مجلة الرسالة/العدد 358/خواطر يثيرها سائل
→ من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي | مجلة الرسالة - العدد 358 خواطر يثيرها سائل [[مؤلف:|]] |
الفقه الإسلامي ورعاية الصالح العام ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1940 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 3 -
سنة الله - التحرر من التاريخ - الطفولة موضع أمل - عصر العمل - شرود النساك - عالم الأجسام - فلنعش هنا - معنى العبادة - الدين ابتهاج لا كآبة - دعوة الأغنياء للدين - الحياة لعب ولهو - جناية الدولة على حياة الروح
لا يزال أكثر الناس يجهل سنة الله واتجاه إرادته في الطبيعة على الرغم من كثرة عدد العلماء الطبيعيين، ولا يزال كثير من الأمم يأبى أن يبني الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية كما بنى الله الطبيعة بقوانين لا تخطئ ولا تستثنى ولا تهمل، مع أن الحل الوحيد الموفق السعيد لجميع المشكلات هو أن يبني الفرد حياته وتبني الجماعة حياتها كما بنى الله الحياة العامة على الحرص الدقيق واليقظة التامة والعلم الشامل والقوة القاهرة والتصميم النافذ والاستيعاب الكامل للجزيئات والتوزيع العادل للقوى والعناصر؛ فبرزت في هذا التناسق والانسجام والجمال
ومع هذا الجهل الفاضح من الناس (لسنة الله) نجدهم في غاية الجرأة إذ يقدمون على محاكمة الله بعقولهم الصغيرة المحدودة التي لم تعرفه بعد ولم تعرف اتجاه إرادته الظاهر في الطبيعة
إن الله احتجب عنا فلن ندركه بأبصارنا إذ لا قدرة ولا طاقة لنا على ذلك. ولكنه وضع أمامنا (خريطة) الكون مفصلة واضحة لنرى فيها تخطيطه وأسلوبه في إيجاد الحياة وتنظيمها والقيام عليها
وقد وضع الله في الإنسان قوة أشبه بمرآة تنطبع فيها جميع صور الطبيعة ونظمها وهي (العقل)، وكان من المحتم لو سارت التربية سيرها الطبيعي أن ينتقل سنة الله في الطبيعة إلى تلك القوة وينطبع فيها فتحفظه وتتنبه إليه دائماً وتسير بإرشاده في بناء الحياة الإنسانية. ولكن قوة (الاختيار) التي في الإنسان من جهة وحبه (لاختبار) كل أفق (واستطلاع) كل شئ في الحياة هما السبب في عدم تقيده بما يوحي إليه أسلوب الله، وفي خلقه لنفسه جواً صناعياً جعله يبتعد بالتدريج عن الطبيعة التي هي كتاب الله إليه وصورة من علمه تعالى واتجاه إرادته
وشئ آخر غير (الاختيار) وحب الاستطلاع والاختبار يؤثر في إدراك الإنسان وعقله تأثيراً رديئاً. . . شئ هو كل شئ. . . هو التاريخ المسطور في الصحف الموروثة وأدمغة العجائز والشيوخ الذين هم قناطر وجسور دائمة تعبر عليها وراثات من الجاهليات الأولى متحدرة في الدماء والأعصاب والألسنة هي آثار من المحاولات الأولى المغلوطة التي حاولها الإنسان لإدراك الله وإدراك اتجاهه في الطبيعية
إن خمائر التاريخ السيئة التي تعوقنا عن رؤية الحق الصريح إنها جعلتنا أناسً صناعيين لا طبيعيين. . . فلا يزال في التاريخ كثير من الأمراض والظلمات التي كنا فيها قبل أن نشب عن الطوق وندرك الرشد، إنه من اكبر أسلحة الشر لمقاومة تقدم الإنسانية. . . إنه يربينا بما كان يربي عليه الأولون من العواطف والأفكار المغلوطة، ومن العجيب أن الاحتفاظ بخرافات التاريخ وجد له شرعة عصرية تحلله بحجة الإبقاء على (التقاليد) حتى الدين العقلي الطبيعي وهو الإسلام لم يستطيع أن يمحو مصائب التاريخ ومواريثه السيئة من الأمم التي تدين به فدخل كثير من الناس فيه من غير أن يغتسلوا غسلاً تاماً من مواريث الوثنيات والأباطيل واكتفوا بتغيير عنوان حياتهم العقلية القلبية من غير أن يخلعوا ما وراء العناوين، ولو ذهبت أتقصى بقايا الوثنيات في ديار الإسلام وفي أفكار المسلمين لطال بي المقال، وحسبي أن أحيل كل قارئ على علمه بما يجرى، وإذا كان هذا ديار الإسلام فما بالك بما في ديار غيره. . . وقد انحدرت إلينا هذه المواريث سائرة مع أصول الدين جنباً لجنب ولم تنتبه إلى ازدواج شخصياتنا تبعاً لذلك، وإني أتخيل جيلاً من الأطفال ربي بأيدي حكماء تحرروا من كل باطل واسترشدوا بأسلوب الطبيعة وسلامة الفطرة ولم يأخذوا الأفكار العامة عن الحياة والدين من التاريخ والبيئة الملوثة. . أتخيل ذلك فتسطع أمامي في هذه الأرض أنوار من الجنة الموعودة في السماء. . .
