الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 358/في ذكرى الرافعي

مجلة الرسالة/العدد 358/في ذكرى الرافعي

بتاريخ: 13 - 05 - 1940


طريقته في تأليف كتبه

للأستاذ محمد سعيد العريان

قلت عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له؛ فقد أملى عليّ أكثر من مائة مقالة كنتُ شاهدَه فيها إذ يُلَقَّى الوحيَ، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها كما هي في نفسه.

وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات هي ما وصفْتُ عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضوع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون من حقائق العلم ونتائج البحث والروية، ثم التهدِّي من ذلك إلى رأي ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.

وطريقة الكتابة غير طريقة التأليف؛ أعني أن الطريقة لإعداد مقالة أو فصل أدبي من مثل (رسائل الأحزان) أو (السحاب الأحمر) أو (المساكين) - غيرُ الطريقة في إعداد كتاب مثل (تاريخ آداب العرب)؛ فإن الشأن بين هذين مختلف باختلاف موضوعهما؛ ذلك أن في كل نفس معانيها التي تعِّبر بها عن الحب والبغض والقطيعة وما إليها من خلجات الوجدان أو مدركات الحس، بأسلوبها وعلى مقدارها؛ فما يحتاج الأديب لتصويرها وإبرازها إلى شئ غير الأداة الطبيعية التي يؤديها بها إلى الناس كلاماً مقروءاً يصل نفساً بنفس وينقلها من خطرة قلب إلى إدراك حس. أما تأليف الكتب العلمية فله سبيل غير هذه، لأنه يقوم على الجمع والتفريق، وعلى النقد والتصفح، وعلى الاستقراء والملاحظة.

وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب تاريخ آداب العرب منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت به ما اهتديت؛ ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين وأيان اجتمع لمؤلف هذا الكتاب هذا القدْرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألّف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

وظل هذا السؤال قائماً في نفسي زمناً، وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شئ بعد شئ في صفحات متفرقة من كتب عدة يُنسى آخرها أولها من تباعد الزمان بينها، وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه. وكان ذلك يزيدني عجباً وحيرة؛ فإنه ليس من الطبيعي أن يعرف إنسان كل من يراه في طريقه من الناس بحيث يتهيأ له أن ينسب بعضهم إلى بعض ويعرف القريب منهم والجنيب بما بينهم من تشابه في الخلقة؛ ولقد يكون ممكناً أن يجلس أخَوان بإزائي فأعرف ما بينهما من النسب بالمشابهة والفراسة، ولكن هيهات أن أهتدي إلى ذلك لو رأيتهما متفرقين على تباعد الزمان وانقطاعالصلة. من مثل ذلك كان عجبي وحيرتي

. . . وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل؛ وهممت أن أعرف بنفسي فلم أبلغ؛ ثم عزوت ذلك إلي ذاكرة الرافعي وسرعة حفظه؛ وقلت: متفرقاتٌ قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعها لو لم تجتمع له من ذات نفسها، واطمأننت إلى هذا الاستنتاج ونسبتُ إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في هذا الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته!

ثم قرأت له بحثه في (الرواية والرواة)؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم واستظهار كتبه؛ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهما من الوهم عرفت حقيقته فيما بعد. . .

أما الحقيقة التي عرفتها بعد، فما أزال في شك منها وإن كان برهانها ماثلاً لعيني؛ ولكنه شك المتعجب الذي يفجأه ما لم يكن يتوقع. . .

منذ بضعة أشهر وكل إلي القيام على تصحيح بعض مؤلفات الرافعي التي تطبعها الآن إحدى دور النشر الكبرى في القاهرة؛ فأخذت أهبتي للعمل. . .

. . . وزرت المكتبة التي خلفها صاحبها أوراقاً مركومة وكتباً تستند إلى الحيطان؛ أريد بذلك أن أبحث فيها عما يكون هناك من مستدركات على بعض الكتب المطبوعة، فأزيدها عليها؛ وأبحث عن (أصول) الكتب التي لم تطبع بعد، فأرتب فصولها وأعدها للطبع. وفتحت أدراج الدولاب، فرأيت وعرفت السر. . .

