مجلة الرسالة/العدد 384/من وحي المنصورة
→ شعر الزواج | مجلة الرسالة - العدد 384 من وحي المنصورة [[مؤلف:|]] |
عراك في معترك ← |
بتاريخ: 11 - 11 - 1940 |
الهروب من النفس
للأستاذ حبيب الزحلاوي
صديقي الدكتور مبارك
سواء خُدعت فوقعت في الشرك المنصوب، أو سولت لك نفسك صيد السمك في المنصورة، أو طمعت في سماع أحاديث (الزيات والزناتي) الحلوة وغير الحلوة، أو طاب لك أن تثرثر في رفاق ظننت أنه لا يستوي عندهم كلامك المقول والمكتوب، سواء أكان هذا أو ذاك، فأكبر الظن عندي أنك فزعت إلى البلد الأمين تنشد الهروب من نفسك!! أليس كذلك؟
للهاربين من نفوسهم قصص وحكايات يعرفها ويضمرها السكير والحشاش والمقامر، وأيضاً المتسكع في الطرق، والضارب في الفلوات، والقاعد في المقاهي، وكل هذه أنواع من بواعث، وأشكال من أسباب، يفتعلها المأزوم للخلاص من همه، فيها الظريف المستملح، وفيها المجرح المؤلم
ومن أظرف حكايات الهاربين من نفوسهم حكاية فزع إبراهيم ناجي الشاعر إلى ديوان زميله ونده الشاعر قسطندي داود كلما استحكمت أزمة نفسه أو افتعلها لها من توهماته وظنونه، ومن يقرأ أشعار ناجي ير مسحة من روح (داودية) شفافة تجلي غمامة الصدر وتبعث الضحك؟ ولو كنت يا صديقي ممن قدر (عليهم) أن يكونوا عرضة للأزمات النفسية التي يزنها الشاعر بميزان مزاجه وعاطفته وتصوراته، فعليك بلا توان بواحد من ديواني شعر الدكتور ناجي أو قسطندي داود فالبرء في قراءة أشعارهما لاشك مضمون
وحكاية ثانية عن الهاربين من أنفسهم بطلها (العبد لله) فعندما تغشاني الغاشية وتكون مسببتها الشيطانة (هي) لا أعمد إلى المسكر، ولا إلى أي سبب يمت بصلة إلى تغشية الواقع بالأوهام أو طلائه بالضحك، بل أتناول كتاباً ضخماً أسميته أنت تجوزاً أو اعتباطاً (ليلى المريضة في العراق)
وكنت أقلب، يا صاحبي المبارك، صفحات كتابك صفحة فصفحة، وأمعن وأغذ السير معك، متشوقاً متطلعاً إلى رؤية وجه ليلى الممرضة يصطفق روحها نفسي المريضة، فك يجابهني وجه الحريري، أي الصفاح من خدك الأعوس، فأضحك وأضحك! ولكن سرعان ما أطرح الكتاب جانباً، وأنطوي على نفسي أستجمع قواي المبعثرة وذهني المرتكز حيال أمر واحد متكتل كخيوط في الشوك
لسبب لا أذكره ترفعاً وكبرياء، وجدت نفسي في حومة الأزمة الجائحة تحيط بي الثائرة المجنونة من كل جانب، تسد علي المسالك
تعلقت بكل خيوط الفرج من أضراب ناجي وداود ومبارك وأمين في قصة سارة، أطبقت الأزمة على نفسي وألقتني في الأسر والعبودية! وإن من الناس يا صاحبي من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم
تذكرت الخدعة التي أوقعك فيها أصحابك، ووسيلة (صيد السمك) التي حفزتك إلى السفر إلى المنصورة، فلقيت أنت فيها الوحدة والوحشة وانقباض الصدر فأخذت تصرخ وتئن! أما أنا فقد صفقت لها طرباً، فعمدت في التو إلى خداع نفسي، فركبت السيارة إلى المنصورة، وصدفت عمداً عن (الزيات) وكافورته، وألقيت بنفسي في وهاد الوحدة
حقاً إنه لأمر مروع يا مبارك أن يبقى الإنسان منفرداً في عتمة الليل عند شاطئ النيل الساجي لا يسمع إلا رشاش الأمواه تقطر من مجاذيف الفلك، مع من أقامه قاضياً على نفسه ومنتقما منها بالشريعة التي اشترعها، ولكني لقيت الراحة في الانفراد ليقين صادق مني بقول نيتشه القائل: (إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه؛ فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت)
لم أستسلم لهذه الأمنية بل صممت على الظفر بالعواطف والانتصار عليها
كدت أسقط يا صاحبي فريسة سمكة ليلية حاولت اصطيادي مستغلة وحدتي وانفرادي، والمنفرد كما تدري، يمد يده مسرعاً بلا وعي لمصافحة من يلتقي بطريقه، ولم يصدني عن مدها سوى خيال بدا كالشبح أمامي وهمس في أذني: (إن كثيراً من ساميات الأفكار أضراب شيطانتك تعمل عمل الأكرة المنتفخة فلا تكاد تتضخم حتى تضمر) وأردف قائلاً بصوته الأجش وقد شاع شيوع الروح في جوانب نفسي (أأنت عاشق أيها الأديب المنفرد؟ اعشق نفسك أولاً ثم احتقرها، فالأديب العاشق لا يبتدع إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب!!)
غاب الشبح عن ناظري فلقيت نفسي أسير على غير هدى وبيدي ما يثقلها وهو كتاب لتوماس هاردي ترجمه الأديب فخري أبو السعود. جلست في أول قهوة رمضانية أقرأ روح هذا الشاب المنتحر وقد مزجها بروح المؤلف العبقري
عليك الرحمة أيها الأديب المنتحر فقد عرفت كيف تحب وتنجب وتحتقر، وكيف تتفوق على إنسانيتك، أما أنا فمازلت أحب، وأحب الحياة. . .
وأنت أيها الدكتور مبارك فسلام عليك من صديق يحبك ولا يحتقرك
حبيب الزحلاوي