الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 376/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 376/في الاجتماع اللغوي

بتاريخ: 16 - 09 - 1940


تطور اللغة وارتقاؤها

للدكتور علي عبد الواحد وافي

مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

تتأثر اللغة أيما تأثر بحضارة الأمة، ونظمها وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها العقلية، ودرجة ثقافتها، ونظرها إلى الحياة، وأحوال بيئتها الجغرافية، وشئونها الاجتماعية العامة وما إلى ذلك. فكل تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير. ولذلك تعد اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب: فبالوقوف على المراحل التي اجتازتها لغة ما، وعلى ضوء خصائصها في كل مرحلة منها، يمكن استخلاص الأدوار التي مرَّ بها أهلها في مختلف مظاهر حياتهم.

فكلما اتسعت حضارة الأمة وكثرت حاجاتها ومرافق حياتها ورقى تفكيرها، وتهذبت اتجاهاتها النفسية، نهضت لغتها، وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودقت معاني مفرداتها القديمة، ودخلت فيها مفردات أخرى عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، وهلم جرا. واللغة العربية أصدق شاهد على ما نقول، فقد كان لانتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام، ومن النطاق العربي الضيق الذي امتازت به مدنيتهم في عصر بين أمية إلى الأفق العالمي الواسع الذي تحولوا إليه في عصر بني العباس، كان لهذين الانتقاليين أجلّ الأثر في نهضة لغتهم ورقي أساليبها، واتساعها لمختلف فنون الأدب، وشتى مسائل العلوم.

وانتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة يهذب لغتها، ويسمو بأساليبها، ويوسع نطاقها، ويزيل ما عسى أن يكون بها من خشونة، ويكسبها مرونة في التعبير والدلالة. وإن موازنة بين حالة اللغة العربية في عهد بداوة العرب قبل الإسلام وحالتها في عهد حضارتهم الإسلامية، أو بين ما كانت عليه عند أهل البادية في عصر ما وما كانت عليه في الحضر في نفس هذا العصر لأصدق برهان على ذلك. وإن البدوي الذي لم يلهمه شيطانه في مدحه للأمير أحسن من قوله: أنت كالكلب في حفاظك للعه ... د وكالتيس في قراع الخطوب

قد استطاعت قريحته بعد أن هذبتها حضارة بغداد أن تجود بمثل قوله:

عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

وما يحدث بين حضارة الأمة ولغتها من توافق وانسجام، يحدث مثله بين لغتها ومظاهر بيئتها الجغرافية. فجميع خصائص الإقليم الطبيعية تنطبع في لغة سكانه. ومن أجل ذلك نشأت فروق كبيرة في مختلف مظاهر اللغة بين سكان المناطق الجبلية وسكان الصحراء وسكان الأودية؛ وبين سكان المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية. ومن ثم كذلك نشأت فروق غير يسيرة بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، بل بين لهجات اللغة الواحدة.

ففي كل لغة من لغات الفصيلة السامية مثلاً، تتمثل حالة البيئة التي سكنها الناطقون بها. فالآرامية التي نشأت في الشمال جافة الألفاظ قليلة المفردات، ثقيلة التراكيب، مضطربة القواعد، لا تكاد تواتي الأساليب الشعرية الراقية. والعربية التي نشأت في الجنوب أعذب اللغات السامية ألفاظاً، وأغناها مفردات، وأدقها قواعد، وأكثرها مرونة واتساعاً لمختلف فنون القول. والعبرية التي نشأت في منطقة متوسطة بين هاتين المنطقتين تمثل في رقيها منزلة بين منزلتي الآرامية والعربية؛ فقد فاقت الأولى ولكنها قصرت عن أن تدرك شأو الثانية، فألفاظها وأساليبها تتسع لكثير من مناحي القول؛ ولكن العربية تفوقها في مرونة التعبير والترف اللغوي وسعة الثروة في المفردات، وقواعدها سهلة مضبوطة، ولكنها لا تبلغ في دقتها وتنوعها مبلغ قواعد اللغة العربية. وتظهر هذه الفروق حتى من ناحية الأصوات، فالآرامية حوشية الأصوات، صعبة النطق، تتلقى في كلماتها المقاطع المتنافرة والحروف الساكنة؛ والعربية عذبة الأصوات سهلة النطق خفيفة الوقع على السمع، تقل في كلماتها الحروف غير المتحركة، ولا يكاد يجتمع في مفرداتها ولا في تراكيبها مقاطع متنافرة، ولا يلتقي في ألفاظها ساكنان. والعبرية وسط بين هذه وتلك: فهي لم تصل في سهولة اللفظ إلى درجة العربية ولا في صعوبته إلى درجة الآرامية؛ يتخلل كلماتها حروف المد في نطاق أوسع من الآرامية، وبدرجة تذلّل كثيراً من ظواهر الصعوبة في النطق، ولكن بدون أن تصل في هذه الناحية إلى الشأو الذي وصلت إليه لغت القرآن.

