مجلة الرسالة/العدد 344/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 344 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1940 |
أرقام تتحدث
طريقة تعداد الذرات
للدكتور محمد محمود عالي
من (أحمس) المصري إلى (بيران) الفرنسي - الجسيمات التي استخدمها (بيران) في تجاربه - كيف تتوزع هذه الجسيمات الدائمة الحركة - يختلف الجو الذي ابتدعه (بيران) عن الجو الذي نعيش فيه
لقد تنفس العالم الكبير (بيران) في القرن العشرين بعد الميلاد الهواء ذاته الذي تنفسه (أحمس) في القرن العشرين قبل الميلاد أو ما يقرب من ذلك العهد، ومع ذلك استطاع الأول بتجارب علمية دقيقة، وعمليات رياضية عالية، أن يعرف عدد ما في حجم معين من الهواء من ذرات؛ بينما وقفت معارف الثاني عند حد معرفة القواعد الحسابية الأربعة: الجمع والطرح والضرب والقسمة، ومعرفة الكسور والتقسيم التناسبي وحساب المتواليات، ولم يكن يجهل معادلات الدرجة الأولى.
والذين يراجعون معنا الآن أعمال (بيران) يدركون كيف اهتدى إلى إحصاء الذرات الدقيقة، دون أن يكون في حاجة إلى رؤيتها، وكيف خلص من هذا إلى معرفة قدر الإلكترون، أصغر ما في الكهرباء وأحد المكونات الهامة في الوجود، دون التجاء إلى استخدام عمليات كهربائية، وهو بتعيينه قدر الذرة وقدر الإلكترون أقام في نفس الوقت الدليل على وجودهما، فقطع بذلك مرحلة من أهم مراحل العلم، تتخلص في كلمات هامة ومحدودة: ذلك أن التجزؤ المادي وعدم الاتصال في أجزاء المادة حقيقة موجودة.
والذين يستعيدون منا أعمال (أحمس)، ويتلمسون ذلك في كتابه الذي ترجمه (إلْسِنلوهر) إلى الألمانية من الأصل المخطوط على أوراق البردي المحفوظة في المتحف البريطاني يعلمون أنه كان يعرف أن يقوم بحساب أبعاد فاكهة مستديرة أو تحديد مساحة قطعة من الأرض، وأنه كان يعرف قدر الخبز لحجم معين من الدقيق، بل يعرف قدر الطعام الذي يزدرده الإوز وتلتهمه العجو أما (أحمس) فقد صاغ الفكر في نسق يتسق وما كان يحتاج إليه معاصروه، فلمس ببراعة حاجات هذا العهد، وعرف كيف يعالج ما يعرض له من مسائل بتفكير إنساني منسق، وبمجهوده ومجهود من تقدموه ارتقى الإنسان وصار يثوارث المعرفة جيلاً عن جيل، واحتفظت الإنسانية بطابع من التقدم عهداً إثر عهد، ونمت المعارف فوصلت إلينا سلمية قوية - أما (بيران) فقد وجد ميراثاً علمياً سليماً كانت أعمال (أحمس)، والإغريق من بعده من أهم ما مهد لهذا الميراث العظيم، فلا يستضعف أحد ما ذكرنا من حساب (أحمس) لما تزدرده الإوز وتلتهمه العجول، وغير ذلك مما كان شغله الشاغل عندما نذكر مشاغل إنسان اليوم جلية فيما قام به (بيران) من تعداد للذرات ومعرفة لأقدارها، فعند ظني أن ما عرفه الأول يصل إلى النصف من كل ما ورثناه من علوم، وأننا لسنا إلا على أبواب مرحلة جديدة في تاريخ الفكر البشري
ولندع الآن حديثاً أرجو أن يكون قد بعث في النفس صورة من الماضي البعيد في شيء من التأمل لنعود لبيران فنذكر عمله الإنشائي ونرى معاً ماذا أفاد من المسائل الرئيسية الثلاث الخاصة بالغازات التي ذكرناها في المقال السابق: المسألة الأولى أن ثمة علاقة تربط الضغط والحجم والحرارة للغاز، بحيث أن حاصل ضرب اثنين من هذه المتغيرات يساوي المتغير الثالث مضروباً في عدد ثابت؛ والثانية أن في الحجم الواحد يوجد في الضغط الواحد والحرارة الواحدة العدد ذاته من الذرات الغازية مهما اختلف نوع الغاز؛ والثالثة هو تَغيّر الضغط في عامود غازي وفق متوالية هندسية
ولقد ذكرنا أنه قد أدت هذه المسائل الثلاث إلى استنباط علاقة أوردناها في مقالنا السابق علاقة نعرف منها النسبة الواقعة بين ضغطين في غاز في موضعين تفصلهما مسافة رأسية، إذا عرفنا الوزن الجزيئي للغاز والعجلة الأرضية وثابت الغازات والحرارة المطلقة، ولقد ذكرنا أن النسبة الواقعة بين ضغطين في الغاز في موضعين مختلفين هي النسبة بين عدد الجزيئات في هذين الموضعين، بحيث إذا عرفنا الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان معين أمكننا أن نعرف الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان يرتفع عنه مسافة معينة، وقد ذكرنا فرض (أفوجادرو) القائل بأن هذا العدد للجزيئات الموجود في الوزن الجزيئي - أي الموجود في الحجم الواحد لجميع الغازات هو عدد ثابت لا يتغير - يسميه العلماء عدد (أفوجادرو) ومن المناسب أن نورد هنا للقارئ فكرة عن هذا العدد الكبير، فهو يبلغ حوالي 68 2210 من الجزيئات، وهو العدد الموجود في 32 جراماً من الأوكسجين مثلاً أو 22. 4 لتراً منه، أو من غاز آخر، وهو العدد الذي حاول (بيران) بعمله الإنشائي أن يعرفه، فيعرف منه قدر الذرة وقدر الإلكترون.
وطبيعي أنه لا يجوز أن يخطر ببال هذا العالم أو غيره أو
يحاول بطريقة مباشرة أن يحصل على أحد هذه الجزيئات أو
إحدى هذه الذرات ليتمكن من قياس وزنها أو قطرها أو
كثافتها فهي متناهية في الصغر إن قورنت بكل ما نستطيع أن
نتناوله على حدة من الأجسام، ويكفي القارئ أن يعلم أنها من
الضآلة بحيث يمكن أن تندمج في جسمنا بالنسبة ذاتها التي
يندمج فيها هذا الجسم في الشمس، أو بالنسبة التي تندمج فيها
حشرة صغيرة في جسم الأرض، ولكن (بيران) عمد إلى
العثور على هذا النوع من التوزيع الغازي في وسط آخر غير
الغازات ذات الجزيئات أو الجسيمات الصغيرة، وسط يستطيع
أن يقيس ويزن فيه الجسيمات ويعرف خصائصها بوسائلنا
العادية ومقدرتنا المعهودة، فعمد إلى الحصول على كرات
صغيرة من أنواع مختلفة من الأصماغ يبلغ قطر الواحدة
منها في معظم تجاربه كسراً ضئيلاً من الميكرون (الميكرون
10001 من المليمتر) وقد ترك (بيران) هذه الكرات في عمود من السائل. ومما يلاحظ أن هذه الكرات الصغيرة، عندما
تدخل السائل، تقع في حرب شعواء بين الجاذبية الأرضية التي
تدفع بهذه الجسيمات نحو الأرض وبين الحركة البروانية التي
سبق أن أشرنا إليها في مقالاتنا، وهي الحركة الناتجة من
حركة جزيئات السائل ذاته والتي تدفع بها في كل جهة، بحيث
أنه بعد فترة معينة يحدث نوع من الاتزان بين كل هذه
العوامل، تتوزع بعدها هذه الجسيمات في السائل أي بين
جزيئات السائل توزيعاً خاصاً، بحيث تكون كثيفة العدد في
أسفله قليلة كلما ارتفعنا فيه
ومما يجدر بالملاحظة أن هذه الحالة من التوزيع لا تفترق عن
حالة توزيع الجزيئات الغازية في عمود غازي أو في الجو
مثلاً، وهو التوزيع الذي تحدثنا عنه سابقاً، فهذه الأجسام كلها
صُغرَتْ أو كُبرت واقعة تحت تأثير عاملين: العامل الأول
اجتذاب الأرض إياها والعامل الثاني حركة الجزيئات نفسها
أي الحركة البروانية، وليس ثمة فارق بين الحالتين حالة
الجزيئات الغازية وحالة الجسيمات الكولوبدية سوى أنه في
هذه الحالة الأخيرة يوجد تفاوت في درجة التوزيع بالنسبة للارتفاع يرجع إلى التفاوت الذي بين وزن هذه ووزن
الجزيئات الغازية، فمثلاً يكفي أن ترتفع في سائل يحوي كرات
من التي قطرها كسر من الميكرون (وهي الكرات التي
صاغها (بيران)) حوالي 201 من المليمتر حتى ينقص عدد
الجسيمات في الحجم الواحد إلى نصف عددها الأول حين يجب
أن ترتفع في عامود من الغاز مثل الأوكسجين حوالي خمسة
كيلومترات لينقص عدد الجزيئات في الحجم الواحد إلى هذه
النسبة، وهذا يحملنا على التفكير في أن وزن أحد هذه
الجسيمات التي استخدمها بيران يصح أن يكون حوالي مائة
مليون مرة قدر وزن الجزيء من الأوكسجين
والواقع أنه كان من الميسور أن يصل الباحثون إلى علاقة تربط نسبة عدد جسيمات ميكروسكوبية متروكة في سائل تتوزع فيه مع عدد (أفوجادرو) السابق الذكر، وهي علاقة يمكن استنتاجها من العلاقة أو المعادلة التي سبق أن نوَّهنا عنها في الغازات التي ذكرناها في مقالنا السابق، وهذه العلاقة الثانية التي نذكرها في هامش هذه الصفحة هي علاقة تجد في أحد طرفيها النسبة بين عدد الجسيمات الميكروسكوبية أي الكولويدية الحائرة في السائل في موضعين مختلفين، وتجد في الطرف الثاني عدة متغيرات وثوابت، أهم ما في هذه الثوابت عدد (أفوجادرو) الذي ذكرناه والذي هو محل بحثنا
ولعل القارئ يرى أن وزن هذه الحبيبات أو حجمها الذي في استطاعتنا الوصول إليه هو الوصلة للأوزان الذرية التي يعتبر الوصول إلى وزنها بالذات خارجاً عن طوقنا
ولا ريب في أنه يعوزنا كتاب كامل لنشرح للقارئ العقبات الكبرى التي ذللها (بيران) وتلاميذه للقيام بهذه التجارب التي
استخدموا فيها جسيمات قطرها 102 من الميكرون وجسيمات
أخرى يختلف قطرها عن هذه. وثمة صعوبات في صوغ هذه
الجسيمات بطرق مختلفة ومواد مختلفة، وتتفادى الاستقصاء
في وصف الوسائل المختلفة التي عمد إليها هذا العالم في
قياس هذه الجسيمات، وسائل تمت إلى التطبيق
الهيدروديناميكي طوراً وإلى الطرق الطبيعية تارة أخرى،
وهي الوسائل العديدة التي صدرت عنها أطروحات جامعية
عديدة طالعنا بعضها وناقشنا البعض الآخر
ترى هل وجد (بيران) بعد ذلك المجهود وبدراسة هذه الجسيمات الحائرة أبداً ذلك التوزيع اللوغاريتمي الموجود في الغازات؟ وهل استطاع أن يعثر من دراسة هذا التوزيع فيما اختاره من جسيمات على عدد (أفوجادرو) ذاته الذي كان يتوقعه والذي كانت تدل عليه عمليات أخرى تختلف في طريقها وجوهرها عن موضوع (جان بيران) الحالي؟ هذا ما ندل عليه القارئ في مقال قادم حيث يقف على ما استنبطه بيران من ملاحظة مستمرة لهذا الجو الجديد الذي ابتدعه وصنعه لنفسه، هذا الجو الجديد ذو الجزيئات الكبيرة يختلف جد الاختلاف عن الجو الذي نعيش فيه، ففيه تمثل أهرام الجيزة مثلاً مقداراً أقل من الواحد على ألف من المليمتر
وسيرى القارئ كيف أوصلنا عمل (بيران) المضني إلى شيء جدي في الوجود وكيف طلع علينا هذا العالم بأسطورة خالدة من قصص الكون وكيف اقتنع كغيره أن المادة وسط منفصل غير متصل وأنها مكونة من ذرات تحمل في طياتها إلكتروناتها الأبدية وكيف وثق أن للذرة قدراً وللإلكترون قدراً لا يتجزأ وأن هذه وحدات في الكون تُعد من خصائصه كما تعد الأصابع العشر من خصائص الإنسان.
(يتيع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة