مجلة الرسالة/العدد 358/من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
→ في ذكرى الرافعي | مجلة الرسالة - العدد 358 من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي [[مؤلف:|]] |
خواطر يثيرها سائل ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1940 |
(للأستاذ محمد كرد علي مذكرات تتناول مشاهداته وتاريخ حياته من يوم وعى لنفسه، وقد تحدث فيها كثيراً عن مصر ورجالات مصر، ويسرنا أن نقدم إلى قرائنا هذه الصفحة منها.)
أخلاق القضاة
لم أرَ فيما رأيتُ من أنواع العداوات أشد من تعادي المشايخ، ولا أكثر
من غمط بعضهم حق بعض، ولا أعظم من تكالبهم على حُطام الدنيا،
ولا أشد تهالكا منهم على أبواب الأمراء والحكام. ولقد رُويت لي عنهم
روايات ما كنت أصدقها لولا أن روايتها ممن لم يعرفوا الغيبة
والنميمة. ولما أخذت أتعرف إلى الرجال رأيت ما هالني، وآلمني أن
كان من يُطلب منهم الصدق هم من أول الكاذبين، ومن تفترض فيهم
الأمانة هم في مقدمة الخائنين؛ وأيقنت أن القليل منهم عرفوا الكرامة
وعزة النفس. وهم هم جعلوا مسلكهم بضعتهم علامة ضَعَة وصَغار،
وكان علامة شرف وفخار. وأُصيبوا بغرور وزهو ظنوا معهما أن
سلطانهم القديم على الملوك، فمن دونهم، يبقى لهم بهذا الجهل وهذا
الفساد
قلت يوماً لعالم درس تاريخ الإسلام درس تدبر، وعرف استخراج عبره: (أما كان في العصور الماضية قضاة جاهلون فاسقون سارقون، فكتب الأدب تتعرض لذكر كثير مما كان يتهمون به أليس ما روي عنهم صحيح أم صنعوه للنكتة؟) فأجاب: أكثر ما روي في سيرة القضاة قديماً صحيح، والجهل وسوء الخلق لا ينقطع دابرهما من الأرض، ولكن إذا فرضنا أنه كان في المملكة الإسلامية ألف قاض في القرون الغابرة، وألف مثلهم في هذه الأيام، فإن الألف السابقين كان فيهم عشرة فاسدون لا يصلحون، أما الألف اللاحقون فالفاسدون منه يعدون بالعشرات بل بالمئات. وأظن السلطان بيلديرم بايزيد العثماني هو الذي جمع قضاة مملكته لما ثبت له قلة دينهم وتلاعبهم بالحكومة وأمر بقتلهم كلهم؛ فلما حقت عليهم كلمة العذاب لجئوا إلى أحد حاشيته وندمائه ورشوه بمبلغ من المال (وداوني بالتي كانت هي الداء)، فذهب إلى السلطان لابساً ألبسة السفر، فسأله السلطان عن الداعي إلى اكتسائه هذه الكسوة؛ فقال: إنه ذاهب صاحب القسطنطينية - وكانت يومئذ بأيدي الروم - ليأتي من عنده بقسيسين يتولون القضاء في بلاد السلطان. فضحك هذا وعفا عن القضاة على ألا يعودوا إلى سالف سيرتهم القبيحة
ومازالت حال القضاة في تدهور العصر بعد العصر حتى كانوا هم السبب الأعظم في إدخال قوانين الغرب على الدولة العثمانية والحكومتين العربية والتونسية لكثرة ما أساءوا إلى الشرع الإسلامي وعبثوا بأصوله وفروعه، فكانت المحاكم الشرعية بؤرة فساد، وأحكامها سلسلة من الخلل والعلل، فأكرهت أوربا الدولة على قبول قوانينها، ظناً منها أن الفساد آت من الشريعة، وما العيب إلا من جهل المنفذين لأحكامها وفساد أخلاقهم. وقد شاهدنا تحسناً ظاهراً في قضاة الشرع لما أنشأت الدولة مكتب النواب في الآستانة وكان المتخرجون على أساتذته إلى الاستقامة والعلم أكثر ممن سبقوهم بكثير. ومثل ذلك شاهدنا القضاء في مصر يتولاه اليوم الأخيار وكان في القرن الماضي يتولاه الأغمار والأشرار. بحثت سيرة من أهمني أمرهم من القضاة فقلَّ جداً من اقتنعت بذمته منهم، ومن نعده مستقيماً قد لا يتعفف عن قبول الهدايا من أرباب المصالح
قصة لطيفة وقعت لقاض من أهل دمشق كان في دومة من الغوطة، وكان مضحاكا خفيف الروح يحفظ كثيراً من النوادر والفكاهات، وهذا جل رأس ماله في القضاء على ما يظهر. أتاه ذات يوم رجل اسمه محمد عبد النافع أحد ظرفاء دومة بكتاب يقول له فيه إن الله خلقه بغير إرادته، وأنى به إلى هذا العالم ولم يستشره، وزين له أن يتزوج ففعل، ورزقه أولاداً ليقربهم عيني والديهم فكانوا علة إفلاس والدهم وشقاء والدتهم، وإن فقره يزيد كلما زاد عدد أولاده؛ فهو لذلك يتلمس من القاضي أن يجلب إلى محكمته العادلة المدعي عليه وهو الله سبحانه وتعالى ليتقاضى معه؛ فرأى القاضي أن صاحب الدعوى من أصحابْ النكتة، فانتظر حتى أنجز أرباب الأشغال مراجعاتهم وأغلق باب المحكمة ولم يترك فيها غير الموظفين والقائم مقام، وطلب المدعي وهو والحاضرون يصطنعون الجدِّ، فسأله عن دعواه على الحق تعالى، فقال إن دعواه مكتوبة في القصة التي قدمها. فقال القاضي للمدعي بعد أخذ ورد قليل: هل تسقط دعواك يا شيخ إذا أُعطيت من مال الله خمس ليرات عثمانية وكيس طحين؟ قال: أفعل. قال: القاضي أنا سائلك سؤالاً تجيبني عليه بصراحة.