ولم يستطع نبي أن يتلقى الوحي عن الله إلا بعد هذا التجرد من التاريخ. . . إن النبوة في مبتدأها تجرد من كل شئ موروث ثم! إيغال في الوصول إلى أصول الحياة، ثم رؤية يد الله وهي تضع هذه الأصول وتحفظها، ثم سماع الله بعد ذلك. . .
والطفولة هي موضع أمل الإصلاح. . . ولكن هل تترك الإنسانية المصلحين يبنون مستقبلها؟ هذا سؤال قبله سؤال آخر: هل هي تدرك المصلحين وتعرفهم؟ نعم تدركهم ولكنها تحسدهم؛ لأن الغرائز السفلى وقوى الشر دائماً تسلط الحسد ليكون طليعة في الدفاع عنها وبقاء وجودها. .
قلوب الأنبياء والحكماء كقلوب الأطفال. . . لأنهم يرتدون دائماً إلى مبادئ الطبيعة وأوليات الحياة البسيطة التي لم تلتو مع ميراث النفاق الاجتماعي والإثم الصناعي. فهم دائماً ينظرون بفرحة وبهجة إلى الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكل شئ. . . وكل شئ. وكأنهم في ابتداء حياة جديدة كل يوم بل كل ساعة. . . وتترقى نظرتهم بترقي إدراكهم حتى ينتهي بهم الأمر إلى أن ينظروا إلى الوجود نظرة خالق الوجود! نظرة وراءها وصاية كل شئ واهتمام به وحرص على استمرار نفاذ قوانين الحق على سنة الله وطريقته
قد كان من الواجب على الإنسان أن يقلد أسلوب الله منذ وجوده. وأسلوبه يتمثل في العمل والصمت الدائم. . . ولكن الإنسان أخذ يلهو ويعبث ويتكلم! وفرح بالكلام وقضى في علوم الكلام دهراً طويلاً من عمره، حتى جاء العصر العملي الذي لا نزال في فجره وبواكيره. وهذا العصر العملي كثير البركات على الإنسان، إذ كشف له عن كثير من أبواب كنوز الطبيعة ومفاتيحها. وكان من أول الواجبات بعد هذا العصر أن يشرع الإنسان في تعديل غرائزه السفلي وتهذيبها (وتطويرها) حتى لا تشغله بسفالاتها القديمة وصراخها الصبياني
وإني لأعجب من العلماء الطبيعيين الذين كشفوا عن كثير من الأسرار العملية في الطبيعة، ثم استمروا بعد ذلك خاضعين للغرائز السفلى ومواريث التاريخ الجاهلي! كما أعجب من النساك والعباد الذين يتنسكون ويتركون الجهاد للحياة العملية والاندماج في موجاتها!
إن الله بنّاء بنى السماء والأرض والجبال. . . وصانع صنع جسام النبات والحيوان. . . وسقَّاءٌ يسوق السحاب الثقال. . . وزراع يخرج نبات كل شئ، ومعلم هدى كل شئ إلى طبيعته. . . وفنان طرَّز حواشي الوجود، وصبغ الخدود، وزركش الأرض بالورود، ورقق أنفاس الرياح، ونشر العطر الفياح، ورقرق الأنهار، وجلا النهر، وزين الظلام بالمصابيح الوضاء. . .
(فالجمال هو توقيع الله على الأشياء)! فكيف يأبى النساك أن يعملوا للحياة عمل الله؟!
إنهم لم يعرفوه! فلو عرفوه لساروا على أسلوبه، ولأقاموا أسواق الحياة عامرة. . . لأنه خلقهم ليعمروها لا ليتركوها غامرة صامتة صمت الخراب والقبور. . .
