مجلة الرسالة/العدد 376/درس ينفع أبناء هذا الجيل
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 376 درس ينفع أبناء هذا الجيل [[مؤلف:|]] |
في الاجتماع اللغوي ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
يختلف الناس اختلافاً شديداً في قوة الحس ويقظة الروح. والحس والروح جارحتان من أعظم الجوارح الإنسانية، وهما السناد الأعظم للكاتب والشاعر والمفكر والفيلسوف، وبقدر اختلاف هؤلاء في النصيب الموهوب أو المكسوب من هاتين الجارحتين تختلف حظوظهم في السيطرة على أهواء السامعين والقارئين. والذي يقرأ تراجم الأكابر من الكتاب والشعراء والوزراء يرى أنهم كانوا في الأغلب أصحاب شهوات. وهنا يشتبه الأمر على القارئ المبتدئ فيسأل: كيف تجتمع العظمة والشهوة؟ وهل تكون الشهوة من وسائل العظمة؟ ونجيب بأن الخضوع للشهوة عيبٌ نهي عنه الحكماء، والذي يقترف الفجور تشبهاً بما وقع فيه عظماء الرجال هو مخلوقٌ سخيف، ومَثَلهُ مَثَل (فلان) وهو شخصٌ جيّد الخطّ، وقد شهد له بذلك أساتذته يوم كان تلميذاً في المدارس الثانوية، فلما سمح له الدهر بأن يكون أستاذاً في أحد المعاهد العالية، صار يقبِّح خطه عامداً متعمداً ليندرج في زُمرة العلماء، فقد كان سمع أن خطوط العلماء مَضرِب المَثل في القبح والغموض والاعوجاج!
ولا مؤاخذة يا فلان، فأنت تعرف مبلغ حرصي على الجهر بكلمة الحق. ومن هنا أشفق أشد الإشفاق على الشبان الذين يستهينون بالآداب والتقاليد، لأنهم سمعوا أن أعظم الرجال لم يكونوا يقيمون وزناً لمأثور الآداب والتقاليد. والفرق بين الحالين كالفرق بين إناء تملأه فيفيض وإناء يغلي فيفيض. فالرجل العظيم لا يقع - حين يقع - في الخضوع لإحدى الشهوات إلا وهو مغلوب على أمره بقوة الإحساس، وهو لذلك يظل سليم الشخصية الخُلُقية، ولا كذلك الشاب السخيف الذي يخضع للشهوات تشبُّهاً بالعظماء، فإن شخصيته الخُلُقية تنحل أبشع انحلال، لأنه لم يخضع لهواه طاعةً لقوة قهارة من الحس المشبوب، وإنما يخضع لهواه طاعةً لنزعة مرذولة من نزعات التقليد الممقوت.
يضاف إلى ذلك أن الشهوات المنسوبة إلى العظماء يغلب عليها التزوير والاختلاق، لأن واضعيها يرجعون إلى فريقين: فريق الفجرة الذين يهمهم أن يشاع أن الخلُق السليم ليس حجراً أساسياً في بناء العظمة الذاتية، وفريق الحاقدين الذين لا يتورعون عن خَلْق التهم في التشهير بمن يعادون من العظماء. ولو صح أن الشهوات المنسوبة إلى بعض أك حقيقية لوجب القول بأن الأخلاق ليست إلا كلاماً في كلام، وأن الشهرة والجاهُ ينالان بالتحكم والسيطرة كما تُنال بعض الثروات بالغش والتدليس، وذلك قولٌ مردود. والذي يقف في التعرف إلى شخصيات العظماء عند ظواهر الهنوات محكومٌ عليه بالخذلان، لأن العظماء لهم قوىً خُلقية لا يفطن إليها عوام الناس، وتلك القُوى الخفية هي السرّ في نجاح أولئك العظماء، وهي ليست قُوىً عادية من التي يتمدح بمثلها من لا يملكون من المواهب غير الاستقامة وضبط النفس في حدود المبتذل من الشهوات، وإنما هي قوىً عارمة تمكِّن أصحابها من الجهاد بأمن وعافية في مكافحة الضغائن والحقود، والشدائد والخطوب.
وأذكر في هذا المقام ثورة بعض الناس على السيد جمال الدين الأفغاني وقد عابوا عليه أن يجلس في القهوات يوم كان ذلك من العيوب، فأولئك القوم لم يكونوا يرون قوة الخُلُق في غير البعد عن مواطن الشبهات، وفاتهم أن الجلوس على القهوة بالرغم من استهجانه في ذلك الوقت لم يكن في نظر السيد جمال الدين الأفغاني إلا حسنة من الحسنات، لأنه كان فرصة لدرس أحوال الجمهور والوقوف على ما اختلف وائتلف من نوازع الناس.
وأين الجلوس على القهوة من الشمائل الحقيقية لجمال الدين الأفغاني؟ وهل عرف المتألبون عليه لذلك السبب الحقير كيف استطاع بقوته الذاتية أن يكون حديث الوزراء والملوك في الشرق والغرب؟ وكيف استطاع بعظمته الروحية أن يتغلب على مصاعب الفقر والاغتراب؟ وكيف فرض عليه روحه العظيم أن يرفض معونة رفيقيه العظيمين محمد عبده وسعد زغلول وهو خارج خروج الطريد من الديار المصرية؟؟؟
وأذكر أيضاً شيخ الشيوخ محمد عبده فقد ألحّ حاقدوه في اتهامه بترك الصلاة ليجوز لهم الرجم بأنه لا يصلح لتولي الإفتاء، ولو فطن الجمهور إلى أن قالة السوء هي التي منعت الشيخ محمد عبده من الصلاة في العلانية لأدركوا أنه كان يخشى الوقوع في هُوّة الرياء، ولعله كان يريد أن يعرف كيف ينصره علام الغيوب على من يغتابونه ظالمين.
ومن هم أعداء محمد عبده؟ هل كانوا حقيقة من أحلاس المساجد؟ وهل كانوا غاية في الحرص على الصلاة والزكاة والصيام والقيام؟ إنما كانوا طلاب صيد، وكانوا بتجريحه يتقربون إلى إحدى الجهات، فحل عليهم غضب الله، ولم يبق لهم من الغنيمة إلا الإشارة من وقت إلى وقت بأنهم قالوا في ذلك الإمام كيت وكيت. وبعض الناس ينحصر مجده في الشهرة باتهام الأبرياء!
ولو سلَّمنا جدلاً بأن الشيخ محمد عبده كان تارك الصلاة - ورحمة الله على العهد الذي كان فيه ترك الصلاة من العيوب، فقد خفتُ أن تصبح فريضة الصلاة من المجهولات عند أبناء هذا الجيل - لو سلمنا بذلك لكان الأمر عجباً كل العجب، لأن الشيخ محمد عبده كان يملك من القدرة على أهواء النفس ما يمكنه من أن يجود بثلاثة أرباع مرتبه على المعوزين والبائسين من الذين يمنعهم الحياء من إعلان الاحتياج، ولولا شهامة الشاعر عبد المحسن الكاظمي لما تعرضت مكارم الشيخ محمد عبده إلى الافتضاح، فكيف يجوز لرجل يُذلّ ماله هذا الإذلال أن يضعف عن أداء الصلاة وهي من وسائل المرائين في كسب ثقة الجماهير، إلا أن تكون صلته بربه أعظم من أن تحتاج إلى إعلان؟
لقد كان المصلون من الأزهريين يعدون بالألوف في عصر الشيخ محمد عبده، ومع ذلك لم نسمع بأنهم تنازلوا عن شيء من أرغفتهم في مواساة المحتاجين، وإنما سمعنا أن الشيخ محمد عبده مات فقيراً وأن منافسيه ماتوا وهم أغنياء.
وهل فكر أحد في القيمة الصحيحة لرجل يتغلب على الجدب والإمحال في الحياة الأزهرية لعهد مضى عليه أكثر من نصف قرن فيكون الفيصل بين الهمجية والمدنية، ويكون صلة الوصل بين القديم والحديث، ويفسِّر جزأين من القرآن وهو في رياض سويسرا حيث يطيب لسواه أن يأنس بحياة اللهو والفتون؟
هل فكر أحد كيف جاز أن يسيطر محمد عبده على تلاميذه تلك السيطرة العاتية، فيقضي السيد رشيد رضا عمره في شرح آرائه العلمية، وينفق الشيخ مصطفى عبد الرزاق أطيب أوقاته في توضيح مذاهبه الاجتماعية، ويتأثر الشيخ محمد المراغي خطواته في الإصلاح الديني وفي سائر الشؤون حتى صار من العجب أن يكون خط الشيخ المراغي صورة من خط الشيخ محمد عبده مع صعوبة التشابه في الخطوط؟. . . كيف أمكن ذلك أيها الناس؟
ألا يكون ذلك دليلاً على أن الشيخ محمد عبده كان يعيش في حماية حصانة خُلقية لم يدرك أسرارها المتألبون عليه من الزملاء الأغبياء؟
وقد أشرت في الطبعة الثانية من كتاب (عبقرية الشريف الرضي) إلى ما صنع الشيخ المراغي مع علماء الأزهر الشريف، فقد شاع أن الشيخ المراغي نسى علوم الأزهر لبعد عهده بالحياة الأزهرية، فرأى الرجل أن يلقي دروساً علنية في علم الأصول ليريهم أن الذهن الثاقب كالسيف لا يضرُّه طول العهد بالإضمار في غياهب القراب.
وما قيمة العلوم النقلية بجانب العلوم المكتسبة من فهم سرائر المجتمع؟. . . وأين الأزهري الذي يملك القدرة على محاورة مدير الجامعة المصرية في الحفلات كما يقدر الشيخ المراغي على ذلك بسهولة لا تعرف التكلف والافتعال؟
كنا مرة في المفوضية العراقية بالقاهرة، والتقى لطفي باشا بالشيخ المراغي، وأقبل الشيخ رشيد رضا يقول: هذا لطفي باشا مدير الجامعة المدنية، وهذا الشيخ المراغي مدير الجامعة الدينية، والدين فوق المدنية. فابتسم لطفي باشا وقال: هذا حق ما دام الشيخ هنالك. وأجاب الشيخ المراغي: ما دام لطفي باشا في الجامعة المصرية فهي الشقيقة الرءوم للجامعة الأزهرية، وما كان الدين إلا رسول الحضارة والفهم والعقل. ثم تواتر الحديث بين الرجلين في غاية من التلطف والترفق والعطف.
ومن مزايا هذا العصر في مصر أن تكون الجامعة الأزهرية - وهي على الضفة الشرقية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً نحو الغرب، وأن تكون الجامعة المصرية - وهي على الضفة الغربية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً إلى الشرق.
وبذلك لا يكون من الشر أن يقال إن مصر بلد الغرائب، لأن الغرائب لا تجتمع في مصر إلا وهي صورة من الانسجام المقبول في شرعة الأدب والذوق.
ماذا أريد أن أقول؟ أنا أريد القول بأن الأخلاق الحقيقية للعظماء هي أجل وأدق من أن يفهمها عوام الناس، وما تعلَّق متعلقٌ بهفوة صورية لرجل من الأكابر إلا وهو غافلٌ جهول، فما تسمح قوانين الحياة بأن يسود رجل إلا وهو على جانب من متانة الخُلُق، وسجاحة النفس، ورصانة الطبع، وطهارة القلب، ولو كره المتزلفون إلى المجد بالوصولية والضَّعة والاستخذاء.
دلوني على عظيم واحد أُثِر عنه الانقياد لهواه في صباه.
ما نبغ في الدنيا نابغٌ إلا بعد أن قدم شبابه قُرباناً للمجد. وكان أشياخنا يقولون: (أعط العلم كلك يعطك بعضه). فما بالُ بعض الشبان في مصر أو في غير مصر يعرفون مراتع اللهو قبل الأوان فتزدان بوجوههم مقاصير الملاعب والمراقص، ويكون لصباهم تاريخ في حياة الفتون؟ وما بال بعض الشبان يعرفون سُكْر الخمر وهم على خطر من سكر الشباب؟
أنتم لا تعرفون نعمة الله عليكم، أيها الجهلاء، والجهل هو الشباب في لغة أهل العراق.
من ألفاظ مصر كلمة (الغندرة) والغندرة الحقيقية للشاب هي أن يكون بين الأوائل في الدراسة الابتدائية والثانوية والعالية. الغندرة الحقيقية للشاب هي أن يكون قرة عين لوطنه ولأبويه، ولن يكون كذلك إلا إذا تفوق في جميع الشؤون. الغندرة الحقيقية للشاب هي أن يفوز فوزاً مطلقاً بثقة أساتذته وزملائه بحيث يتقدم إلى معترك الحياة وهو مرفوع الرأس وضَّاح الجبين.
ما بال بعض الشبان يسابقوننا إلى المشارب والملاعب؟
نحن نغشى تلك الأماكن من حين إلى حين لندرس أخلاق الجيل، فلا تكونوا موضوع الدرس، ولا تعرِّضوا سمعتكم لسهام الأقلام، فما يبقى على نوشها أديم صحيح.
إن كان غرّكم أن يتظرف رجلٌ مثلي فيقول إنه دخل الملعب الفلاني أو الحانة الفلانية، فأنا أتحداكم أن تثبتوا أني شربت فنجان قهوة في غير داري قبل أن أظفر بإجازة الدكتوراه أو قبل أن أبلغ الثلاثين.
وما أقوله عن نفسي أقوله عن الأدباء الذين يسيطرون على عقولكم وإفهامكم في هذا العهد. فالدكتور طه حسين في صباه لم يعرف من النعيم غير كرع ماء التين. والأستاذ عباس العقاد لم يعرف في شبابه غير مقارعة الأحاديث في سهرات أسوان، وقد زرته قبل عشرين سنة في دار تواجه المقابر بحيث لا يجد الماء إلا بفضل السقاء. والأستاذ إبراهيم المازني قضى طلائع شبابه في دار جافية لا تعرف الأنس بغير سحالي الصحراء. والأستاذ عبد العزيز البشري شهد على نفسه بأنه كان يتغدى بخمسة ملاليم مع أن أباه كان عمدة حيّ البغالة وكانت إليه مشيخة الأزهر الشريف.
لا تخدعوا، أيها الشبان، بالأدباء الذين يتحدثون عن هواهم الأثيم في باريس، أو غير باريس، فلن يكونوا ألأم مني، ونحن لا نسمح لأحد بأن يكون أحرص منا على الواجب، ولو خطر في البال أن في الشبان من يحاول سبقنا إلى المجد بقوة الكفاح لقطعنا رأسه بلا ترفق، ولو كنت أتوهم أن في أبناء هذا الجيل من يسدّ المسالك في وجهي بالسباق في ميادين الدرس والبحث والتنقيب لطويت عنه هذا النصح، فما أحب أن يكون لي في هذه الميادين خصم أو قريع.
في سنة 1927 خطر للدكتور طه أن يغمز أساتذة اللغة العربية في أحد دروسه بالجامعة المصرية فقال: كيف يجوز لهؤلاء أن يتولوا تدريس الأدب في المدارس الثانوية أو العالية وليس فيهم من تصفح ديوانين اثنين من دواوين الأدب العربي؟! فنهضتُ وقلت: (أرجو استثنائي من هؤلاء، فأنا أحفظ ثلاثين ألف بيت من الشعر العربي وأستطيع إنشادها جميعاً في أي وقت).
فابتسم الدكتور طه وقال: أنا لا أقصد أساتذة الجامعة المصرية. ولم يكن كلامي ضرباً من التحدي المؤقت، وإنما كان حقاً من الحق. وما اكتفيت بالثلاثين ألفا إلا إشفاقاً على طلبة الجامعة، فقد كانت مختارات البارودي من بعض محفوظاتي، وكنت أحفظ دواوين برمتها من الشعر الفرنسي، وقد حفظت معظم كتاب تليماك عن ظهر قلب في سنة 1919 وكان المسيو كليمان حدثني أن أسلوب فنلون هو المطمع بالممتنع. ولم أكن أعرف نظام الجذاذات عند الشروع في تأليف كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فكنت أرجع إلى الشواهد في مؤلفات الغزالي بغير احتياج إلى دليل، فقد كانت مؤلفاته مسطورة في ذهني بأبوابها وفصولها وصفحاتها بحيث أجد الشاهد حين أشاء، بلا عناء.
وما استطعت ذلك كله لأن ذاكرتي أقوى من سائر الذاكرات، أو لأني أذكى من سائر الناس، وإنما استطعت ذلك لأني لا أعرف المسامحات في صيف أو شتاء. وما أذكر أبداً أني انقطعت عن الدرس في يوم من أيام المواسم والأعياد، حتى أيام البواخر قرأت فيها أشياء وكتبت أشياء. وهذا بالتأكيد حال كثير من الأدباء في هذا العهد، وقد يكون فيهم من يفوقني في الصبر على مكاره الدرس والتأليف، فليست الحظوظ أو الظروف هي التي جعلت بعض أدبائنا أئمة مرموقين في الأقطار العربية والإسلامية، وإنما هو الكدح الدائم والكفاح الموصول.
أما بعد فبأي حق يجوز لطالب العلم أن يجلس في أحد المشارب وفي يده كأس؟
وبأي حق يتسامى الشبان الظرفاء إلى السيطرة الأدبية والعلمية وهم يدفعون مهرها من الكسل والخمود والاعتماد على وساطة الشفعاء؟
من حق كل إنسان أن يتخير مصيره كيف شاء، فلن يكون الناس جميعاً نوابغ وعبقريين.
أما طالب العلم فلا يملك هذا الحق، لأن الأمة تفرض عليه أن يكون مضرب المثل في الحرص على الفهم والاجتهاد والتحصيل، وهي لن ترضى منه بالقيمة الصغيرة في مغانمه العلمية، لأن مصر في هذا العهد لم يبق فيها مكان لغير المتفوقين، ولكن أين من يفهم هذه الحقيقة من أبناء هذا الجيل؟
لقد كثرت الشكاية من وقف صفحات الجرائد والمجلات على طائفة معروفة من الباحثين، وكثر تضجر الشباب من طغيان الكهول. وهذا حق، ولكنه سُنّةٌ طبيعية، والأحمق هو الذي يطمع في تبديل نواميس الوجود بالتوسل والرجاء.
وأنا أكشف الستار عن بعض الدسائس الأدبية فأقول:
في مصر اليوم إصرار عنيف على الاستبداد بمغانم الحياة الفكرية، وأولئك المستبدون يصلون النهار بالليل في تزويد عقولهم وإفهامهم بما يجدّ في عالم الآداب والفنون، ولا يمكن زحزحة هؤلاء المستبدين بالتشكي والتوجع، وإنما يزحزحون بمناكب أضخم من مناكبهم، وتلك المناكب هي العقول العاتية التي تأنف من الاكتفاء بالزاد القليل، وترى القناعة من صور الفناء، وقد علَّل أحد الشبان نفسه فقال: سيأتي يوم يموت فيه هؤلاء الكهول ويخلو الميدان.
وهذا أيضاً حق، ولكن خيبة مصر في أبنائها ستكون فظيعة حين يصح أن موت المتفوقين هو الفرصة لتقدم المتخلفين.
إن مصر تنتظر شباناً أقوياء لا يطيف بأذهانهم مثل ذلك الخيال السقيم. مصر تنتظر شباناً يعيشون عيش التبتل والتنسك والاعتكاف في زوايا المدارس والمكاتب. مصر تنتظر شباناً لا يعرفون من أدوات الزينة غير القلم والكتاب. مصر تنتظر شباناً يؤمنون بأن المجد الأدبي لا ينال بالتشهي والتمني، وإنما ينال بالصبر على أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.
زكي مبارك