رحمه الله!

ذلك جهد لا يقوى على مثله جند سليمان ولكنه قَويَ عليه وحده، ثم مات وخلَّفه شاهداً على ما بذل في حياته لخير هذه الأمة فلم يلق من يعرف يده!

وإلى القارئ أصف ما عثرت عليه:

يعرف قراء العربية أن كل كتب المراجع في لغتنا ليس لها فهارس تعين الباحث على التماس ما يريده منها في أقصر وقت، إلا بضع كتب من المطبوعات الحديثة؛ فالأغاني، والأمالي، والعقد الفريد، والكامل، والعمدة، والخزانة، والحيوان والبيان والتبيين، وكتب الطبقات، وحتى كتب الفهارس والتراجم، ليس لها فهارس يمكن الاعتماد عليها عند البحث؛ فمن أصاب منها غرضاً فعن طريق المصادفة والاتفاق، أو بعد المطاولة وضياع الزمن؛ وحسبي أن أذكر أنني ذات مرة أنفقت ليلة كاملة في البحث عن كلمة في البيان والتبيين ثم لم أعثر بها فطويته على سأم وملالة؛ فلما كنت بعد أيام، وقد فات عليّ الغرض الذي كنت أقصد، فتحت الكتاب عرضاً فإذا الكلمة التي كنت أريدها أمامي. . .

هذه الحقيقة يعرفها كل من عانى مشقة البحث في هذه الكتب؛ فهي كتب للقراءة المجرّدة لا للبحث والتنقيب العلمي عرف الرافعي ذلك فاتخذ له طريقاً. . .

وكان أول ما صنع أن انتخب كل الكتب التي يعينه أمرها فيما يمهد له من البحث، فقرأها كلها قراءة درس؛ وهي كتب ليست بالقليلة، وحسب القارئ أن يعرف أن كل فصل في كتاب تاريخ آداب العرب للرافعي قد اعتمد فيه على عشر مراجع من المطولات أو يزيد، ليدرك من ذلك كم كتاباً قرأ قبل أن يؤلف كتابه الذي ذكرت. . .

قلت إن الرافعي انتخب طائفة من الكتب يرجو أن تعنيه على البحث فقرأها كلها، أعني نَفَضَها نَفْضاً بحيث لم يفُتْه منها معنى يتصل بموضوعه

ثم شرع يعمل، فكتب لكل كتاب مما قرأ ملخصاً يضم المجلدات الكثيرة في كراسة أو كراسات؛ يرجو أن تغنيه عن أصولها المطولة

ثم عاد إلى هذه الملخصات فرتب أجزائها ترتيباً يضم القريب إلى القريب بحيث يجد طلبته عند النظرة الأولى من غير أن يتعب في تقليب الأوراق

ثم كانت الخطوة الرابعة فزاوج بين ملخصات الكتب المختلفة يضم الأشباه منها إلى الأشباه

ثم كتب. . .

ثم عاد إلى المكتوب فقرأه قراءة الباحث: يزاوج بين رأيٍ ورأي ليخرج منهما رأي ثالث.

واجتمعت له من ذلك المقدماتُ التي تبلغ به النتيجة. . .

ثم كانت المرحلة الأخيرة هي التهذيب والصقل الفني، من صناعة البيان وتحكيك الألفاظ وتجميل المعاني وتزيين الأسلوب

سبع مراحل بين البدء والنهاية. . . ثم خرج الكتاب لقارئه ليسائل نفسه في عجب: أين وأيان اجتمع لمؤلفه ذلك القدرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

سؤال كنت أسأله نفسي قبل أن أرى وأعرف وأضع يدي على تلك الأوراق التي كانت في درج مكتبه فتكشف لي السر. .

بين يديَّ الآن الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، أرجو أن أفرغ منه ليكون في أيدي القراء بعد أيام؛ وهو كتاب ألفه في سنة 1911 أو قبل ذلك، ثم شغلته شئون الحياة عن إخراجه فخلَّفه أوراقاً مصفرّة يكاد يبليها التقادم. . . في هذا الكتاب وجدت مفتاح السر، وسيقرؤه قراؤه بعد أيام فيعرفون في بعض فصوله أين بدأ مما انتهى وعند أي مرحلةٍ وقف. . . ثم يذكرون مؤلفه فيترّحمون عليه. . .

. . . وفي مكتبته كتاب آخر أرجو أن يعينني الله عليه ما أعانني على هذا الكتاب. وهناك غير ذلك كراسات عدة وأضابير مطوية. تلك هي الفهارس التي كتبها ثم استكتبها. . ولكنها - فيما تبدو لي - ألسنةٌ خُرْس

قلت كانت المرحلة الأولى في تأليفه أنه اختار طائفة من الكتب. . . وأقول إن أول ما اختار من ذلك كتب التراجم؛ مثل الفهرست لابن النديم، ووفيات الأعيان، ونحوهما

وطريقته في التحصيل من هذه الكتب، أن يقرأ الكتاب ما بين دفتيه؛ ثم يكتب ملخصه بحيث يشمل من أسماء أهل الفنون الأدبية وامتياز كل منهم، مثل الشعراء، والخطباء، والكتاب، والرواة؛ ثم أسماء الكتب، وموضوعها، فنون العلم، ومعارضات العلماء بعضهم لبعض؛ ثم الطرائف الأدبية التي تشير إلى معنى يتصل بشيء من موضوعه. وفي كتب التراجم من هذه الطرائف ما ليس في كتاب

وأستطيع أن أقول جازماً: أن الرافعي أعتمد على كتب التراجم في الجمع لكتابه (تاريخ آداب العرب) أكثر مما أعتمد على الكتب الخالصة للأدب؛ وكان اتجاهه إلى ذلك سبباً في توفيقه إلى ما لم يوفق إليه غيره في موضوعه

ويذكِّرني اعتدادُه بكتب التراجم في هذا الشأن، ما ذكرته في كتابي (حياة الرافعي) عن استمداده منها أكثر ما كان يكتب لقراء الرسالة من قصص لم ينسج على منوالها كاتب من قبله ولا من بعده؛ فكأن هذه الكتب كانت عوناً كبيراً له على ما أبدع في الأدب بنوعيه: الإنشائي والوصفي

لست أشك في أن طريقة الرافعي هذه كانت ذات فائدة كبيرة، ولكنها كانت حقيقة بأن تكون أكثر جدوى وفائدة لو أن هذه الملخصات والفهارس التي صنعها ليستعين بها كانت على غير النظام الذي وضع، ليمكن انتفاع غيره بها؛ فلو أنه عني بأن تكون تلك الفهارس كاملة وعامة، لكان بذلك قد كمل نقصاً في تلك الكتب التي أخذ عنها وزادها فائدة ولكنه - رحمه الله - لم يكن له غاية من صنع هذه الفهارس إلا الاستعانة بها على الجمع لكتابه، فبلغت به ما أراد، ثم بطل عملها!

وقد يسأل سائل: كيف تهيأ للرافعي الزمن الذي قرأ فيه تلك الكتب التي أخذ عنها ولخصها، ثم ألف منها كتابه؟

وهو سؤال لا أجد جوابه، على أنه مما يزيدني دهشة أن الرافعي قد بدأ يعد لكتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1909 وفرغ منه - بأجزائه الثلاثة - في سنة 1911؛ فأنظر ما عسى أن تتسع له سنتان من عمر فتى لم يتجاوز الثلاثين وهو أب وزوج وله عمل في الحكومة يشغل نصف نهاره؟

وقد قال لي قائل مرة وقد جاء ذكر الجزء الأول من تاريخ آداب العرب: إنه كتاب يتحدث عن كل شئ إلا عن آداب العرب!

قلت: قد يكون ذلك رأيك ورأي طائفة معك، ولكنه على كل حال كتابٌ يغني عن مائة كتاب؛ وأسأل معلِّميك: من ألف في تاريخ آداب العرب قبل الرافعي؟

رحمه الله بما قدم لهذه الأمة وأجزلَ ثوابه

محمد سعيد العريان