إن حياة التأمل في الله بدون عمل قليلة المحصول جالبة للخبال (ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا)
الأجسام! الأجسام! هي أداة الحياة في الدنيا، فيجب أن نحيا بها حياة كاملة، ولا نعطلها في البحث وراء العالم الخفي. . . يجب أن نخرجها إخراجاً جميلاً قوياً فإنها محاريب من محاريب الطبيعة أيضاً. . . بل يكاد يكون الجسم الإنساني الجميل المكتمل أجمل شئ في الوجود. . .
لعل النساك يحرمون أنفسهم هنا لينالوا ما هناك؟. . . كلا! ليس وجود الآخرة معناه ألا نحيا هنا حياة طيبة بقدر ما تسمح به طبيعة الحياة الدنيا. . . إن الآلام هي سبب الكفر والجرائم التي تحرم من جنة السماء فلنحاربها ولنمحها إذا استطعنا لنضمن الرضا عن الحياة والرضا عن الله
لماذا ننشد نعيم الآخرة بشقاء الدنيا؟! ألا يجوز الجمع بينهما؟ بلى! وإلا فالحياة مأساة!
ويقيني أن صلاح الدنيا صلاح للآخرة
إن الدين لم يكلفنا بعمل أشق من الموت في سبيل الله وما معنى الموت في سبيل الله؟ أنه الموت لتكون كلمات الله هي العليا. ولن تكون كلماته كذلك إلا إذا سار الإنسان على أسلوب الله في الطبيعة فضمن سلامة الحياة من إجرام الغرائز السفلى وظلمها، فكأنه أشق عمل ديني فرضه الله وسيلة لإصلاح الدنيا. فصلاح الدنيا هو المطلوب الأول لأننا نحيا حياتنا هذه قبل حياتنا الأخرى
يقول النساك المعتزلون للحياة: إنهم يطلبون وجه الله بالعزلة. . . ولكن وجه الله الحقيقي لا يرى. . . وفي الحديث: (إن الله احتجب عن الأنظار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم). ذلك قول قالته أعظم نبوة رأتها الأرض، وعليه طابع جلالها وعمقها وصدق تجربتها في البحث عن وجه الله
ولكن صور وجه الله تظهر جلية رائعة في الطبيعة وفي آفاق الحياة الإنسانية، فعلينا أن نبحث فيها عن الله وأسراره. وما خلقنا بالأجسام إلا لنعرفه في عالم الأجسام. . .
علينا أن نلبس الحياة لبساً واسعاً شاملاً وأن نحسها في كل شئ إحساساً عميقاً. وتلك هي حقيقة عبادتنا. فالدين هو الإحساس بالحياة إحساساً دائماً يكون معه الفكر في الله مبدع الحياة. وبهذا أجد تفسير (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وبهذا التفسير تتبين غاية الخالق من خلق الناس متحققة واضحة جلية. أليس كذلك أيها الأخ البيروتي أو ليس كذلك أيها الأخ الآخر (ح. م)؟
فالإحساس الصادق بالحياة والعمل بمقتضى هذا الإحساس هو عبادة الله. وعلى هذا تكون كل حياة الإنسان في الأرض عبادة. . . حتى خدمته لنفسه وشعوره بلذاته المحللة وكشفه العلمي وعمله للرزق ما دام وراء كل أولئك فكر في الله وتنبه إلى سر إيجاده للحياة
وتبتدئ العبادة حين يحس الإنسان أنه دخل هذه الحياة مكرهاً من غير إرادة، فصبر على ما فيها من آلام ومشقات حتى يتوفى الله نفسه من جسده. . فالمنتحر كافر لأنه لم يتحمل آلام التجربة والاختبار في هذه الرحلة الأرضية التي لابد أن يكون وراءها غاية عقلية عند الذي دعانا إليها وحملنا عليها. المنتحر شخص وهبه الله الحياة فردها في وجهه. فما دمت قد شعرت أني لست أنا الذي خلق نفسي ودفع بها إلى هذا البيت الهائل العظيم فصبرت وانتظرت وفكرت في صاحبه دائماً فأنا عابد لله؛ لأنني صرت طائعاً مع أبناء الحياة، ومواكب الطبيعة التي تسير أمام عصا القهر طائعة ساجدة
والفرق بين أعظم القديسين وأعظم الكافرين هو اتجاه الفكر والنية إلى رب الحياة في كل عمل وفي كل وقت. . . فالقديس كل أعمال حياته مسبوقة باتجاهات ونيات منظور فيها إلى رب الحياة. . . والكافر كل حياته غفلات يأخذ بعضها برقاب بعض فلا يفيق منها إلا عند الموت. مع أنه حين يدخل متحفاً أو بيتاً جميلاً يسرع فكره إلى السؤال عمن بناه أو نظمه. . .
لقد أفسدنا المعاني الدينية بأخذها تقليداً من دون فكر وروح وإحساس بها وبتلقينها للأحداث قبل أوان تفتحها في أرواحهم وعقولهم بمناسباتها. فحسبنا العبادة هي أداء رسوم الصلوات والزكوات والصوم وغيرها. . . كلا! إن العبادة هي الإحساس الصادق بالحياة والشعور الملازم بالله والفكر فيه، وفي أسلوبه وتقليد أعماله في الطبيعة من أول الوعي للحياة إلى أن تحين سكرة الموت. . . وأما الصلوات وما وراءها مما يسمى عبادات، فهي فيض النفس بتلك المشاعر والأحاسيس والأفكار فيضاً يتمثل ويتشكل ويظهر في عالم الأجسام بعد امتلاء الروح. . .
والدليل على ذلك أن هذه الأعمال تكون باطلة إذا خلت من التوجه والنية. . . فكأنها مواقف (استعراض) لأجسام الذين تمثلت فيهم الحقيقة الدينية كمواقف استعراض الجنود الذين يجيشون لغاية ما، ولن يعد الجندي بلباسه وشاراته وسماته الظاهرة إلا إذا كان عامر القلب بمعاني الوطنية والغاية التي جند من أجلها.
شئ واحد ينبغي للإنسان أن يحرص عليه، حتى يحقق الغاية من خلقه: هو أن يحيى رب هذه الحياة بتحية بسيطة قبل أي عمل أو متاع، ومع كل ألم. . .
فإذا استطاعت التربية في بيوتنا ومدارسنا أن تجعل هذه الخاطرة الصغيرة عادة ملازمة للإنسان فقد قام الدين وأقيم أساسه في النفس، ثم تأتي سائر رسومه وأشكاله بعد ذلك فيضاً نفسياً وفعلاً اختيارياً
وإن إدراكنا لله في القرن العشرين يجب أن يكون أوسع منه عند جماهير الناس في القرون السالفة. وهذا منوط بالتربية، والنشأة الطبيعية تحت التأثير المباشر للطبيعة أقل ضرراً وإفساداً لنفس الطفل من التربية المغلوطة التي فيها مواريث ومقاييس فاسدة
والدين يجب أن يعلم على أنه بهجة وفرح بالحياة التي أتاحت لنا أن نعرف الله في هذه الرحلة السعيدة التي دعانا إليها على الزورق الأرضي
ولشد ما يغيظ ويؤلم أن ترى حياة التدين عند أكثر الناس ملازمة للكآبة والضعف والحزن والفقر!. . . وسوء الطريقة من دعوة الأغنياء والأقوياء للدين، هي التي حرمتهم منه وحرمته منهم، حتى صار معلوماً عند الناس أن عبادة الله لا تكون من قوة ولا غنى، وإنما تكون من الفقر والضعف الذي لا يملك على الأرض صرفاُ ولا نصراً. وعدم التفريق بين ما لابد منه في الدين لأنه ضروري وبين ما منه بد لأنه كمالي هو مما جنى على حياة التدين بعدم انتشارها بين الأغنياء والأقوياء
ثم إن مفاجأة الأغنياء والأقوياء بألحان الكآبة والحزن والموت والقبر وجهنم، وغمرهم بكثرة التكليفات التي لا يقوم بها إلا الورعون، هي التي جعلت نفوسهم تضيق بهذه القيود القاسية التي تحبسهم عن حياة المتاع الحلال والحرام الذي لم يبين لهم سبب معقول لتحريمه إلا الخوف من عذاب جهنم. والدين إذا لم يبن على الفكر والتعليل أو شك أن ينهار بناؤه، حتى في نفوس الدعاة إليه. وخصوصاً إذا كان ديناً يهيمن على شئون الدنيا ويقيم لها حدوداً كالإسلام
أمن الحق أن يوجه فكر الإنسان دائماً إلى الموت على أنه هو المطلوب الأول من الحياة؟
وهل من الحق أن نجعل المثل الأعلى للحياة الدينية هو التفرغ لما يسمى عند الناس بالعبادات؟
قال الغزالي: (واعلم أن العلم غذاء والدين دواء، فمن جعل الدواء غذاؤه مرض. . .)
وقول الغزالي هنا قول فصل، لأنه قول خبير في هذا المقام ومن قواعد الدعوة الإسلامية الأولى أن العامة والجماهير ينبغي ألا يحملوا على الورع والزهد والتزمت. . .
والقرآن يعترف بسلطان الحياة على النفوس ويقول: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). ويقول: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد). ويكرر هذا المعنى في غير موضع. فلماذا نريد نحن أن نفرض للحياة صورة عقلية كلها جد مؤلم مستمر وصرامة. ونريد أن نحمل الناس عليها، مع أن العقل والشرع والتجربة الأزلية تقرر أن هذا مستحيل؟ وهل كل ما في الحياة إلا تكوين وتخريب كلعب الأطفال؟ وهل الرجال والنساء إلا أطفال كبار يلعبون في الحياة لعبها المعهود بالجمع والطرح؟
إننا نصنع من طين الأرض وموادها الميتة آلات تسعى وتطير وترى وتسمع. . . ثم نخربها بالاستعمال والامتهان ونكون غيرها وهكذا. .
إننا نشقى في جمع المال والاقتناء والاستكثار ثم نترك كل هذا لغيرنا يعبث فيه ويبدده. أليس هذا عبثاً أو شيئاً أشبه بالعبث في نتائجه؟ ولكننا محمولون على هذا من الطبيعة ولن نملك لأنفسنا غيره، ورجال الدين مثلنا مع أننا نعلم ما تقول الحياة وما قال القرآن عن الدنيا من أنها (متاع الغرور)
فلماذا لا ننظر إلى الحياة على حقيقتها هذه ثم لا نتشاءم من كثرة ظواهر الشرور فيها، حتى لا يحملنا التشاؤم على اليأس وترك الكفاح، ثم نحاول أن نتلطف في الدخول على الطبيعة البشرية اللاهية اللاعبة فنقنعها بواجبات الجد والعمل في الأوقات القليلة التي لم يطلب الله في غيرها من الإنسان أن يؤدي عملاً؟
وكما تلطفت التربية في الدخول على طبيعة الأطفال، فعلمتهم مبادئ العلوم، ودربتهم على مبادئ الأخلاق عن طريق اللعب من غير شعور، ينبغي أن تفعل مثل ذلك مع الأطفال لكبار: الرجال والنساء. . . وتلك هي رسالة رجال الروح. . .
ولكن الدولة قد جنت على الحياة الروحية أكبر جناية حين أباحت الانتساب إلى الدين لمن لا تؤهله عقيلته، ولا ثقافته، ولا تكوينه الجسمي أن يكون قائداً من قواد الروح، وعنواناً جذاباً للدين. . . وإلى الآن لم يتيقظ كبار رجال الروح إلى ضرورة وضع حد لهذه الحالة مع أنهم يدرسون في علوم العقائد أن الله لم يرسل رسولاً إلا بعد الانتقاء والاصطفاء، وأنه لا بد أن يتحلى بالصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والخلو من العيوب المنفرة. . .
ولنا في رسول الله ﷺ أسوة فقد كان ذكياً قوياً جميلاً لطيف الروح دمث الأخلاق رحب النفس نظيف الجسم والثوب يمشط شعره ويعطر ثيابه ويخضب لحيته
ولقد عاش رسول الله بجسده عيشة رحبة كما عاش بروحه فسابق وصارع وركب وحارب ولبس الدروع واقتني السيوف والخيل وأكل من الطيبات وتمتع بالنساء، وأمر بالهرولة في السعي إظهاراً للقوة، واستعرض الجنود. . . ولذلك خضع لقوانين الأجسام ولم يشرد على المجتمع هائماً ولم يعش منطوياً على نفسه يأكل خواطره وتأكله خواطره
فكذابون أفاكون هم الذين يزعمون أن الله لا يريد أجسامنا، إنه ما خلق أرواحنا إلا فيها ولم نعرفه إلا من نوافذها وحواسها وهي أدوات علومنا وإحساسنا بالحياة، وهل نرى في الحياة غير الأجسام. . . إن حياة الروح الخالص لا تكون في الأرض إلا كلمعات البرق
لقد ضاع الحق من المسلمين لما أهملوا قوانين عالم الأجسام والتفتوا إلى عالم البدوات والأماني والأحلام والكلام. فضاعت القوة لما ضاع الحق فهما صنوان متلازمان: فالحق قوة، والقوة حق!
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف