الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 353/بابر

مجلة الرسالة/العدد 353/بابر

بتاريخ: 08 - 04 - 1940


للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

لقد أعقب موت تيمورلنك عصراً من الاضطراب السياسي في إيران وما وراء النهر. وقد استطاع ابنه شاه رخ أن يثبت سلطانه على معظم ملك أبيه، ويكبح الثائرين من أقاربه. فلما توفي سنة 850، عم النزاع، وأشتد الاضطراب، حتى نشأت الدولة الصفوية، فكان انتصار الشاه إسماعيل في موقعة شرور سنة 907 بعد قرن كامل من وفاة تيمور فاتحة حروب مظفرة مدّت سلطان إسماعيل إلى أفغانستان ونهر جيحون، فشمل هذه البلاد سلطان واحد.

ولقد كان لبني تيمور على ما كان بينهم من حروب، وعلى قصر زمان كثير منهم، أثر محمود في الفنون والآداب، وقد نبغ منهم جماعة من ذوي الآثار الواضحة في ذلك العصر مثل شاه رخ وألوغ بك، والسلطان أبي سعيد، والسلطان حسين مرزا.

- 2 -

ونتكلم الآن في سيرة عبقري من سلالة تيمور تقلبت به غير الدهر بين هزيمة وانتصار، ونجاح وخيبة، فكشفت عن خلال من الهمة والطموح والشجاعة والصبر، انتهت به إلى إقامة دولة من اعظم الدول التي عرفها تاريخ الإسلام، وبقيت سيرته في صفحات التاريخ عبرة لذوي الهمم، ومثلاً لأصحاب النفوس الكبيرة.

ذلكم محمد ظهير الدين بابر الذي يصل نسبه بتيمور أربعة آباء: بابر بن عمر بن أبي سعيد بن محمد بن مير انشاه بن ييمور.

ويمتاز هذا الرجل العظيم بأنه ترك للتاريخ سيرته مفصلة بينة مصورة صورة صادقة طبيعية بعيدة من التكلف والرياء في كتابه (بابر نامه) الذي سنذكره من بعد، ولست أعرف بين العظماء رجلاً كتب سيرته بيده في بيان مسهب ممتع طبيعي صريح كما فعل بابر.

- 3 -

كان أبوه عمر شيخ أميراً على فرغانة تولاها سنة 870 من قبل أبيه السلطان أبي سعيد؛ واستمر أميراً عليها بعد وفاة أبيه إلى أن توفي سنة 899. وهنا تستمع حديث بابر عن أبيه في (بابر نامه):

(كان حنفي المذهب، صحيح العقيدة، مواظباً على الصلوات في أوقاتها. قد قضي جميع ما فاته من الصلوات، وكان يديم تلاوة القرآن، وكان من مربدي الشيخ عبد الله - وهو المعروف بخواجه أحرار - يحرص على صحبته والتبرك به، ويدعوه الشيخ ابنه

(وكان يحب الأدب، قرأ منظومات: نظامي والمثنوى والشاهنامه، وكتباً في التاريخ؛ وكان قادراً على نظم الشعر، ولكنه لم يحفل به

(وكان عادلاً تبين حبه للعدل من هذه الواقعة: بغتت عاصفة شديدة من الثلج قافلة آتية من بلاد الخطا على سفوح الجبال شرقي أندجان. فلم ينج من ألف رجل إلا رجلان فلما بلغه الخبر بعث رجالاً أحرزوا أموال القافلة وأتوا بها فحفظها لأهلها مع احتياجه إلى المال. فلما عرف ورثتهم بعد سنة أو سنتين دعاهم وسلم إليهم أموالهم

(وكان سخياً حسن الخلق فصيح الكلام حلوه، شجاعاً باسلاً يحسن الضرب بالسيف، وكان وسطاً في الرمي بالسهام شديد اللكم لا يثبت للكمته مصارع) إلى أن يقول: (وكان يكثر من الخمر ولكنه اقتصد من بعد فكانت مجالس أنسه يوماً أو يومين في الأسبوع الخ. . .)

وقول: (كان عمر شيخ مرزا قصير القامة مستدير اللحية بدينا ممتلئ الوجه يلبس ثوباً ضيقاً جداً فإذا شد أربطته ضغط على بطنه وكثيراً ما تقطعت الأربطة بعد أن يشدها، وكان لا يتكلف في ملبسه ومأكله، يلف عمامته لفة واحدة، وكانت العمائم إذ ذاك أربع لفات وكان يلفها دون طيّ ويترك لها عذبة. ويلبس في أكثر أوقات الصيف خارج الديوان فلنسوة مغولية)

ويقول عن أمه إنها من بنات يونس خان وهو من ذرية جفتاي بن جنكيز. وبعد أن يتكلم عن نسب يونس خان وسيرته يذكر أولاده واحداً واحداً إلى أن يقول: (وكانت بنت يونس خان الثانية أي قتلق نكار، وقد رافقتني أكثر أيام كفاحي ومحني وتوفيت رحمها الله عام 911 بعد استيلائي على كابل بخمسة أشهر أو ستة)

