الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 353/عقيدة النازي المالية

مجلة الرسالة/العدد 353/عقيدة النازي المالية

مجلة الرسالة - العدد 353
عقيدة النازي المالية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 04 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

قرأت في العدد السابق من الرسالة مقالاً عن عقيدة النازي المالية أو عن فلسفة النازيين في علم الاقتصاد للأستاذ جواد علي العراقي (خريج جامعة هامبرك بألمانيا) فرأيت عرضاً صحيحاً لتلك الفلسفة من جانب واحد وهو الجانب الذي يكتبه النازيون ليبقي حبراً على ورق أو لينشروا به الدعوة ويكسبوا به الأنصار

ولهذا وجب أن نلم بتلك الفلسفة من جانبها العملي الواقعي تصحيحاً للآراء فيها وبياناً للحقيقة عن مقاصد أتباعها وأعمال المبشرين بها. فإن الجانب المكتوب والجانب المعمول من فلسفة النازيين الاقتصادية يختلفان كثيراً فيما هو حادث الآن، بل يتناقضان كل التناقض في أكثر الأحيان

مثال ذلك يقول الأستاذ جواد في تلخيص بعض المبادئ النازية إنهم: (لإنقاذ الشعب والحكومة من عبودية الربا وجب تنظيم الأرباح على قاعدة الربح على قدر العمل، والقضاء على بيوتات البيع الكبرى والشركات الاحتكارية. وتقسيمها إلى محال صغيرة، فنحو مائة ألف إسكاف خير من وجود خمس شركات كبرى، لأن من طبيعة المحال الكبرى الميل إلى الأرباح دون الالتفات إلى التحسين. . . أما التجارة الخارجية للشعب فيجب أن تشرف عليها الدولة كذلك وتحدد أسعارها. وتقوم بذلك الدول فيما بينها بعقد معاهدات تجارية حسب رغبات الدول وحاجاتها لا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة أو المبادئ المالية الأخرى).

هذا ما يقولون عن الأرباح، وشركات الاحتكار. أما ما يعملون فهو تسليم شركات الاحتكار زمام التجارة والثروة في جميع مرافق البلاد. فإن مديري (الغرف الاقتصادية) المشرفين كذلك على فروع الصناعة والتجارة هم جميعاً من رجال الاحتكار المعدودين كالهر كارشر مدير المصانع في إقليم السار الذي اشتهر بالقسوة البالغة على العمال، وكالمصرفي البارون فون شرودر مدير غرفة أقاليم الرين، وكالهر بيتزش مندوب الشركات الكيمية ومدير الغرفة الاقتصادية في بافاريا. . . وقس على ذلك سائر المديرين

وقد اصدر النازيون قانوناً سموه قانون إصلاح السهوم أو حصص الشركات حرموا فيه بقاء الشركات التي يقل رأس مالها عن مائة ألف مارك بعد نهاية سنة 1940، ولم يوجبوا التصفية على الشركات التي يبلغ رأس مالها خمسمائة ألف مارك بل أوجبوا على كل شركة تؤلف بعد التاريخ المحدود ألا يقل رأس مالها عن ذلك المقدار

وكان النازيون يقولون قبل ولاية الحكم إنهم سيضعون أيدي الحكومة على المصارف، ويمنعون الاتجار بمناصب الإرادة فيها، فصنعوا نقيض ما دعوا إليه وباعوا المصارف مرة أخرى جميع الحصص التي كانت الحكومات السابقة قد اشترتها منها تدعيماً لرؤوس أموالها ومساعدة لها على مقاومة الصدمات التي استهدفت لها في أيام الكساد، وهذا ما حدث في مصرف الديتش ومصرف درسدنر ومصرف التجارة وغيرها من المصارف الكبيرة والصغيرة

وكان المستشار بروننج قد أعلن في مرسوم الطوارئ الذي صدر في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1931 ضرورة النقص من مكافآت رجال الإرادة والرقابة على الشركات والمصارف. فلم يزد النازيون في المادة الثامنة والسبعين من قانونهم على الوعد بأن تكون (المكافآت مناسبة للأعمال التي يؤديها المديرون والمراقبون) ثم اكتفوا بتحريم الاشتراك في أكثر من عشرة مكاتب للشركات والهيئات الاقتصادية من جهة المبدأ. . . ومعنى (من جهة المبدأ) هذه أن الاشتراك في أكثر من عشرة مكاتب جائز من جهة الواقع. مع أنها لو حرمت الاشتراك في أكثر من ذلك العدد تحريماً باتاً لما صنعت شيئاً فيما زعمته إصلاحاً تحتاج إليه تلك البلاد

وعلى خلاف ما أذاعوه عن مكافحة الاحتكار أصبح المحتكرون وهم مالكون لزمام التجارة الخارجية في كثير من القطار. فعقد الهر أوتوولف اتفاقاً مع حكومة منشوكيو باسم المحتكرين للحديد في ألمانيا الغربية يقرضون تلك الحكومة بموجبه مليوني جنيه، ويشترطون عليها فيه أن تقصر الشراء عليهم دون سائر الشركات، وكذلك انعقد الاتفاق بين مصانع كروب وبين اليابانيين على أمثال هذه الشروط

ويقول الأستاذ جواد: إن الهتلرية رأت (أن خير حل لمشكلة العمل والعمال هو الاعتراف بمبدأ الملكية الشخصية ورأس المال، ولكنها ترى أن صاحب المال أو المعمل من جهة أخرى هو مدير لماله أو لمعمله أو قائد يتصرف به وفق الأنظمة والقوانين والطرق الشرعية الشريفة. . . وكل من يحاول استغلال ماله عن طريق يخالف مبادئ النازية يكون نصيبه العقاب الصارم أو الإعدام. .)

وهذا أيضاً من الحبر على الورق الذي لا أثر له في عالم الواقع. فقد سمعنا عن ألوف العمال الذين قتلوا بمحاكمة أو بغير محاكمة، والذين أرسلوا إلى معسكرات الاعتقال أو حرموا العمل في أنحاء البلاد كافة لأنهم يطالبون بحقوقهم أصحاب المصانع والشركات، ولكننا لم نسمع بصاحب مصنع واحد قتل أو أرسل إلى معسكرات الاعتقال أو أغلق مصنعه لأنه ظلم العمال أو حرمهم حصتهم من الربح والأجر المعقول

وقد ظل التفاوت عظيماً بين أرباح المديرين وبين جملة الأجور التي يعطاها العمال. فإن الهر كوتجن ? مدير شركة يقبض وحده ثمانمائة ألف مارك في السنة أجراً لإدارته، عدا الأرباح والمكافآت التي يتقاضاها على الإدارات الأخرى. وفي مصرف التجارة السابق ذكره ستة مديرين يعطون تسعمائة وستة وخمسين ألف مارك في السنة، ولا يبالون تنقيص أجور العمال الصغار لزيادة الأرباح

واقترح بعضهم في الشركة الأولى، شركة أن توزع حصة من الأرباح على عمال الشركات من قبيل المكافأة لأن الأرباح العامة قد أربت في تلك السنة - 1937 - على عشرين مليون مارك. . فرفض النازيون الاقتراح

وقس على ما تقدم سائر المبادئ التي يدقون بها الطبول لإفهام العمال أنهم ينصفونهم ولا يحابون المحتكرين والمتجرين بالثقة في الأسواق

أما التجارة الخارجية فكل ما صدقوا فيه من قواعدها النازية أنهم خرجوا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة والمبادئ الاقتصادية الأخرى، وأداروها على النصب والغش الصريح

وهذه خلاصة السياسة الاقتصادية التي يعاملون بها الأمم الأجنبية:

يغزون تلك الأمم بمعاملتهم فيعرضون عليها أثماناً أغلى من الأثمان التي تبيع بها محصولاتها في الأسواق الأخرى

ثم يأخذون تلك المحصولات فيعرضونها في الأسواق بأثمان أرخص كثيراً من أثمانها التي اشتروها بها ثم يعطون البدل مقايضة لا نقداً ولا عملة تشبه النقد في السداد العاجل، فيعرضون مصنوعاتهم وأدواتهم بدلاً من المحصولات الزراعية التي هم في حاجة إليها

ثم يتحكمون في الأمم التي اشتروا منها تلك المحصولات الزراعية فلا يعرضون عليها إلا المصنوعات التي يستغنون عنها ولا حيلة لها في رفضها، لأنها لا تعرف وسيلة غير هذه الوسيلة للوصول إلى حقوقها

فماذا تكون النتيجة؟

تكون النتيجة أن الأمم التي تعاملهم تخسر (عملاءها) الأولين لأنهم يشترون محصولاتها من النازيين بأرخص من الأثمان التي يشترونها بها منها

وتكون النتيجة أن الأمم تضطر إلى قبول مصنوعات لا تحتاج إليها. ثم تقبلها شيئاً فشيئاً بأثمان أغلى من أثمانها بعد أن تصبح مضطرة إلى البيع للنازيين والشراء من النازيين دون سائر (العملاء) الآخرين

وقد يُسَّمى هذا الأسلوب اختراعاً أو فلسفة أو مهارة كما يشاء السماسرة النازيون المعجبون بأمثال هذه الأساليب

لكن الواقع أنه هو أسلوب التجار المجازفين اليائسين من قديم الزمان، وعندنا يقول العامة عمن يباشر هذه المراوغات في التجارة والمبادلة (إنه يلبس طاقية هذا لذاك)، وإنه يعطي بالشمال ويأخذ باليمين. ولو سلك تاجر مثل هذا المسلك في مدينة من المدن لضاع شرفه وضاعت سمعته بعد أشهر معدودات

نحن في الشرق نسمع كثيراً عن فلسفة النازيين في الاقتصاد، وفلسفة النازيين في التربية، وفلسفة النازيين في السياسة، وفلسفة النازيين في القوانين وغير القوانين.

ومن الواجب أن نسمع كثيراً عن جميع أولئك على شريطة أن نسمع كل شيء وان نحيط بكل جانب وأن نسمع الجعجعة ونحاول أن نرى الطحن الذي وراءها

وعندئذ نعرف الحقيقة ونعلم أنها جعجعة ولا طحن في كل شيء وفي كل مضمار

ونفهم أن (النازية) أكذوبة كبيرة حشوها الغش والخداع والأعراض الزائلة والتهويش الذي ينخدع به الأغرار ولا يجوز على أحد من المنصفين

عباس محمود العقاد