فقال: الأمر لسيدي. فقال القاضي: جاء هذه البلدة قضاة كثيرون قبلي فَلِمَ لم تتقدم إليهم بهذه الشكوى لينصفوك ممن تدعي عليه سبحانه وتعالى؟ فقال: لم يكن القضاة الذين يقدمون لتولي القضاء في بلدنا مثلك، كانوا يخافون منه. فصفق الحاضرون تصفيقاً شديداً استحساناً لهذا الجواب. وربما قال القاضي في سره والله لصادق؛ فأنا أعلم من نفسي أن معظم القضاة لعهدنا لا يخافون الله، هم لصوص على رؤوسهم عمائم بيضاء، وإن طعامهم ولباسهم من أموال اليتامى والأيامى. وهكذا كان هذا القاضي يقول لزوجته مفاخراً، وما أشك أنه من قضاة النار. . .
هزل مصر
ومنها من فصل عنوانه (هزل مصر):
. . . في مصر اليوم عدة جماعات ومجتمعات تظفر في بعض حواشيها بأفراد ممتازين يختلفون إلى المقاهي ويزهدون في الاجتماع في بيوتهم، وكذلك الحال في بلاد الشام، وكانت فيها الأندية الخاصة أو (البعاكيك) في كل حيّ من أحياء المدن والقرى الكبيرة. ولي جماعة في بار اللواء أمام إدارة جريدة الأهرام بالقاهرة، وهم بقايا صالحة من أرباب الثقافة العالية والوطنية الحقة الصامتة، ومنهم صديقي القديم الأمير محمد بك علي المهندس، وقد وقع لي، وأنا أسير معه في بعض الشوارع، وأمه سودانية وهو أسود البشرة محمود الصفات خدم السياسة المصرية بما يخدمها به الرجل الشريف أعواماً طويلة وما طلب على عمله لوطنه مكافأة ولا طمع في مظهر من المظاهر التي يطمع فيها المتجرون بالوطنية
وقع لي أن لاقيت على الجادة صديقاً لي آخر اسمه صالح أفندي السوداني وهو أسود أيضاً بلون محمد بك علي، وهو من أرباب الأقلام ومن المخلصين في خدمة مصر فقلت لهما: خطرت ببالي الآن قصة وقعت لي في بلدي وأنا في صدر الشباب، كان لنا جار وهو أخي من الرضاع اسمه رشيد الهبل من أبناء البيوتات القديمة وقد خلف له أهله ثروة جيدة، وكان أسود اللون قاتمه مثلكما، ولكما المثل الأعلى، فكنا يومئذ نركب الخيل وعنده وعند والدي منها عدة نمتطي بعضها عند الأصيل وتخرج إلى المنتزهات بين البساتين. فقال لي والدي يوماً: إنك يا بُنيَّ تثبت كل يوم حسن ذوقك؛ أما رأيت في هذه المدينة الكبيرة أجمل طلعة من جارنا ابن الهبل تصحبه إلى نزهتك؟ ودعا لي بالتوفيق والغبطة! والتفت إلى الصديقين وقلت لهما من باب مطابقة الحديث للترجمة: أليس قول والدي يصدق علي الآن؟ ولا شك أن الناس هنا أدق شعوراً فيضحكون إذ يرونني بينكما. فضحكنا ضحكاً كثيراً. . . وتالله إني لأفضل هذين الأسودين بما فيهما من صفات غُرّ على كثيرين من البيض أصحاب الصحائف السود.
محمد كرد علي