحية أخرى من نواحي نفسه المنشقة هي أيضاً شقين، والمشطورة هي أيضاً شطرين.
فالمغني المجذوب تراه وهو في حالة الانجذاب وقبيل أن يستقر على صوت روحه يهتز ويترنح - كما يفعل الشيخ علي محمود - يريد ألا يمر من حنجرته إلى الخارج إلا صوت مبعوث من قرارة نفسه فيه التعبير الصادق عن المعنى الذي يقصد إلى التغني به. وهو لا يزال في هذا الاهتزاز وهذا الترنح المتعبين حتى ينطبق كل شطر من شطري نفسه على صاحبه فإذا تم له هذا التوحد الروحي انطلق الغناء من صدره. . . ومن أعماق صدره. . . وجاز حنجرته منساباً مختاراً لا يتحسس أوتارها، ولا يضغط على مقاماتها، ولا يرعى ما يراه المغنون من وزن النغمات وربط الضرب وتقييد الواحدة، وإنما أرسل الغناء إرسالاً تعبيراً ساذجاً صادراً من نفس تغني. . . وعندئذ يكون المغني كما يكون الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي وهو يقرأ غائباً عن الناس أو في شبه غيبوبته عنهم. . . وكما يكون أيضاً الشيخ علي محمود عندما يتجلى الله عليه فلا يجاريه إنسان.
وقد ينجذب المغني إلى حق التعبير عن نفسه بالغناء فلا يعبأ بالناس أن يستمعوه أو أن ينفضوا من حوله فهو يغني لغير مستمع أو لأي مستمع، وهو يغني منفرداً كما يغني في الجماعة، وهو يغني في مقام الغناء وفي غير مقامه، وهو يحترف الغناء أحياناً ويكف عن احترافه أحياناً كما يفعل الأستاذ مصطفى أمين الذي كانت له (شنة ورنة) منذ سنوات والذي لا يكاد أحد يدري أين هو الآن، والذي قيل لي منذ عام أن نفراً من أصحابه يشتبهون في متسول مغن أن يكون هو الأستاذ مصطفى أمين أرسل نفسه في الدنيا ينشد تسبيحاً لله وصلاة وتسليما على رسوله. . .
والرسام إذا انجذب. . . فيا ويل الأوراق والأقلام والألوان منه. . . إنه يخبط بعضها في بعض، ويخرج من هذا الخبط بأشكال يرضيه بعضها وينفره بعضها، ويرى هو فيها جميعاً ما لا يراه غيره من العيب والنقص، وقد يكون رسمه مؤدياً لما لا تبلغ إليه أيدي الرسامين من معاصريه، ومع هذا فهو الذي يعلم أن عمله ناقص، لأنه هو الذي يحس أنه لا يزال في الطريق مدفوعاً نحو تلك الصورة التي تتخايل أمام عينيه غامضة وراء أحجبة الزور وسحابات الباطل. . . فإذا ما اقترب. . . أو إذا ما وصل فعندئذ ينفجر بالصورة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها، ولا اضطراب، والتي لا أثر فيها لانشقاق النفس وانشطارها، والتي هي أثر من آثار توحد النفس: إحساسها، مع إدراكها، مع خلقها، مع تعبيرها. . .
والممثل إذا انجذب إلى دور كان كالأستاذ عزيز عيد وهو مجذوب إلى دور مجنون ليلى. . .
كل الممثلين، وكل النقاد، وكل الناس كانوا يسخرون منه، وعلى الخصوص بعد أن شاهدوا المجنون من الأستاذ أحمد علام الممثل المتعشق المتأنق اللبق، فلم يجدوا مطلقاً ما يبرر ظهور عزيز عيد في هذا الدور الذي قال الناس جميعاً إنه لا يصلح له لا بجسمه ولا بنفسه. . . وليس الأستاذ عزيز عيد بالرجل الذاهب العقل، ولكن عقله ذهب إلى هذا الدور، واستهان بعلام فيه، كما استهان بحسين رياض فيه، وهو لم يستهن بهما على تمكنهما المعترف به إلا لأنه كان يرى للمجنون صورة أبعد نحو الحق من الصورة التي رأياها هما. . . هي صورة لما رأيتها منه أبصرت فيها من المسيح ملامح. وقد ظل عزيز عيد يخاصم أهل الفن جميعاً في سبيل هذا الدور حتى تعب هو نفسه منه لأنه اقتنع في آخر الأمر بأن مادة بدنه تقعد عن تحقيق الصورة الخيالية اللطيفة التي يتصورها، وأنه لن يستطيع أن ينقل من هذه الصورة إلى أذهان الناس حتى ولا التظليل الباهت الغامض، وأنه محتاج إلى جمهور من الملائكة أو الجن يستشفون روحه من وراء مادة بدنه. . .
عافاه الله من ممثل عاشق لفنه، صادق في عشقه، مجذوب.
عزيز أحمد فهمي