الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 353/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 353/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة - العدد 353
في الاجتماع اللغوي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 04 - 1940


نشأة اللغة الإنسانية

للدكتور علي عبد الواحد وافي

تمهيد في أنواع التعبير الإنساني

للتعبير الإنساني طرق كثيرة يرجع أهمها إلى قسمين رئيسيين

القسم الأول: التعبير الطبيعي عن الأنفعالات، ويشمل جميع الأمور الفطرية غير المقصودة التي تصحب مختلف الانفعالات السارة والأليمة: كالصراخ، والضحك، والبكاء وتفتح الأسارير وانقباضها، واتساع الحدقة، وإغماض العينين، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف شعر الرأس، وارتعاد الجسم. . . وما إلى ذلك من الظواهر الفطرية التي تبدو بشكل غير إرادي في حالات الفرح والحزن والألم والخوف والخجل والاشمئزاز. . . وما إليها، والتي تعبر عن قيام حالة وجدانية خاصة بالشخص الصادرة عنه

وتنقسم هذه التعبيرات من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها إلى نوعين:

1 - تعبيرات بصرية، أي تصل عن طريق البصر كالحمرة والصفرة والرعشة وانقباض الأسارير وانبساطها واتساع الحدقة وإغماض العين ووقوف شعر الرأس والعدْو. . . وما إلى ذلك من الظواهر الجسمية التي تصحب مختلف الانفعالات

2 - تعبيرات سمعية، أي تصل عن طريق حاسة المسع، كالضحك والبكاء والصراخ. وما إلى ذلك من الظواهر الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن والسرور. . . وهلم جراً، ويتألف هذا النوع من أصوات مبهمة (تشبه أصوات الحيوان وأصوات مظاهر الطبيعة) وأصوات لين (حروف مد) مختلطة أحياناً ببعض أصوات ذات مقاطع (حروف ساكنة)

(القسم الثاني): التعبير الإرادي عن المعاني، ويشمل جميع الوسائل المكتسبة التي يستخدمها الإنسان بشكل إرادي للتعبير عن المعاني والمدركات. فهذا القسم يختلف عن القسم السابق في منشئه وطرق استخدامه وما يعبر عنه. فهو كسبي في منشئه، إرادي في استخدامه، معبر عن معان ومدركات؛ على حين أن القسم الأول فطري النشأة، يصدر بشكل غير إرادي، ويعبر عن تلبس الشخص بحالة وجدانية انفعالية.

وتنقسم هذه الطائفة من التعبيرات، من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها، إلى نوعين مشابهين لنوعي الطائفة الأولى: أحدهما التعبيرات الإرادية البصرية، وثانيهما التعبيرات الإرادية السمعية:

1 - أما التعبيرات الإرادية البصرية، فهي التي تصل عن طريق حاسة النظر، وتشمل جميع الإشارات الحسية التي تستخدم بقصد الدلالة. وهي على ضربين:

(أحدهما) إشارات مساعدة ونائبة، أي تساعد لغة الكلام أو تنوب عنها في حالات خاصة أو لضرورة ما.

فمن هذه الطائفة الإشارات البحرية، وهي التي يستخدمها عن بعد بحارة سفينة مع بحارة سفينة أخرى، وهي إشارات دولية معروفة لجميع البحارة وتدرس في مدارس البحرية.

ومنها كذلك إشارات الصيد وهي التي يستخدمها الصيادون بعضهم مع بعض، حتى لا يسمع صوتهم الحيوان المطارد.

ومنها الحركات اليدوية والجسمية التي يستخدمها الصم البكم للتعبير عما يجول بخواطرهم.

ومنها الإشارات التي يلجأ إليها الفرد أحياناً للتعبير إذا كان المخاطب لا يفهم لغته؛ والتي جرت العادة في بعض الأمم الأولية أن يستخدمها أفراد العشائر المختلفة اللهجات بعضهم مع بعض. وقد عثر علماء الاجتماع والإتنوجرافيا على شواهد كثيرة من هذه الظاهرة عند كثير من عشائر السكان الأصليين لأمريكا واستراليا وعند بعض القبائل الإفريقية. فقد روي الأستاذ كوهل أنه إذا التقى أحد الهنود الحمر (السكان الأصليين لقسم من أمريكا الشمالية) بآخر من غير عشيرته، مختلف عنه في لغته، فإنهما يلجأن في تعبيرهما إلى لغة الإشارات التي تنزلها هذه العشائر منزلة لغة دولية. وقد مهر الهنود الحمر في هذه اللغة أيما مهارة. ففي إمكان المتخاطبين أن يظلا يوماً كاملاً يتحادثان عن طريق الإشارات باليد والأصابع والرجلين، وأن يقص كل منهما على الآخر كل ما يود قصه عليه

ومنها الإشارات التي تستخدم في بعض الشعوب في حالات الصيام الديني عن الكلام. وهذا النوع من الصيام متبع عند كثير من الأمم الأولية وبخاصة عند السكان الأصليين لأستراليا وأمريكا. فقد ذكر الأستاذان سبنسر وجيلين في كتابهما عن سكان استراليا الوسطى حالات كثيرة من هذا القبيل، منها أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحياناً سنة كالمة صائمة عن الكلام. ويظهر أن شيئاً من هذا كان متبعاً عند اليهود، بدليل قوله تعالى على لسان مريم: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيَّا، فأشارت إليه. . . الآية)

ومنها الحركات التي يستعين بها في أثناء حديثهم أهل اللغات الساذجة الناقصة لتكملة ما ينقص تعبيرهم وما يعوزه من دلالة. وقد لوحظ هذا في كثير من الأمم الأولية. فقد روي عن البوشيمان (عشائر أولية تسكن بعض مناطق في أفريقيا الجنوبية) أنهم إذا أرادوا المحادثة ليلاً أشعلوا النار ليتمكنوا من رؤية الإشارات اليدوية التي تصحب كلامهم فتكمل ناقصه وتحدد مدلولاته

ومنها الإشارات التي تصحب حديثنا نحن لتوكيد المعاني، أو لتمثيل الحقائق، أو لزيادة التوضيح؛ والتي تستخدمها وحدها للدلالة على الإيجاب والنفي والاستحسان وما إلى ذلك: كالإيماء بالرأس للتعبير عن القبول، وتحريك السبابة حركة مستعرضة للتعبير عن الرفض أو النفي، ومد الشفتين ووضع السبابة عليهما للأمر بالسكوت. . . وهلم جرا

(وثانيهما) إشارات أصيلة عامة، وهي التي يتكون منها لغة كاملة مستقلة تستخدم وحدها في جميع الشئون والظروف. . . . وقد استخدم هذا النوع من اللغات عند بعض الجماعات الإنسانية ولا يزال مستعملاً في بعض العشائر. فقد عثر في الأمم الأولية على جماعات كثيرة لا تكاد تستخدم في تعبيرها غير الإشارات اليدوية والجسمية. ومن هؤلاء بعض قبائل السكان الأصليين لأمريكا واستراليا وبعض عشائر أفريقيا. ويطلق على هذا الضرب من التعبير اسم (لغة الإشارات) أو (الإشارات التحليلية) وقد عني بدراسته عدد كبير من علماء الأتنوجرافيا والاجتماع من أشهرهم مولري وتيلور ورومان ولوبوك وسبنسر وجيلين وليفي برول وريبو والدكتور فيشر الألماني

وقد صور الدكتور (فيشر) هذا النوع من اللغات وقربه إلى الأذهان إذ يقول:

إذا التقيت بأحد الهنود الحمر وأردت أن أخاطبه بلغة الإشارات لأسأله هل رأى ست عربات يجرها ثيران ويصحبها ستة سائقين منهم ثلاثة مكسيكيون وثلاثة أمريكيون وواحد ممتط صهوة جواده، فإنني أشير إلى شخصه بيدي للدلالة على كلمة (أنت)، ثم أشير إلى عينيه للدلالة على فعل (الرؤية)، ثم أبسط أصابع يدي اليمنى وسبابة يدي اليسرى للدلالة على عدد (ستة)، ثم أكوّن صورة دائرة بإلصاق نهايتي السبابتين الإبهامين إحداهما بالأخرى وأمد يديّ إلى الأمام وأحركهما كما تتحرك عجلات العربة وهي تسير للدلالة على (العربة)، ثم أضع الكفين ممدودتين بجانب الجبهة ممثلاً قرن حيوان للدلالة على (الثور)، ثم أمد ثلاثة أصابع من يدي اليسرى وأضع يدي اليمنى تحت شفتي السفلى وأنحدر بها إلى صدري ممثلاً اللحية للدلالة على (ثلاثة مكسيكيين)، ثم أمد مرة ثانية ثلاثة أصابع وأمسح جبهتي بيدي من اليمين إلى الشمال ممثلاً وجهاً شاحباً للدلالة على (ثلاثة أمريكيين)، ثم أرفع إصبعاً واحداً وأضع بعد ذلك سبابة اليسرى بين سبابة اليمنى ووسطاها ممثلاً الراكب للدلالة على (رجل واحد راكب حصاناً)

وأضاف إلى ذلك أن الوقت الذي يقضيه أحد المتكلمين بهذه اللغة في أداء هذه الحركات لا يزيد كثيراً على الوقت الذي يستغرقه تعبيرنا باللغة الكلامية عن هذه المعاني

وذكر الأستاذ تيلور بصدد هذه اللغة أن لها قواعد إشارية لربط أجزاء العبارة بعضها ببعض وترتيب عناصرها؛ وأنها في مجموعها تكاد تكون متحدة عند جميع الشعوب التي تستخدمها، فهي من هذه الناحية أشبه شيء بلغة دولية، وأنه يمكن أحياناً للتعبير بها عن حقائق دقيقة كعظات وضرب أمثال وقص حكايات؛ وأنها في جملتها ومعظم تفاصيلها تشبه لغة الصم - البكم. فقد جمع مولري بين رجل أصم - أبكم وطائفة من الهنود الحمر المتكلمين بلغة الإشارات، فأخذ الأصم - الأبكم يقص عليهم بالإشارات قصة طويلة تتعلق بحادث سرقة، وعقب على هذه القصة بتعليقات من عنده، فلم يفتهم فهم أي حركة من حركاته، لاتحادها مع حركاتهم اللغوية

وذهب العلامة (ريمو) إلى أنها قابلة للإصلاح والتهذيب، وأنه لو طال استخدام الشعوب الإنسانية لها لسارت في سبيل الارتقاء، ولأصابها كثير من أسباب التنقيح تحت تأثير الرقي العقلي ومطالب الحياة الاجتماعية، واتساع حاجات الإنسان، وأعمال المخترعين والعلماء. . . وما إلى ذلك

غير أنها مهما ينلها من التهذيب فلن تخلو من مساوئها الذاتية، فهي تستأثر باليد، فتحول دون القيام بأي عمل آخر في أثناء التعبير. ويتوقف إدراكها على النظر، فلا يمكن التعبير بها عن بهد ولا في الظلام وهي قائمة على تقليد الأشياء المحسة، فلا تكاد تقوي على التعبير عن المعاني الكلية أو وصف المشاعر والوجدان هذا إلى أنها عارية عن الدقة في كثير من مظاهرها، وأنها تقتضي إسرافا كبيراً في الوقت والمجهود

2 - وأما التعبيرات الإرادية السمعية، فهي التي تصل عن طريق حاسة السمع، وهي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات

وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة (اللغة) إذا أطلقت وهو وحده الذي يهمنا في بحثنا. وإنما ذكرنا الأنواع الأخرى لاستيفاء مظاهر التعبير من جهة، ولأننا قد نحتاج إليها من جهة أخرى في بيان نشأة هذا النوع، أو في ضرب الأمثال، أو الموازنة، أو مناقشة النظريات وتوضيحها. . . وما إلى ذلك من الأمور التي ستعرض لها، بصدد نشأة اللغة، في المقالات التالية إن شاء الله.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون