الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 384/عراك في معترك

مجلة الرسالة/العدد 384/عراك في معترك

بتاريخ: 11 - 11 - 1940


أي معترك!

للأستاذ زكي طليمات

- 2 -

تعسف الأستاذ محمد متولي في رده علينا متسقطاً أخطاء لم تقم إلا في وهمه، وأسف إلى السباب وسقط الحديث في جدل يجب أن يسوده الوقار والحجة العلمية، كما أوضحنا ذلك في مقالنا الأول، فانحرف متولي بذلك عن (موضوعية) النقد الذي تحدث عنها بطرف لسانه دون طرف سنانه

(1) حكاية الفيلسوف المعاصر

والدليل على ما نذهب إليه - وهو ليس الأول والأخير - أن متولي في غيبوبة ألمه - ومصدر هذا الألم أننا رددنا أقواله بالحجة - أصدر أمراً بإرسالنا إلى (محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته وتعاقبهم على جناياتهم) لأننا وصفنا في سياق حديثنا الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) بأنه (الفيلسوف المعاصر)، هذا في حين أن وليم جيمس هذا توفي عام 1910، وكأننا بالأستاذ متولي يقول إننا تكلمنا عن فيلسوف لا ندري متى انتقل إلى الدار الباقية، وإن كلمة (معاصر) هذه لا تنطلق وصفاً إلا لفيلسوف ما برح يعيش في عصرنا برئتيه وبقلبه!

وحرصنا على أن يزداد الأستاذ متولي علماً، وبرنا بذهن القارئ الذي هو أمانة بين أيدينا يدفعاننا إلى التبسط في حديث ما كان أغنانا عنه لو كان الأستاذ متولي يعرف الموضوع الذي يجادل فيه، أو يعرفه ولم يغالط ويعاند

إن كلمة (معاصر) هذه تعدل على أقلام الكتاب عندنا كلمة الفرنسية، وهي في اصطلاح مؤرخي الأدب ونقاده تطلق وصفاً للآراء والاتجاهات الأدبية والعلمية والفنية التي يأخذ بها عصر من العصور في نواحي من نتاجه الذهني. وقد نص على هذا المعنى المصطلح عليه العلامة في مؤلفه (معجم اللغة الفرنسية) وهو حجة المعجمات الفرنسية بما يأتي:

' ' وترجمة هذا النص: (إن الرأي المعاصر هو مجموعة أشياء يعتبرها مجتمع ما حقيقة في عهد معين)

فإذا نحن وصفنا (وليم جيمس) المتوفى عام 1910 بأنه (معاصر فمعنى هذا أن آراءه الفلسفية مازالت يؤخذ بها في شئون الفلسفة وفي شئون الحياة. (فالبراجماتيزم) أو مذهب (الذرائع)، وهو المذهب الذي صاغه جيمس نفسه ما برحت له أطراف طويلة تمتد على الفلسفة الحديثة وعلى سلوك الناس. فقد قرر (موسوليني) يوماً أنه (يدين لوليم جيمس بكثير من آرائه السياسية، وأنه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً)

ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن (نيتشه) الفيلسوف الألماني المتوفى سنة1900، أي قبل وفاة وليم جيمس بعشر سنوات، له جانب كبير من فلسفته مازال (معاصراً) على الرغم من مرور السنين ووفاة صاحبها. فالدكتاتورية اليوم، ومظهرها النازية والفاشية، بدعوتها إلى استخلاص العنصر الآري ورعايته يهدد جانب العناصر الأخرى، إنما تستمد معينها من فلسفة (نيتشه)، التي تقوم على عبادة القوة، إذ القوة في نظر هذا الفيلسوف، كما هي في نظر الألمان والإيطاليين اليوم، هي الفضيلة السامية، والضعف هو النقيصة السافلة، والشر المستطير الذي يجب القضاء عليه!!

فإذا كان الأستاذ متولي لا يفهم هذا، أو هو لا يريد أن يفهمه مكابرة وعناداً فهانحن أولاء نسوق إليه براهين حسية تنهض حجة على ما نذهب إليه في أن كلمة (معاصر) يذهب معناها إلى ما قررناه، وقرره قبلنا كبار الكتاب والنقاد.

(ا) ألف العلامة دانيل مورنيه كتاباً في الأدب الفرنسي أسماه (تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين المعاصرين 1870 - 1927) درس فيه الشعراء والكتاب منذ 1870، فقدم أبحاثاً عن (زولا) و (دوديه) و (موباسان) و (فلوبير) وغيرهم من الكتاب و (بودلير) و (فيرها رين) و (مالارميه) و (فارلين) من الشعراء، باعتبار أنهم كتاب وشعراء معاصرون في حين أن جلهم توفوا منذ سنوات بعيدة، ذكر (مورنيه) هؤلاء وغيرهم إلى جانب المحدثين باعتبار أن مذاهبهم في الأدب ما برحت تسود نواحي من نتاج الأذهان في هذا العصر هذا في المؤلفات الأدبية، وفي مؤلف يقرأه طلاب الأدب!

(ب) وفي الفلسفة - والأمثال عديدة - أخذ العلامة بالمعنى الذي ذكرناه لكلمة (معاصر) وذلك في كتابه (المسألة الأخلاقية والفكرة المعاصرة)، وهو كتاب ظهرت له طبعة بباريس سنة 1909، وفيه أنشأ المؤلف بحثاً في آراء العالم الأخلاقي الكبير صاحب مذهب (الآراء على أنها قوى)، وحصل بعد ذلك أن توفي العالم المذكور سنة 1912، وفي عام 1920 أعيد طبع هذا الكتاب بعد الزيادة والتنقيح. فإذا هو لا يزال يحمل اسم (الفريد فوييه) باعتبار أن آراءه في الأخلاق ما برحت قائمة، ولم يأت بعدها ما يعطلها أو يضفي عليها مسحة فوات الأوان!

فما رأي الأستاذ متولي في هذا؟ وبماذا يحكم القارئ؟ أنا متولي الذي يصح أن يقدم إلى المحكمة التي تحاسب المستهترين المتطاولين على العلم؟

(2) الرمزية وعلم النفس وأيهما أفاد من الآخر؟

وثمة شيء آخر لا أسميه من جانب الأستاذ متولي الذي يحمل من العلم شهادة يزهي بها

ذكرنا عرضاً في مقالنا الذي صححنا فيه أخطاء متولي أن علم النفس أفادت منه الرمزية، فرد علينا متولي بأسلوبه الموصوف: (إن علم النفس عندنا شعبي خاطئ لا يزيد على ما نسمعه من بعض زبائن قهوة بيرون)

وردنا المتواضع أن نكلف الأستاذ متولي مشقة قراءة كتاب (تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين المعاصرين) السابق الذكر (الفصل الرابع الذي عنوانه (في البحث عن العوالم الخفية) صفحة 89 - 92) حيث رسم المؤلف العلامة (مورنيه) اتجاهات علم النفس عند الكتاب الاتباعيين والرومانيين، ثم عند الواقعيين والطبعيين، ليستطرد القول بعد ذلك في اللاوعية ' ونقتطع فقرة مما ورد في صفحة 92 خاصاً بما نذهب إليه ليقف القارئ على جلية الأمر ويحكم لنا أو علينا، وهانحن نترجم هذه الفقرة حرفياً: (وعند الفيلسوف برجيسون وغيره أصبح (اللاوعي) الشكل العادي للحياة الروحية، كما أنه غدا النبع الخفي الواسع العميق الذي تقطر منه حياتنا الواعية المنطقية. وإلى هذا النبع قصد الرمزيون منذ سنوات عديد يغترفون من معينه، وسار على أثرهم القصاصون والمؤلفون المسرحيون)

وإتماماً للفائدة التي نبتغيها للأستاذ متولي من هذا الدرس العابر نحيله إلى (الفصل الخامس) من الكتاب نفسه (ص107) لنضيف إلى ما تقدم ذكره، تأثير فلسفة برجيسون في الرمزية عن طريق تغليب (البصيرة) على الذكاء والمنطق

وعليه فظاهر مما تقدم أن آراء برجيسون في علم النفس أثرت في الرمزيين ومن ذهبوا إلى استكناء العوالم الخفية، بعد أن نفى برجيسون مقدرة الذكاء والمنطق، وأكد تغليب الحياة الباطنة على الحياة الظاهرية. وكفى هذا دلالة على انبساط أطراف هذه الآراء على الرمزية وما تشعب منها فأفادت منها

(3) أين هذا النص؟

وهناك في مقال الأستاذ متولي مثال ثالث ساقه لي ليقيم الحجة على أنه (يعرف موضوعه لدرجة تسمح له أن يصحح لي وللدكتور بشر فارس أوهاماً علمية نعيش فيها)

يقول متولي إن كتاب لجورجدوماس (طبعة 1923 - 1924)، وهو الكتاب الذي كان اعتمادنا عليه في التدليل القاطع على أن آراء (ريبو) في الرمزية فات أوانها. . . متولي يقول إن طبعة هذا الكتاب (منسوخة لأنها تطبع الآن في تسعة أجزاء زيادات وتفصيلات، وقد ظهر الجزء الخامس منها عام 1936. . . الخ)

والذي ندلي به هذا أنه من الجائز أن يعاد طبع هذا الكتاب، وأن تدخل عليه زيادات وتفصيلات، ولكن الذي لا نجيزه أن يختلق الأستاذ متولي أن الكتاب قد (نسخ) ولما يمض على الطبعة التي اعتمدنا عليها عشر سنوات، لأن (النسخ) إنما يأتي عن طريق إحلال آراء مكان آراء، وما على وما على الأستاذ متولي إلا أن يقدم النص الجديد في الطبعة الجديدة. وهو النص الذي ينسخ النص الأول الذي سقناه عن كاتبه العلامة (أبيل راي الذي عقد فصلاً بعنوان (الاختراع) في الجزء الثاني من الكتاب المذكور ص426، وفيه طعن في نظرية (ريبو) النفسية. . .

بيد أننا نؤكد أن متولي لن يقدم هذا النص، وعليه فسيبقى قائماً طعن (أبيل راي) في (مخيلة) ريبو، من حيث إنها خاضعة بعض الشيء لمذهب (الذرية الذهنية) وهو مذهب لا يؤخذ به اليوم. سيبقى هذا الطعن قائماً على الرغم من أنف الأستاذ متولي، مادام نظر العلماء إلى مذهب (الذرية الذهنية) حتى يومنا هذا يرفض الأخذ به

وقد يتساءل القارئ: لماذا يفتعل متولي هذه الأفاعيل ويفتئت على الآراء الفلسفية متحرجاً راكباً رأسه؟ والجواب على هذا لا يخفى على من يعرف حكاية الثعلب الذي يطلق من جوفه ريحاً تعافها الأنف إذا أخذته الأيدي من كل حدب!!

نقف هنا وقد كفانا تدليلاً على ما تورط فيه متولي بعد أن ركب من غضبته شر الحمر

وفي مقالنا الآتي درس في الرمزية، كما نظر إليها (ريبو) نفسه، وكما أساء فهمها الأستاذ متولي

(للحديث بقية)

زكي طليمات