الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 384/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 384/في الاجتماع اللغوي

بتاريخ: 11 - 11 - 1940


اللهجات المحلية

للدكتور على عبد الواحد وافي

مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

تقضي القوانين الخاضع لها تطور اللغات أن تختلف اللهجات في الأمة الواحدة تبعاً لاختلاف أقاليمها وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف وما يمتاز به من خصائص. وقد جرت العادة أن يطلق على هذا النوع من اللهجات أسم اللهجات المحلية وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً في المساحة التي يشغلها كل منها: فمنها ما يشغل مقاطعة كاملة من مقاطعات الدولة؛ ومنها ما تضيق منطقته فلا يشمل إلا بضع قرى متقاربة؛ ومنها ما يكون وسطاً بين هذا وذاك. وكثيراً ما تختلف هذه المناطق اللغوية في حدودها عن المناطق المصطلح عليها في التقسيم الإداري والسياسي. فقد تقسم القرى التي تتألف منها منطقة لغوية واحدة بين مديريتين أو أكثر؛ وقد يجتمع في مديرية واحدة أو مركز واحد عدد كبير من المناطق اللغوية. ولدينا نحن المصريين على ذاك شواهد كثيرة في مختلف أقاليم الصعيد والوجه البحري

وتعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعاً في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهداً في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات. فاللغة نظام اجتماعي، وكل نظام اجتماعي، يحمل في طيه قوة المقاومة والقهر، على حد تعبير العلامة دوركايم

أما محاربة عومل الابتداع في داخل منطقها فتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم. وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوي الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية، ويعظم نفوذها، ويشتد بطشها بالمعتدين. فكل محاولة فردية للخروج على النظام اللغوي تلقى في مجتمع كهذا مقاومة عنيفة تكفل القضاء عليها في مهدها. وبذلك تتقي اللهجة ما عسى أن يوجه إليها في داخل منطقتها من محاولات الابتداع وعوامل التغيير وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم، وقلة فرص احتكاكهم بهم، وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال. ويظهر هذا على الأخص في البيئات الزراعية التي تقل فيها وسائل المواصلات، وتضعف حركة انتقال الأفراد، ويكاد سكان كل منطقة يعيشون في معزل عن سكان المناطق الأخرى. حقاً إن تزوج بعض الرجال في هذه البيئات إلى نساء من غير مناطقهم، وهجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لها، كل ذلك وما إليه يجلب إلى البلد عناصر أجنبية عنه. ولكن قلة عدد من ينفذ من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة نربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم من سخرية وازدراء، وصعوبة فهم حديثهم أحياناً، كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثير لهجة البلد بلهجاتهم فحسب، بل من شأنه كذلك أن يحملهم هم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها. وأما البيئات التجارية والصناعية والساحلية التي يكثر في العادة احتكاك أهلها بغيرهم، فيرجع الفضل في حماية لهجاتها إلى قلة عدد الأجانب بالنسبة إلى سكانها الأصليين، وانتمائهم إلى مناطق لغوية مختلفة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وقصر مدة إقامتهم، لأن معظمهم يفد إلى البلد في شئون لا تقتضيه إلا إقامة ساعات أو أيام

غير أنه قد يتاح أحياناً للهجة محلية فرص للاحتكاك الدائم بلهجة أخرى. وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراع أهلي لا يختلف كثيراً في مظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بي لغتين مختلفتين والذي عالجناه في مقالات سابقة في الرسالة

وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين: فأحياناً لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ. وأحياناً تكون إحداهما عرضة للتأثر بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة. وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال: فأحياناً يكون يسيراً لا ينال إلا بعض مظاهر، وأحياناً يكون عميقاً ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة

فيكون يسيراً إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان.

ويبدو هذا في تأثر لهجة القرى بلهجة المدنية التي تجاورها أو يكون بها مقر المديرية أو المركز، أو في تأثرها بلهجة البلد الذي يتخذ مقراً لنقطة البوليس أو للعمدة أو التي يقام فيها السوق الأسبوعي. . . وهلم جرا. ففي هذه الحالات وما إليها يقف التأثر عند حد اقتباس الكلمات والتراكيب وطرق استخدام المفردات في معانيها الحقيقية والمجازية. . . وما إلى ذلك. أما الأساليب الصوتية وطريقة النطق بالحروف والكلمات فتظل بمنجاة من التأثر والتحريف. ومن ثم نرى أن القرى المحيطة بقاعدة مديرية من مديريات القطر المصري قد تقتبس عنها كثيراً من ألفاظها وتراكيبها ومدلولات مفرداتها. . .، ولكن لهجاتها تظل سليمة فيما يتعلق بالأصوات، وطريقة النطق بالكلمات. فالقرى المصرية التي تقلب في لهجاتها القاف العربية (جافا) أي جيما غير معطشة (جلنا=قلنا) قد تجاور مثلاً مدينة تختلف عنها في هذا الأسلوب الصوتي (بأن تقلب فيها القاف العربية همزة: ألنا=قلنا)، فنقتبس عنها كثيراً من مفرداتها، ودلالاتها وأساليبها؛ ولكن تظل طريقتها الصوتية حيال القاف العربية بمأمن من التأثر بطريقة المدينة، اللهم إلا في الكلمات التي تقتبسها منها

أما إذا كانت الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي السابق ذكرها، فإن التأثر يكون عميقاً لدرجة تصل أحياناً إلى القضاء على اللهجة المغلوبة. ويحدث هذا في حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، على شريطة ألا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وآداباً. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث. فلهجة باريس حيث كان مقر الحكومة والسلطان، قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس؛ وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الإسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية؛ ولهجة قريش قبيل الإسلام مع اللهجات المضرية الأخرى. . . وهلم جرا. . .

الحالة الثانية: أن تفوق إحدى المنطقتين المنطقة الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى. ولذلك أخذت اللهجة السكسونية بألمانيا تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ القرن السادس عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الألمانية الحديثة وقبل أن تظهر غلبة براين. وأخذت التوسكانية بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الإيطالية الحديثة، وقبل أن يظهر سلطان روما؛ وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من إنتاج أدبي لا يذكر بجانبه إنتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع

وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعاً لمبلغ قرب اللهجتين إحداها من الأخرى ومبلغ ثقافة المنطقة المغلوبة. فيطول أمده ويشتد عنفه كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين أو قلت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة. فلهجة مدريد لم تقو بعد على التغلب كثير اللهجات الأسبانية الأخرى ولا تزال إلى الآن تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات، ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها، وفي القسم الفرنسي اللغة من سويسرا لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في المناطق الكاثوليكية (فاليه، فريبورج , على حين أنه قد تم انقراض هذه اللهجات أو كاد في المناطق البروتستانتية (نيوشاتل جنيف) وذلك لأن المناطق البروتستانتية من هذا القسم أرقى ثقافة وعلماً من المناطق الكاثوليكية وأقدم منها عهاً بالمدارس، ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقو بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا ولا يزال يلقى منها مقاومة عنيفة لكثرة الفروق التي تفصلها عنه

واللهجة التي يتاح لها التغلب في أمة ما على بقية أخواتها، أو على معظمها تصبح غالباً (لغة الدولة) أو ما يطلق عليه اسم (اللغة القومية) أو (اللغة الفصحى) أو (لغة الكتابة). فتعلم وحدها في مدارس الدولة، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في معاهدها، وتؤلف بها الكتب والصحف والمجلات، وتصدر بها المكاتبات الرسمية وغيرها، وتستخدم في مختلف مناحي الوعظ والخطابة، وتلقى بها الأوامر ويجري بها التخاطب في الجيش، وهلم جراً. فقد ترتب على تغلب لهجة باريس على معظم أخواتها أن أصبحت لغة الدولة بفرنسا؛ وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغة الفرنسية. وهذا هو ما حدث عقب تغلب لهجة لندن بإنجلترا ولهجة مدريد بأسبانيا، واللهجة السكسونية بألمانيا والتوسكانية بإيطاليا؛ فقد أصبحت هذه اللهجات هي اللغات الرسمية، وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغات الإنجليزية والأسبانية والألمانية والإيطالية

وتسلك لغات الكتابة في تطورها طريقاً خاصة تختلف عن الطريق التي تسلكها لغات المحادثة. ولذلك نرى أن لغة الكتابة مع اتفاقها في المبدأ مع لهجة المحادثة الغالبة، لا تلبث فيما بعد أن تختلف عنها في كثير من النواحي، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينهما، حتى تستقل كل منهما عن الأخرى. فلغة الكتابة بفرنسا مثلاً تختلف الآن عن لهجة المحادثة الباريسية اختلافاً غير يسير.

علي عبد الواحد وافي