مجلة الرسالة/العدد 384/شعر الزواج
→ الانتحار وعلاقته بالشخصية | مجلة الرسالة - العدد 384 شعر الزواج [[مؤلف:|]] |
من وحي المنصورة ← |
بتاريخ: 11 - 11 - 1940 |
للأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل
لعل (شعر الزواج) على هذا النهج موضوع جديد، كان لكل جديد غرابة، فقد تزول الغرابة بالبيان
يتناول الشاعر، وسائر أهل الفنون، حوادث حيواتهم بالشعر والتعبير. والزواج من أهم حوادث الحياة. فإذا تزوج شاعر يحسن الشعور بالزواج فكيف لا يكتب القصيد في حياته الزوجية؟! وإذا اقترن موسيقار فلماذا لا يشدو بقرانه؟
ويباح للشاعر وصاحب الفن الجميل الغزل بالفتاة الصبيحة، حتى نسب إلى أبي بكر الصديق أنه تغزل فقال:
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقت، أو اُمْرٌ في العشيرة حادث؟
وحتى أنشد كعب بن زهير النبي محمداً عليه الصلاة والسلام شعراً بدأه بالغزل على عادة العرب فقال:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
فهذا الغزل بالفتاة مباح للشعراء فكيف بالزوجية؟! إن الزوجة أحق بالغزل. ومن الغزال لائق وخليع. فللزوجة غزل لائق مهذب
هذا النقص في شعر الزواج يسترعي النظر. فهل وجد معظم الشعراء وأهل الفنون زوجاتهم تافهات؟ فإذا فرضنا هذا فإن لكل جديد فرحة ولو كان تافهاً. على أن الزوجة التافهة قد لا تظهر تفاهتها سريعاً. والناس مختلفون في غنى الشخصية. فقد تفرغ شخصية بعد أيام من الصحبة وتفرغ أخرى بعد أشهر، على حين تفرغ أخرى بعد أعوام، وغيرها لا تفرغ أبداً ما عاشت ثم بعد الممات. ففي فجر الحياة الزوجة تحس النفس المعبرة بتحية صادقة لهذي الحياة الجديدة. هذا منطق الشعور، وتلك طبيعة الإحساس. فإذا ما جاشت النفس وسطر القلم العواطف ثم بدت الزوجة تافهة عز على صاحب الفن وأْد فنه. هنا يجب التفريق بين فن صادق وشيء خادع ألهمه. فهذا (شلي) كتب قصيدة رائعة في فتاة باهرة السطوح بائرة الدخائل، ظهر زيفها قبل أن تتم القصيدة! راحت فرحة الشاعر، وضاع أمله وعراه الخجل، ووشابه الكدر، ومع ذلك أبقى على القصيدة وعاشت وخلدت وعلى رأسها إهداء تبطنته سخرية الحق من فطنة الإنسان!
في الحق أن نقص شعر الزواج يسترعي النظر!
لقد آن أن يكون أدب داري جنب ذاك الأدب الطليق من كل قيد اجتماعي. آن إنصاف الحليلة. آن أن ينصف الشعراء أنفسهم من ظنة حب ما لا يملكون ومقت ما يملكون لأنهم يملكونه كما يكثر بين البلداء والجهلاء والعامة
وللزواج نصيب عند شعراء أوربا في الأساطير والشعر الكلاسيك. غير أنه نصيب غير كاف وغير شامل عند شاعر واحد فيما أعلم
وله نصيب عند المثقفين
فمن الأساطير هذه القصيدة:
(أخيراً أقاما بيتاً كريماً، ظلة منزلية، والعرش غير بعيد من الأرض، مصنوع من القصب والقش معاً عاش هناك بوسيس وفيليمون، وهناك عاشا زوجين طويلاً، وزوجين سعيدين: والآن هما في الحب قديمان، مع أن ذخرهما ضئيل،. . . والأمر عدم، حيث تبودل الحب المتكافئ، أو الأصح أن كليهما أمر، وكليهما أطاع. . .
(هكذا حينئذ نظر رب الأرباب نظرات هادئة قائلاً: تمن يا واحد الرجال عدلاً؛ وأنت يا مرأة وجدت وحدها جديرة بمثل هذا الرجل في رباط زواج
(همسا هنيهة؛ عندئذ كلما (جوف) هكذا يفضل فيليمون دعاء وصالهما ولأن أي عمل في حياتنا لم يدنسه النزاع الأهلي، نسأل ساعة موت واحدة: فلا هي تبكيني بدموع الأرملة إذا عاشت لتدفنني، ولا أنا بذراعين واهنتين أحمل بوسيسي الهامدة إلى القبر باكياً
(وأشارت رؤوس الرب موافقة)
إلى أن قال بعد تحولها معاً إلى شجرتين مورقتين:
(. . . سنديانة فارعة قرب زيزفونة تنموان. . .)
ومن الكلاسيك:
تزوج لورد تنيسون بامبلي شلوود، و (كان الزواج من كل النواحي ناجحاً، وكان الشاعر يقول فيما تلا من حياته: حين تزوجتها نزل سلام الله على حياتي)
وقد نظم تنيسوون شعراً عنوانه (صباح القران) جاء فيه: (هنا للحب الختام الذهبي، كل اختطابي قد فُعل) إلى أن قال: (لأن هذا للحب الصباح الذهبي، وأنت نجم صباحه) حتى قال: (قلبي، أأنت كافي العظمة لحب لا يكل؟ أيها القلب، أأنت للحب كافي العظمة؟ فقد سمعت بأوراد وأشواك)
وقد كان لورد تنيسون حيياً شديد الحياء، وكان من الأرستقراط
اقترن شلي بهريت وستبروك، وبعد عامين نظم فيها قصيدة عنوانها (مساء. إلى هربت) ختمها قائلاً: (كذلك كان محبك يا هريت. هل استطاع إطارة أفكار كل ما يجعل عاطفته عزيزة؟ وينشد ثقوباً في نسيج سعادتنا الموصول عائداً بغير حس من مسك الدافئ؟)
وختم قصيدته (إلى أيانب): (وأنت عزيزة أكثر حين تبدي خصائصك اللطيفة رسم جمال أمك)
ثم اقترن بماري جدوين، ومضت سنوات ثلاثة فنظم فيها حينئذ يقول بعنوان (إلى ماري شلي):
(الدنيا موحشة، وأنا تعب من تطويفي بدونك يا ماري؛
(كان في صوتك وبسمك من قبل فرح. وقد ذهب، يا ماري، حين وجب ذهابي كذاك)
ونظم (إلى ماري شلي) يقول: (ماري العزيزة، أين ذهبت وخلفتني وحدي في هذي الدنيا الموحشة؟ في الحق هنا شخصك - شخص جميل - لكنك فررت منحدرة في الطريق الموحش المؤدي إلى أظلم منازل الشجن. . . . . .)
وله غير ذلك في الزواج قصيدة متبوعة ولكنها عامة السياق وليست في زواجه
وكان شلي (جاداً على العموم، وكان مع ذلك قديراً على المزاح وكان كامل الأدب الذي هو طابع الأرستقراط الصغير)
وكان على حياء العذارى، يتورد وجهه من المقابلات أحياناً.
ومن المثقفين:
القائد الكبير الأرستقراطي فون هندنبرج، يقول في سيرته: (وجدت في زوجتي صاحبة محبة قاسمتني بولاء ودون ملل مسراتي وأحزاني، ومهامي وأعمالي)
كذلك للزواج نصيب في الموسيقى الأوربية الكلاسيك.
فقد ألف الموسيقار تشرد شتراوس (السيمفونية الأهلية) و (السيمفونية الأهلية إحدى كبريات قصائد شتراوس السيمفونية. وتمثل يوماً في حياته هو وقرينته وابنه الطفل)
وألف الموسيقار يوهان شتراوس (فالزاً) سماه (أجراس القران) أيام عرسه
أما نصيبه عند العرب فضئيل، وهو على ضآلته شتيت
قال الحسين عليه السلام في امرأته الرباب وابنته سكينة وقد عاتبه أخوه الحسن عليه السلام في امرأته:
لعمرك إنني لأحب داراً ... تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس للائمي عندي عتاب
وقال الحسن بن هانئ يحكي عن زوجته:
تقول التي من بيتها خف مركبي: ... عزيز علينا أن نراك تسير
فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في جريهن عبير
وهنا نعوج فنذكر من مراثي الزوجات والأزواج، فإنه غزل حزين
قال الوزير الشاعر محمد بن عبد الملك الزيات في زوجته حين ماتت:
يقول لي الخلان: لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد لها قبر؟
على حين لم أحدث فأجهل قبرها ... ولم أبلغ السن التي معها الصبر
وقال جرير في قرينته:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
وقال الإمام علي في عقيلته السيدة فاطمة كريمة النبي وهو على قبرها: قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي
و (رَثَت) الرباب بنت امرئ القيس زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت:
إن الذي كان نوراً يستضاء به ... بكربلاء قتيل غير مدفون
سِبط النبي، جزاك الله صالحة ... عنا وجنِّبْتَ خسران الموازين
قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به ... وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتامى ومن للسائلين ومن ... يغني ويأوي إليه كل مسكين
والله لا أبتغي صهراً بصهركم ... حتى أغيب بين الرمل والطين
والشعر العربي الحديث مقصر في هذا الباب. وهاهم أولاء جل أعلامه المتزوجين: البارودي وصبري وشوقي وحافظ وولي الدين والزهاوي وشكري والمازني قد خلت دووانيهم من شعر الزواج الشخصي
ولا تثريب على كل شاعر عزب
أما البارودي فقد تأهل مرتين فلم يستقبلها بالقريض ولم يترنم بالزوجتين بعد ذلك. ولكنه رثى الأولى رثاءً كأنه غزل حزين وكانت الوفاة بمصر والمرثاة بسرنديب. وهذه أبيات مجموعة منها:
لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي ... تقوى على رد الحبيب الغادي
كم بين عاديٍّ تملي عمرَهُ ... حقباً، وبين حديثةِ الميلاد؟
سر يا نسيم فبلغ القبر الذي ... بحمى الإمام تحيتي وودادي
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى ... هيهات، ما ترْكُ الوفاء بعادي
وأما الأستاذ المازني فحين كان ينظم لم يكن لقرينته نصيب من نظمه، فلما هجر الشعر كان لها من نثره أكبر نصيب؛ وكان النظم والتناول الشعري أولى بهذا الحديث! وهو مع هذا يقول عن نفسه: (. . . ومن متناقضاتي أني على حيائي أراني في كثير من الأحيان ثقيل الصراحة)
أستطرد من هذا إلى علمين من أعلام الأدب هما الدكتور هيكل باشا والدكتور طه بك، فهما وإن لم يطرقا الموضوع فقد طرقا هامشه طرقاً خفيفاً. ذلك أن الدكتور هيكل تحدث عن قرينته في كتابه (ولدي)، وأن الدكتور طه قال عن قرينته يخاطب كريمته: (لقد حنا يا بنتي هذا الملك على أبيك فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملاً، ومن الفقر غنى. ومن الشقاء سعادة وصفواً) وذكر كيف تعرف إليها وكيف كان أثر صوتها في نفسه
ثم أعود إلى حديث الشعر فإني قرأت قصيدة (ليلة الزفاف) للأستاذ إبراهيم العريض، وهي قصيدة (من وراء الستار) كما قال فإنه فصل فيها تفصيلاً ختمه بقوله: (فضمها شوقاً لأحشائه)
ثم قرأت قصيدة (عيد ميلاد سعيد) للأستاذ العوضي الوكيل قال فيها:
يا زوجتي، يا هواي، يا أملي ... قلبي بمعنى سناك محشود
من منذ عشرين غير واحدة ... ومعدن الفن فيك موجود ولكن أين الخطبة وما تلاها إلى (عيد الميلاد) عند الوكيل؟ وأين ما قبل ليلة الزفاف وما بعدها عند العريض؟
فإذا جاز لي أن أمازحهما قلت: ألم يعجب الأستاذ العريض من الزواج غير ليلة الزفاف؟. . . وهل كفى الأستاذ الوكيل نفسه شر غلاء الحرب في هدية العيد فأهدي القصيد؟. . .
وهكذا لم أجد شاعراً نظم الشعر في حياته الزوجية أو نثره، فشمل بشعره تلك الحياة. وقد وجدت الشعراء المجيدين الذين لا أثر للزوجية فيما رنموا!
في الحق أن نقص شعر الزواج يسترعي النظر
عبد المجيد مصطفى خليل