الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 384/الانتحار وعلاقته بالشخصية

مجلة الرسالة/العدد 384/الانتحار وعلاقته بالشخصية

مجلة الرسالة - العدد 384
الانتحار وعلاقته بالشخصية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 11 - 1940


للدكتور محمد حسني ولاية

حفزني إلى تناول هذا الموضوع الاجتماعي الهام انتحار عالمين من علمائنا هما الدكتور إسماعيل أدهم، والأستاذ فخري أبو السعود. وقبل أن أبين العلاقة بين الشخصية والميل إلى الانتحار أقول إن بعض علماء النفس والعقل يميلون إلى تقسيم الشخصيات البشرية (الطبيعية) إلى سبعة أقسام اختيارية على غرار الأمراض العقلية والنفسية الرئيسية

الشخصيات:

1 - الشخصية الهوسية: يمتاز صاحبها بالنشاط والحركة المستمرة والاعتداد بالذات، وهي تنطوي على كفاح بين الذات والضمير.

2 - الشخصية الملانخولية: تتصف بالهبوط النفساني، والكسل واليأس، واتهام النفس، واستحواز الأفكار السوداء على صاحبها. وتمتاز أيضاً بكفاح بين الذات والضمير.

يقول فرويد إن محتويات الهوس النفسانية لا تختلف في شيء عن محتويات الملانخوليا، وإن الشخص في كلا الحالين يصارع نفس المعقَّد وإن الذات تستسلم لهذا المعقد في حالة الملانخوليا ولكنها تسيطر عليه أو تطرحه جانباً في حالة الهوس

3 - الشخصية الوسواسية: يميل صاحبها إلى حسن الهندام والذوق السليم، ولكنه كثير التردد ضعيف الإرادة. وينطوي الوسواس على كفاح بين الذات ومستقر الغرائز الجنسية في العقل الباطن

4 - الشخصية الهستيرية: تمتاز بتركيز الاهتمام على الذات والأنانية الشديدة، والاعتماد على معونة الغير. وتنشأ التصرفات الهستيرية من كفاح بين الذات ومستقر الغرائز الجنسية في العقل الباطن

5 - الشخصية القلقة: تتصف بالقلق، وتوجس الشر، وبلبلة الفكر، والخوف من المجهول

يقول فرويد ليس للقلق صفة محدودة لعدم تعلقه بموضوع ما. وهو وليد دفاع الذات ضد خطر غريزي غير معروف. وكثيراً ما تصبح الحاجة الغريزية خطراً داخلياً ويؤدي إشباعها إلى التماس خطر خارجي يمثله الخطر الداخلي، ولكي تتأثر الذات لابد أن يتحول الخطر الخارجي الموضوعي إلى خطر داخلي غريز 6 - الشخصية البارانوياوية: تمتاز بإساءة الظن بالناس وتوقع الشر منهم وبهواجس اضطهادية منظمة، وتنطوي على كفاح إيجابي بين الذات والبيئة

7 - الشخصية الشيزية وتمتاز بالانزواء عن الناس والأنانية وانقطاع التعامل مع البيئة. وينتسب إليها كثيرون من الفلاسفة والأدباء. وتنطوي على كفاح سلبي بين الذات والبيئة

تبرز في كل إنسان (طبعي) ناحية أو أكثر من هذه النواحي الشخصية. والواقع أن شخصياتنا تتكون من خليط متفاوت من هذه الوحدات الشخصية، وكلما ازداد تعدد جوانب الشخصية ازداد تعقدها وتعددت أمانيها

وأكثر الشخصيات التجاء إلى الانتحار الشخصيات القلقة والبارانوياوية؛ أما أكثرها ميلاً إليه فهي الشخصيات الملانخولية والقلقة والبارانوياوية وأحياناً الشخصيات الوسواسية

وكثيراً ما يحول الخمول المستحوذ على الملانخوليين وضعف الإرادة المتسلط على الموسوسين دون قتل نفوسهم. وإن أول ما يفكر فيه البارانوياويون هو الانتقام من الناس فيقتلون الزعماء والعظماء بسبب الهواجس الاضطهادية، غير أنهم ينتهون إلى التماس الانتحار إذا غلب عليهم اليأس. ويندر أن يلجأ الهستيريون إلى الانتحار، لأنهم يحبون أنفسهم حباً أنانياً ويحرصون على سلامة أنفسهم

يقول فرويد في صدد الانتحار (إن السادية هي التي تحل مشكلة النزعة إلى الانتحار. وقد أظهر التحليل أن الذات تعمد إلى الانتحار عندما تنصب عليها طاقة موضوعية، وحينئذ تعالج الذات نفسها كموضوع أي أنها توجه العداء الذي كان موجهاً إلى موضوع ما إلى نفسها)

إن الشخص الذي يميل إلى الانتحار شخص مريض، وهو في حاجة إلى العلاج النفسي ككل مريض بمرض عصبي، فمتى ما حلت المعقدات النفسية وجب إعطاء المريض علاجاً عضوياً كالغدد الصماء والفيتامينات والأملاح المعدنية وغير ذلك لاستعادة النشاط الذهني

ويتصف الراغب في الانتحار ككل مريض بمرض عصبي بالمبالغة في الطموح وشدة الحساسية والتماس الأماني البعيدة المنال دون جهد، والعناد والأنانية

والسبب في أن كثيرين من كبار المفكرين يعمدون إلى الانتحار هو تعدد جوانب شخصياتهم وطموحهم الشديد وتلمسهم أهدافاً بعيدة المنال

ولابد أن نبين أن إنهاك قوى العقل الواعي يؤدي إلى تقوية الباطن وظهوره على المسرح متحدياً العقل الواعي، وحينئذ تتحكم في النفس نزعات دفينة في العقل الباطن، قد تكون وجهتها التماس الموت

ولما كان للعقل الباطن علاقة وثيقة باتجاهات النفس ونزعاتها ونزواتها وتصرفاتها فقد رأيت أن أختم كلمتي بتفسير حلم رآه أحد مرضى العالم النفساني (يونج) قال:

(حلم رجل مثقف في الخمسين من العمر أنه حاول أنه تسلق جبل عال فكان صعوده في أول الأمر شاقاً ولكنه كلما أمعن في الارتقاء كان التسلق أهون، وبعد أن بلغ القمة مشى في الفضاء ثم استيقظ

وبالتحري علمت أنه رجل متمرن على تسلق الجبال بدون مرشد وأنه يشعر بلذة عندما يرى نفسه في موقف خطر، وقد كان عاثر الجد في زواجه مشمئزاً من عمله، وقد فسرت حلمه بالآتي:

عندما كان متعلقاً بالحياة كان ارتقاء الجبل شاقاً إذ كانت تتنازعه رغبتان متضادتان: الرغبة الظاهرة في الحياة والرغبة الدفينة في الموت، ولكنه كلما أغرق في استسلامه لهواه صار لديه الصعود أسهل

ولم يكن سيره في الهواء سوى تعبير عن رغبته في الموت وقد هوى من قمة جبل ومات بعد مضي نصف عام من هذا)

محمد حسني ولاية

طبيب بصحة بلدية الإسكندرية