ويذكر أولاد أبيه فيقول: (ترك ثلاثة بنين وخمس بنات، وكنت أنا ظهير الدين محمد بابر أكبر أبنائه وأمي تدعى قتلق نكار) - 4 -

مات عمر شيخ سنة 899هـ فورث ابنه بابر ملك فرغانة، وهي ولاية على نهر سيحون وكانت سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة

ومن الممتع أن نقرأ في بابر نامه الفصل الأول الذي يفتتحه بابر بقوله:

(في شهر رمضان من سنة 899 وفي الثانية عشرة من عمري صرت ملكاً على فرغانة وهي من الإقليم الخامس من طرف المعمورة تحدها كشغر من الشرق وسمرقند من الغرب وجبال تبرخشان من الجنوب، وكان في شمالها مدن عظيمة. (ثم يفيض في ذكر مدن فرغانة وأنهارها وحيوانها ونباتها)

لم يكن ملك فرغانة مسيراً لبابر، فقد مرت عليه أحداث عظيمة لم يستقر فيها ملكه إلى أن أخرج منه طريداً بعد عشر سنين من موت أبيه

طمع أعمامه في ملكه أول الأمر وحاولوا أن يغصبوه عرش فرغانة، فلم يبلغوا ما أملوا

يقول بابر: (لما توفي عمر شيخ مرزا فجأة كنت في جهارباغ في أندجان

(ويوم الثلاثاء 15 رمضان جاء الخبر مدينة أندجان فركبت جوادي على عجل وصرت إلى القلعة فيمن كانوا في خدمتي فلما بلغت باب مرزا أمسك (شيريم قفاي) بعنان الفرس، وصار إلى المصلى (نمازكاه) وكان قد خشي أن يأتي السلطان أحمد مرزا في جيوشه الكثيرة فيسلمني الأمراء إليه مع المملكة، وأراد أن يذهب بي إلى أزكند على سفح جبل آلاتاغ، فإذا سّلم الأمراء الولاية للسلطان أحمد نجوت أنا وذهبت إلى آلاجه خان أو السلطان محمود خان من إخواني)

كان هم بابر منذ ورث ملك فرغانة أن يستولي على سمرقند ليكون خليفة جده تيمور في دار ملكه. فما زال حتى فتح سمرقند سنة 903هـ (1497م) ثم ثار بعض الكبراء في فرغانة فأخر جوها من سلطانه، فخرج ليردها إلى حكمه فخذلته جيوشه ففقد سمرقند أيضاً ولكنه استطاع أن يسترد فرغانة وسمرقند بعد جهاد ومحن

ولم يستقر له الأمر طويلاً فقد أخرجه الأزبك من سمرقند، وفرغانة معاً سنة 906هـ فبقي بابر سنين ثلاثاً يطوف في البلاد ويحاول استرجاع ملكه؛ وهو يحدث أنه هزم مرة ففر في ثمانية من أنصاره وتعقبهم العدو وأعيت الخيل، فتخلف بعض رفاقه، وبقي معه اثنان، فلما أعيا فرسه نزل له أحد الرفيقين عن فرسه، فسار حتى أعيا الفرس الثاني، فقدم إليه الرفيق الأخير حصانه، وسار وحده ووراءه اثنان من الأعداء حتى جن الظلام، فترحل وأوى إلى صخرة ليعتصم بها ويرمي من يتعقبه بالنبال. وذلك مثل مما مر بهذا الرجل الشجاع الصبور

ولابد لمثل بابر أن يكون ملكاً، فلما عجز عن استرجاع فرغانة وسمرقند عزم على أن يختط بالسيف مملكة أخرى، فما كان له بد من أن يكون ملكاً طوعاً أو كرهاً، فها هو ذار يجتاز جبال هند كوش الثلجية ويفتح كابل ثم يمد سلطانه في أرجاء أفغانستان

بابر اليوم ملك مسلط على أقاليم من أفغانستان ولكن همته تحاول ملكاً أعظم، وعزمه لا يقر بالعجز عن استرجاع عرش آبائه فيما وراء النهر. وهاهو ذا السلطان إسماعيل الصفوي يطوي الأرض من أذربيجان إلى أفغانستان فيحالف بابر إسماعيل الصفوي على عدوه من الأزبك

سار بابر إلى سمرقند سنة 914 فأخذها ولكنه أخرج منها بعد حين وهزم هزيمة شنيعة أبلغته كابل بعد أن أشفى على الهلاك

يئس بابر من سمرقند بعد هذه الخطوب أو كاد ييأس منها فمنالها اليوم بعيد. فماذا يفعل؟ أيقنع بما ملك من أفغانستان ويرتقب الحوادث لعلها تتيح له فرصة، أم يقهر الحوادث على الخضوع لمشيئته ويوسع سلطانه في أرض الله الواسعة؟

كانت جيوش بابر تشرق إلى حدود الهند أحياناً فما الذي يمنعه أن يحاول ملكاً عظيماً في هذه الأرض العظيمة؟

غزا الملك الطموح أطراف الهند سنة 925هـ (1519م) واستولى على بعض الأقاليم ثم رجع إلى كابل فانتقضت عليه الأرض التي فتحها، ولكن هذه الغارة مدت عينيه إلى هذه الأرض الغنية الواسعة

- 5 -

كان السلطان في وهلي إذ ذاك إبراهيم اللوري الأفغاني الأصل استولت عليها أسرته سنة 855. وكان إبراهيم ولوعاً بأبهة الملك يريد أن يخضع رؤساء الأفغان لآداب وسنن لم يألفوها. كان يلزمهم أن يقفوا في حضرته صامتين مطرقين، فسخطوا عليه واجتمع بعضهم على أخيه جلال فحاول أن يقاسم إبراهيم الملك، وثار آخرون فقابل إبراهيم ثورتهم بالشدة والقسوة، وقتل بعض زعمائهم، وتعاقبت الثورات في أرجاء المملكة حتى وفد عمه علاء الدين إلى كابل يلتمس عوناً من بابر على ابن أخيه؛ وتلك هي الفرصة التي لا يضيعها بابر، والأمنية التي كان يتمناها والمغامرة التي يميل إليها وينشط لها، وكان محبَّاً للمخاطرة والمغامرة

أسرع إلى انتهاز الفرصة حتى بلغ لاهور فإذا جيوش وهلي قد انتصرت على (الثائرين دولت خان)، فقلب بابر انتصارهم هزيمة وتعقبهم في شوارع لاهور، ثم أسرع ففتح ديبل بور وترك علاء الدين اللوري فيها ورجع إلى كابل

وفي سنة 931 (1525م) رجع بجيوشه إلى الهند وقد أعد لها عدته فلقيه (الثائرين دولت خان) محارباً، وكان قد أوهمه انه سيؤيده، ولكن جنده تفرقوا حينما اقترب بابر. وتقدمت جيوش كابل للقاء جيوشه وهلي. وكان السلطان إبراهيم خرج للحرب في مائة ألف مقاتل ومائة فيل. وجعل بابر مدينة باتيبات إلى يمينه وجعل على يساره خنادق وحاجز من الأشجار، ووضع أمام جيشه عربات المدافع مشدوداً بعضها إلى بعض وجعل بينها فرجاً تتسع الواحدة منها لمرور مائة فارس ورتب جيوشه خلفها، ووقف إلى أقصى اليسار وأقصى اليمين سرايا من المغول للمفاجأة حين الحاجة

وفي ليلة الثامن من رجب سنة 932 (21 إبريل سنة 1526) فاجأ بابر جيش السلطان إبراهيم فلم يفلح غير أنه أخرج عدوه من معسكره، وعند الفجر تحركت جيوش إبراهيم فهجموا دون تلبث، وحسب بابر أنهم يقصدون في جناحه الأيمن فأمده، ولما جاءت الجيوش الهاجمة إلى الخنادق والحواجز وصف العربات المشدودة ترددوا وضغطتهم الجماعات إلى ورائهم، فاضطرب أمرهم، فانتهز بابر الفرصة وأرسل سرايا المغول من الفجوات التي بين العربات فداروا حول العدو وشرعوا يرمونه من الخلف، ووقف بابر كالصقر يرقب المعركة، فلما تقدمت جماعة من ميسرته على غير حذر فزلزلهم العدو سارع إلى إمدادهم، ولما اشتد ضغط العدو على ميمنته أسرع إلى إمدادهم أيضاً، وكان الأستاذ علي رئيس المدفعية في مقدمة الجيش ناشطاً موفقاً في عمله

وانجلت المعركة عن السلطان إبراهيم قتيلاً بين خمسة عشر ألفاً من جنده.

يقول بابر: (كانت الشمس قد ارتفعت حينما بدأ الهجوم واستمرت المعركة إلى الظهر فكانت هزيمة العدو، وتم انتصارنا ويسر الله العظيم لي هذه المصاعب ومحق هذا الجيش الكبير في نصف يوم)

وغنم في هذه الموقعة وبعدها من الذهب والجواهر والسلاح والخيل ما لا يحصى ففرقة بابر غير ضنين به ولم يحرص على ادخاره

وبادر بابر فأرسل سريتين فاحتلنا وهلي واكراز، وفي يوم الجمعة 14 رجب سنة 932 خطب لبابر في جامع وهلي فبدأ في الهند تاريخ الدولة الإسلامية العظيمة التي سيطرت على الهند كلها حيناً وبقي سلطانها في تلك البلاد إلى سنة (1275هـ - 1858م)

(البقية في العدد القادم)

عبد الوهاب عزام