مجلة الرسالة/العدد 376/نحن وفرنسا
→ في الاجتماع اللغوي | مجلة الرسالة - العدد 376 نحن وفرنسا [[مؤلف:|]] |
عراك في غير معترك ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1940 |
بين جنات الأرواح
وجحيم الأجساد
للأستاذ نجيب محمد البهبيتي
الصبح ينبلج في صمت عميق، وأعقاب الظلمة تذيبها تلك الأطياف المتهامسة من ضياء شمس لا تزال مختفية تحت الآفاق؛ والبحر من بعيد يهدر هديراً لا ينقطع، ويرغى إرغاء لا يلبث أن يزول بعد أن تزول العاصفة، وبعد أن يسكن اضطرابها. . . وهي لا بد أن تسكن. والنيل عن أيماننا يجري زاخراً عارماً في هدوء ووقار، موكب الدهر الجبار قد أثقلته السنون، وملأته الحكمة والتجربة. هذا النيل لا يزال يجري في نظام كأنه في فيضانه وانقباضه بقدر، أغنية خالدة منسقة قدسية تتجاوب فيها الفواصل، وتتردد في مقاطعها أنغام الحياة والبشر.
ما أشبه هذين بأسلوبين من أساليب التفكير والنظر إلى الأشياء. قوم يثورون وينفعلون وتصطخب نفوسهم بالحلو والمر، وتتأجج صدورهم بالعاطفة، وتفيض الكلمات على ألسنتهم تعبر عن قوة الثورة، وحدة الصخب. . . ولكن الانفعال لا يبقى، ولا يخلد، وهو لا بد زائل بزوال علته، وقد يتجدد مرة أخرى وغيرها كما تتجدد ثورة البحر حين تهتاجه العاصفة، ولكنه لابد أن يخمد. وأصحاب هذا الضرب من التفكير أشبه بالشعراء؛ ولكن الشعراء حين يفعلون ذلك يبينون عن خفية من خفايا النفس، ويكشفون عن صورة من صورها التي لا تتناهى، فهم يضيفون هذا إلى تراث النفس البشرية. ولا يجب أن نتناول قضاياهم على أنها حقائق، وإنما يجب أن ننظر فيها على أنها مرايا لحالات تمر بالنفس عابرة؛ فهي إنما تؤخذ ليستخرج منها علم، ولتوضع على مقتضاها الكليات كما يقول المناطقة.
وقوم آخرون يجرون في وزن الأشياء على قياس، يزنون الصغيرة والكبيرة، ويعرفون أن في وجود حقائق باقية خالدة، وأنها جديرة بالكشف، قمينة بالتنقيب والبحث، ينظرون إلى الأشياء من حيث قيمتها في الوجود، ومن حيث بقائها الحقيقي، ومن حيث خيرها الأبعد ل من حيث خيرها القريب. وهؤلاء لا يأخذ بخناقهم الهوى، ولا يجيبون لداعي الانفعال، وقد يكونون أشد من الطائفة الأولى انفعالاً، وقد تكون نفوسهم أعرق في تأججها وثورتها، وقد يذوبون إشفاقاً وألماً، لما عسى أن يمر به الآخرون مرور العابرين. ولكنهم يعلمون أن الحقائق تطلب لذواتها في غير طويل وقوف عند الآلام والمسرات، ينظرون إلى الأشياء في وقار النيل وانتظام فيضه وانحساره، وفي سكون الصبح واستنارته، قد خلصوا نفوسهم من شوائب الحقد وأدران الشماتة، ونسوا ما لقيت أجسادهم، فسموا بنفوسهم إلى مسالك النجم، وترفعوا عن أوغار الضعة.
كل كائن يستطيع أن يفرح حين يرى عدوه صريعاً تحت أقدامه، فهذه أقرب العواطف وأرخص الأحاسيس، ولكن ليس كل إنسان يستطيع هنا أن يسد بقلبه تلك الثغرة من الفرح وأن يضع يده على موقع ذلك السهم ليخفيه فيه، ثم ينظر إلى عدوه في ألم حقيقي لأن إنساناً قد سقط، ولأن روحاً قد فاضت، ولأن نفساً قد تخلصت من سجون الجسد المغري شيطانه المهلكة شهواته.
هذان أسلوبان من التفكير البشري، ولم أشأ أن أصطنع أولهما، ولكني أصطنع ثانيهما، ولست بهذا متصوفاً، ولست بهذا مرتفعاً فوق الحياة أعيش في برج من العاج، وأحيا في فردوس الأحلام، وأكبر نفسي عن دنيا الواقع بأفراحها وآلامها، فإنما أحسست هذا كله، وعانيت من مره وزقومه أشد ما يعاني بشر، ولكني أدع دائماً في جانب من نفسي بقية من الاتزان والشرف، أضع فيه دائماً مثالاً من مدنيتنا الروحية التي حملها الشرق إلى الوجود أمانة تنوء تحتها نفوس أولي القوة. أضع دائماً نصب عيني ما بشرت به نفوس كرام من آبائنا في كل أطوار التاريخ، وأنابه وفيّ لأهلي وبني جلدتي، آخذ بيدهم إلى المحافظة على أعز ما ورثوه عن ماضيهم، وأقوم ما بشرت به كل الديانات التي نبعت في الشرق، وفاضت على الدنيا خيراً ونعيماً وسعادة. ليس في دين من الديانات التي انبعثت في الشرق دين يطالب بالثأر وإن أمرت كل هذه الأديان بالقصاص، وأجازت إلى جانبه العفو، ونهت عن التمثيل، وكان الغرض من هذا الإصلاح، ولم يكن الانتقام وإلا لما أجازت العفو. ولنا في أخلاقنا، بعد هذا، التي ورثناها عن هؤلاء الأمجاد ما يجعلنا نكبر فوق الضغينة، ونتناول الأشياء تناولاً رحيماً، فيه إباء العفو وكبرياء المتألم الكريم.
في هذا ذلك المعنى الخلقي السامي، وفيه أيضاً محاولة للوصول إلى الحقيقة عن طريق العدل، على طريقة الفلاسفة التي لم ترضك؛ وفيه بعد هذا تطهير للنفس من آلام تخلقها الأحقاد، لا يصلى نارها الجيل الحاضر وحده، ولكن يتلظى بها بعد أجيال تأتي، وتقوم بها في النفس قياماً دائماً مثارات الخلاف، ولا يتحقق بها أبداً بين الشرق والغرب وفاق أو لقاء.
تضرب لي يا عبد المنعم مثلاً بما في أوربا اليوم من صراع تتداعى فيه أركان أقدس ما وقر في النفس الإنسانية من مُثُل وأخلاق حاسباً أن من الخير لنا أن نتبعه فنقول: (إننا نشاهد أمماً حرة مثقفة تحطم حياة أمم أخرى عالمة مثقفة حرة في سبيل إرضاء ما تعتقده كرامتها). . . إلى آخر ما قلت.
إن هذا قائم حقاً يا عبد المنعم، ولكن هل تعتقد أن ما تفعله أوربا الآن يجب أن نفعله، وأن ندعو إليه، وأن نعمل في سبيله؟ هل تعتقد أن هذه الأجيال تعيش ربع قرن تحمل بين جنباتها بذور الحقد، وتنميها وتعمل للانتقام من جارتها، تفكر في هذا الليل والنهار، وتقف عليه كل جهودها وتراحي نشاطها، تصوم لتبني آلة الخراب، ثم تدفع بعد هذا بزهرة شبابها ليحطموا غيرهم وليتحطموا، ولتشقى بهم بعدهم أجيال وأجيال - هل تعتقد أن هذه القطعان البشرية التي تساق إلى الجحيم سوقاً في غير رحمة قد عاشت العيشة التي تطمح إليها الدنيا، وأن هذه النفوس قد نالت من احترام أساتذتها وقادتها ما ترضاه أنت لقومك وبني جلدتك؟ وهل يعوض هذه الضحايا التي لا تنتهي أن يستمتع بالحياة من بعدهم قوم آخرون إن صح أن هذا سيكون؟
إن أمماً كثيرة في التاريخ قد نالت مكانتها في الدنيا عن طريق تحقيق المثل العليا، وهذه قد احتفظ لها التاريخ بأمجد الذكر؛ وأمماً أخرى قد أقامت نفسها على حد تعبيرك - على بركان من نوازع الفطرة الأولى فلم تلبث أن انهارت كما ينهار القصر يبنى على الرمل. ذلك أن تلك المثل الأخلاقية لم تأخذ مكانتها في وجودنا إلى الآن إلا لأن التجربة قد خلصتها واصطفتها، وأثبتت أنها كالحجر الكريم انكشفت للباحث بعد طويل العناء، ومكابدة الآلام، من بين أكداس ضخمة لا تحصى من سقطات الناس وإصاباتهم.
فإن أردنا أن نأخذ صفوف الدعاة فلندع إلى الخير، ولننس الانتقام، أما أن تكون فينا الوحشية اللازمة لكل حياة كريمة فذلك ما أخالفك فيه إن كنت تريد الوحشية امتلاء النفس بالحقد على عدوك، والتهليل إذا سقط أو أصيب لأن هذه ليست من شيمنا، وأما إن كانت الرجولة والقوة الجسدية، والابتعاد عن النعومة الناشئة عن الترف، ورد المعتدي فذلك ما أوافقك فيه ولا أوافقك على غيره. ذلك أن رد الباغي شيء، والدعوة إلى الحقد عليه والشماتة به شيء آخر، كما أن تقدير سيئات عدوك لا يجب أن تعرف مواضع قواه كما تعرف مواضع ضعفه؛ أما تصويرك إياه كما يحلو لك، وكما تتمناه، وكما يزينه لك هواك ورغبات نفسك فأمور لم تكن في يوم من الأيام سنة من سنن الشرق، ولا تقليداً من تقاليده.
وإذا كنا الآن نقف نفوسنا موقف المؤرخين من هذه الأمة الجليلة فيجب أن ننتحل صفة الإنصاف، ويجب ألا ننسى أولاً أن الناس إخوان، ويجب ألا ننسى المبدأ الذي سبقنا إلى وضعه الغربيين: وهو أن العقاب ليس معناه الانتقام ولكن غايته الإصلاح؛ وسيكون من هذا لأعدائنا درس إن صح وصفهم بهذا الوصف.
إن لمدنية أوربا وجهين ككل مدنية: وجه مادي ووجه معنوي. أما المادي فهو تلك الصور الظاهرة التي تتكيف فيها سبل العيش ووسائله. وأما الوجه المعنوي فهو الخلاصة المجردة لتلك المبادئ التي تنتظم على مقاييسها العلاقات بين الأمم والأفراد. وهذا الوجه الأخير تجده في تاريخ كل أمة شاملاً لكل مثلها في الأخلاق والشرع ولكل ما عسى أن يكون قد استخلصته عقول أبنائها من أصول علومها وفنونها ومختلف صور حضارتها. وتجد هذا دائماً في عصور اتزان النفس البشرية، وفي فترات اطمئنانها، وفي الأيام التي لا تهتز فيها لحادث جلل: تجده دائماً بحيث يرمي إلى تحقيق الخير المطلق للناس على السواء، في غير نظر إلى أمة دون أخرى؛ أي أنه ينتفي فيه حب الذات والأثرة الفردية أو القومية. فلا تكاد تحس فيه تلك النعرة العنصرية التي إنما تكون دائماً رد فعل لحس الضعف الطارئ على أمة من الأمم لنكبة أصابتها، ونازلة حلت بها فزعزعت من إيمانها بنفسها فهي تحاول التغلب على هذا الضعف، وتقوية نفسها بتلك النفخة تصطنعها وتدعو إليها، وقد تنخدع بصوابها، فتؤمن بأنها حق، وتغلو في الإيمان بها حتى لترفع بها نفسها على هام الشموس. وقد يكون الداعون إلى هذا في الأمة المقهورة الباحثة عن التعويض أتفه الناس ولكنها تستجيب لهم، وتهتدي بهديهم لأن دعوتهم صدى لذلك الحس الفطري الذي يدفع إليه قانون الحياة وحماية الذات.
ولذلك يجب إهمال هذا الوجه الشاذ لأنه عابر في حياة الأمم وإن ترك أثراً إيجابياً في حياة بعض الأجيال، فتبقى الصورة الإنسانية التي تحدثت عنها، وهذه تكون نظرياً سليمة لا غبار عليها، ولكن يأتي دور التطبيق فتتعرض هذه المثل لغوايات الأفراد، وتضطرب بها الأهواء، ويعمل فيها قرب الفرد وبعده من الحيوانية التي لا تزال عنصراً أساسياً في كيانه.
ولقد ضربت لهذا مثلاً في كلمتي السابقة باستيقاظ العصبيات في الإسلام مع نهيه عنها ومع ما حاوله من قتلها ولما يكد يمر على بدء الدعوة نصف قرن، وقلت إن الأمم في هذا سواء، إلا أنها تفترق في ذلك القدر الباقي في نفوس أبنائها من أثر تهذيب تتركه التعاليم، أو يسطره عليها قدم عهد بالحضارة المادية. فإذا كان بعض أبناء الأمة الإسلامية قد أثاروا العصبية فتركت هذه مضاعفاتها في حياة المسلمين وتاريخهم فليس ذلك ذنب الإسلام، ولا ذنب تلك الطبقات منهم التي دعت إلى أسمى المبادئ، وحاولت بها أن ترتفع بالإنسان عن مرتبته الحيوانية فأباه عليه طبعه وارتد إلى حيث كان. ولكننا في الحكم على المسلمين ننسى دائماً سيئات الأجيال التي لم تحسن لنذكر ذلك الإرث الخالد في تاريخ الإنسان (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فالشر عابر والخير باقٍ دائماً، لأنه حقيقة منتزعة من صميم النفس عن طريق التجربة والامتحان.
لهذا قلت لك يا عبد المنعم إننا إن حكمنا على فرنسا فيجب أن نحكم عليها على أساس ما سيبقى من عملها للناس، وما عسى أن تكون تركته من أثر في خطوات الإنسانية في السير إلى غايتها البعيدة. كما أني قلت لك قولاً أساسه الحق يوم فرقت بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، وفعلت هذا بناءً على تجربتي، فقد عشت بين هؤلاء الناس في بلادهم وبلوتهم، فعرفت فيهم سلامة الطوية وحسن المعاملة، والمساواة في عدل اجتماعي لم يكد يتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلا في هذه الأرض التي نكبت. إن مستوى الفرد في فرنسا من كل نواحي حياته كان أرفع منه في أي أمة أخرى. فالتعليم كان إجبارياً حتى السادسة عشرة، والتعليم العالي بالمجان بحيث يقدر عليه كل إنسان أراده، والمحاضرات العلمية في كل مكان وفي كل وقت من أوقات الليل والنهار حتى تصبح ملكاً مباحاً لكل طالب علم أو باحث عن حقيقة، حتى أصبحت فرنسا كلها متعلمة. وكانت بعد هذا حريصة على كل لون من ألوان الحرية. وأنت تعلم أن العلم مع الحرية يترك السبيل دائماً لوضوح الشخصية وحس الذات. ومن هنا تعددت المذاهب وكثرت الآراء حتى لكأن في كل فرد أمة، فكان من طريق الخير نوع من الانفصالية أساسها وضوح النظر واستنارة التفكير. وكان من هذا انهيار فرنسا لا لشيء إلا لأنها تمسكت بمُثُلها وأبت أن تتخلى عنها.
ولست أعرف حتى الآن هل كان الخير في هذا أم أن الخير في ذلك التكتل الحديدي للأمة بحيث لا يحسب فيها حساب لحياة الفرد ولا لحريته ولا لسعادته ولا لعقله. وعندي أنه ما لهذا خلق الناس.
ليس انهيار فرنسا يا عبد المنعم لأنها كانت قائمة على (بركان من التفسخ العائلي) الخ. . . فإنني كنت أعرف في صميم باريس عائلات من المحافظة، بحيث لا تستطيع أنت ولا أستطيع أنا إلا أن نرميها بالرجعية. وما كان عليك لتدرك معنى العائلة الفرنسية إلا أن تعرج قليلاً على بلد من ريف هذه البلاد لتفهم حقاً هل تهدمت العائلة في فرنسا أم لم تتهدم. إن بعض الدعاوى القائمة على الجهل تنتشر أحياناً لسوء الحظ حتى لتصبح أشبه بالمسلَّمات، لأن الجمهور كما قلت لك لا يستطيع تحقيق كل ما يلقى إليه.
إن فرنسا قد هدمت نفسها من حيث أرادت أن تبنيها، فقد أعطت كل ابن من أبنائها حق الحياة كاملاً، وحق القول والفكر كاملاً، والمسئولية الاجتماعية عبء ثقيل على الأفراد. فأصبح دفع الضرائب عندهم ثقيلاً، وأصبح إنفاق مليم واحد على الحرب ومعداتها أمراً يتشاجر من أجله النواب، ويضج منه الشعب، لأن كارثة الحرب الماضية كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ولم يكن أشق على الفرنسي من التفكير في الحرب. كانوا يؤثرون أن تنفق هذه الأموال على التعليم، وعلى رفع مستوى الحياة، على أن تنفق على المدافع. وهذا هو الذي حدا برجال الحرب كبيتان أن يقولوا: (إن الفرنسيين كانوا يطالبون الدولة بأكثر مما يعطونها). ففرنسا هدمت نفسها مؤقتاً لتبني مثلها، وأقول مؤقتاً لأني لا أشك في أنها ستهب في القريب العاجل جداً، فإني لا أعرف أمة يكمن فيها من الحياة ما يكمن في هذه الأمة، ولا أعرف فرداً قد ربي فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربي في الرجل الفرنسي. ولا أعرف جنديَّاً قد ربي على خشونة العيش فهيئ لتقبل طعم الحياة في خيرها وشرها مثل الفرنسي.
إن السير في تربية الأمم على هدى المثل الأعلى قد لا يحقق النصر العاجل، ولكنه من غير شك يخلق الصلاحية الحقيقية التي تكفل السيطرة على المستقبل.
أما أن تقول أن بيتان وفيجان قد انقلبا بين عشية وضحاها بوقاً من أبواق هتلر فتلك دعوى قد ينخدع بها البسطاء، ولكن لا ينخدع بها ذوو العقول الذين يدركون أن الكرامة الإنسانية قيمة، وأن الإنسان مهما كان تافهاً لا يسهل عليه أن ينتزع نفسه من ماضيه انتزاعاً، وأن يجرد نفسه من كيانه تجريداً. إن بيتان وفيجان رأيا أن إنقاذ فرنسا وإقالتها من عثرتها سيتحققان عن طريق ما ينتهجان وليس يمنع هذا عمل عامل لإنقاذ فرنسا على طريقته. فبيتان وفيجان يعملان، وديجول يعمل، وكل هذا في سبيل فرنسا.
إن فرنسا قد أصابت وأخطأت، شأن كل عمل إنساني، فليس أقل من أن نلومها على الخطأ ونذكر لها بالشكر والرثاء فضلها ونكبتها، ونحن إذ نفعل هذا نرسخ تقاليدنا، ونتخلق بأخلاقنا ونصطنع مثلنا، ولا نتخلى عن ميراثنا الروحي والحضاري، فضلاً عن أننا نحاول به تهذيب تلك الغرائز الأولية التي تدفع بالإنسان عملياً إلى الانتقام، فهي ليست بحاجة إلى إذكاء ولا تأريث. هذه الدعوة - كما ترى - ليست سهلة، لأنها محاولة للحد من اندفاعات الفطرة الحيوانية، وهذا الحد يغضب الجماهير ويضيق صدورها ويرغمها على السخط. أما مسايرة هذه الغرائز فيها ومجاراة التيار، فمحاولة هينة لاستغلال براءة الجمهور والضحك من أذقانه. وقد يقوى عليها الساسة الذين يحاولون الفائدة العاجلة ولكن لا يقوى عليها أصحاب الخلق الراسخ والإيمان بالحق وهداة الأمم إلى الخير والمثل المحققة للقوة
أما رثاؤك لمثقفينا الذين لم تقدم إليهم أوربا من العلم إلا ما هو بمثابة السروج واللجم فإني أمر به مرور الضاحك ملء شدقيه وآخذه على أنه جهل بأمر جدير بأن يصحح لمدعي علمه. فنحن يا عبد المنعم لم نذهب إلى هناك فتقدم إلينا أنواع من العلم وتمنع عنا أخرى، وإنما الأمر كان كما قلت لك مورداً مباحاً تختار فيه ما تشاء، فتذهب من الأساتذة إلى من تشاء، وتجتنب منهم من تشاء، تتلقى العلم في مدرستك إلى جانب الفرنسي والبولوني والألماني لا يصدك صاد، ولا يمنعك قيد من القيود. ولذلك عدنا لم نسرج ولم نلجم وإن كنا نوشك أن نحس أن هذه السروج واللجم إنما تلزمنا إياها أمتنا العزيزة، بل الصفوة من أبناء هذه الأمة قد يكون هناك ما أريد أن أقوله، ولكني سأتركه لفرصة أخرى؛ وأني ليسري عني أننا جميعاً في هذا نبني حقاً، ونتلمس هدى، وأحرى بنا أن نتلمس هذا من نور القلوب، وصفو النفس، وخلوص السريرة.
(رأس البر)
نجيب محمد البهبيتي