ولهذا السبب نفسه اختلفت اللهجات الإغريقية القديمة. فعلى الرغم من أن بلاد الإغريق كانت تشغل منطقة ضيقة فإن الاختلاف اليسير الذي كان بين أجزاء هذه المنطقة في طبيعتها الجغرافية قد أحدث بين لهجات سكانها فروقاً ذات بال. فاللهجة الدورية مثلاً خشنة الألفاظ، حوشية المخارج، صعبة النطق، ثقيلة الأصوات، على حين أن اللهجة اليونانية رخوة الكلمات، سهلة النطق، عذبة الأصوات، يتخلل كلماتها كثير من حروف المد وأصوات اللين.

ومظاهر النشاط الاقتصادي تطبع اللغة كذلك بطابع خاص في مفرداتها ومعانيها وأساليبها وتراكيبها. ومن ثم اختلفت مظاهر اللغة في الأمم والمناطق تبعاً لاختلافها في نوع الإنتاج، ونظم الاقتصاد، وشؤون الحياة المادية، والمهنة السائدة (الزراعة، الصناعة، التجارة، الصيد، رعي الأغنام. . . الخ). وقد تؤثر هذه المظاهر في أصوات اللغة نفسها. فقد يؤدي نوع العمل الذي يزاوله سكان منطقة ما إلى تشكيل أعضاء نطقهم في صورة خاصة تتأثر بها مخارج الحروف ونبرات الألفاظ ومناهج التطور الصوتي.

واللغة مرآة ينعكس فيها كذلك ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة، فعقائد الأمة، وتقاليدها، وما تخضع له من مبادئ في نواحي السياسة والتشريع والقضاء، والأخلاق والتربية وحياة الأسرة، وميلها إلى الحرب أو جنوحها إلى السلم، وما تعتنقه من نظم بصدد الموسيقى والنحت والرسم والتصوير والعمارة وسائر أنواع الفنون الجميلة. . . كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها في الأصوات والمفردات والدلالة والقواعد والأساليب. . . وهلم جرا.

وتتشكل اللغة كذلك بالشكل الذي يتفق مع اتجاهات الأمة العامة ومطامحها ونظرها إلى الحياة. فاتجاه الإنجليز مثلاً إلى الناحية العملية قد صبغ لغتهم بصبغة مادية في مفرداتها وتراكيبها؛ حتى إنه ليقال فيها: (دفع زيارة أو تحية أو انتباها) و (أنفق وقته في كيت وكيت) , ,. . . . ' '. بدلاً من (أدى زيارة) و (قدم تحية) و (أبدى انتباهاً) و (قضى وقته في عمل ما).

وما يكون عليه الأفراد من حشمة وأدب في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينبعث صداه في لغتهم ألفاظها وتراكيبها، فاللغة اللاتينية لا تستحيي أن تعبر عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعبارات مكشوفة، ولا أن تسميها بأسمائها الصريحة. على حين أن اللغة العربية بعد الإسلام تتلمس أحسن الحيل وأدناها إلى الحشمة والأدب في التعبير عن هذه الشؤون، فتلجأ إلى المجاز في اللفظ وتستبدل الكناية بصريح القول: القبل، الدبر، قارب النساء، لمس امرأته، قضى حاجته. . . الخ، ولقد كان لها بهذا الصدد في ألفاظ القرآن الكريم وعباراته أسوة حسنة: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)؛ (واهجروهن في المضاجع)؛ (لمستم النساء)؛ (وقد أفضى بعضكم إلى بعض)؛ (فاعتزلوا النساء في المحيض)؛ (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة مؤمنة من قبل أن يتماسا). . . وما إلى ذلك من كريم العبارات ونبيل الألفاظ. وما يبدوا في اللغة العربية بهذا الصدد يبدو مثله في اللغات الأوربية الحديثة وخاصةً الشمالية منها، وأكثرها تحرجاً في هذه الناحية اللغة الإنجليزية، فالبطن مثلاً لا يعبر عنه باسمه الصريح بل يطلق عليه في الغالب (أي المعدة) وسراويل الرجل يطلق عليها (أي لا يمكن التعبير عنه)؛ وسراويل المرأة تطلق عليها كلمة معناها الأصلي (الجمع أو التركيب). . وهلم جراً.

وخصائص الأمة العقلية ومميزاتها في الإدراك والوجدان والنزوع، ومدى ثقافتها ومستوى تفكيرها ومنهجه، وتفسيرها لظواهر الكون، وفهمها لما وراء الطبيعة - كل ذلك وما إليه ينبعث كذلك صداه في لغتها. ففي الأمم الأولية الضعيفة التفكير، المنحطة المدارك، تغزر الكلمات الدالة على المحسات والأمور الجزئية، وتنعدم أو تقل الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، وتخلو دلالة المفردات من الدقة والضبط، فيكثر فيها الخلط واللبس والإبهام، وتعرو القواعد أو تكاد تعروا من ظواهر التصريف والاشتقاق وربط عناصر الجملة والعبارة بعضها ببعض، ويضيق متن اللغة فلا يتسع لأكثر من ضروريات الحياة. ومن هذا القبيل الشعوب الصينية: فلغاتها أولية ساذجة في نواحي الألفاظ والدلالة والقواعد، تكفي للتعبير عن ضروريات الحياة، وشئون الصناعة اليدوية، والأدب السهل، والتأمل الضحل؛ ولكنها لا تتسع لعلم ولا لفلسفة ولا لدين بالمعنى الصحيح لهذه الكلمات، حتى إنه لا يوجد فيها اسم للإله؛ ويعبر فيها عن مسائل ما وراء الطبيعة بعبارات ملتوية مبهمة مضطربة الدلالة في أذهان أهلها أنفسهم.

وفي الشعوب السامية القديمة، إذ كان يسود التفكير الديني، وتفسر شؤون الحياة تفسيراً سهلاً، وتنسب جميع الظواهر الطبيعية إلى تدخل الأرواح والآلهة، ويسيطر على المدارك الكسل والخمول، وتنفر الأفكار من البحث العلمي، وترغب عن التأمل الفلسفي - في مثل هذه الشعوب ترى اللغات سهلة المأخذ، ساذجة الدلالة، ضحلة المعاني، قصيرة الجمل، قليلة الروابط: تضع أجزاء الجملة وفقرات العبارة بعضها بجانب بعض، معتمدة في بيان وظيفة الألفاظ والجمل وعلاقة كل منها بما عداه على الذكاء المخاطب وسياق الحديث وترتيب المفردات. . . وما إلى ذلك؛ والروابط التي تشتمل عليها قليلة العدد، غير متنوعة المعنى، يرجع معظمها إلى علامات تدل على العطف وما شاكله. وفي الشعوب الهندية الأوربية حيث ينشط التفكير، ويعمق الإدراك، ويدق البحث، وتتجه العقول إلى التأمل الفلسفي، وتميل إلى تفسير ظواهر الكون والمجتمع الإنساني تفسيراً علمياً يربطها بأسبابها وقوانينها العامة - في مثل هذه الشعوب تكثر في اللغات الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، والتراكيب المعبرة عن الحقائق العامة، وتغزر أزمنة الأفعال، وتطول الجمل وتتعدد أجزاؤها، وتتنوع الروابط وتختلف دلالاتها فتتسع للتعبير عن دقيق الوجدان، وعميق الإدراك، وحقائق الفلسفة والعلوم.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون