مجلة الرسالة/العدد 344/القصص
→ رسالة العلم | مجلة الرسالة - العدد 344 القصص [[مؤلف:|]] |
من هنا ومن هناك ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1940 |
الاعتراف
للكاتب الفرنسي موريس ليفل
وقفت لحظة أمام الباب وأنا ساكن متردد في الدخول. ولم أخط العتبة إلا حين نبهتني المرأة التي جاءت بي بقولها: (هنا يا سيدي تفضل!)
لم أر شيئاً عند دخولي سوى المصباح الخافت الموضوع في ركن الغرفة. ثم أخذت أتبين إلى جانب الحائط فراشاً تمدد عليه جسم طويل هزيل حاد التقاطيع. وكانت رائحة النفط تملأ فضاء الغرفة، والصمت شامل كصمت القبور.
ومالت المرأة على الفراش صائحة: (هاهو ذا السيد الذي أرسلتني في طلبه. . .)
فنهض الشيخ المدد على الفراش نصف نهوض وتمتم في صوت خافت:
- حسن. . . حسن. . . اتركينا معاً. . .
فلما أغلقت المرأة الباب وراءها، قال الرجل:
- أدن مني يا سيدي. . . أجلس هنا على الكرسي الموضوع بجانب الفراش. . . إنني أكاد أكون أعمى أصم. معذرة من إقلاقي إياك، فلديّ شيء خطير أريد أن أفضي إليك به
كان وجه ذلك الرجل بارز العظام شديد الشحوب. وقد ظل برهة يحدّق فيّ بعينيه الواسعتين. ثم واصل حديثه بصوت متهدج:
- ولكن قبل كل شيء، هل أنت السيد جرينو النائب العمومي؟
- نعم
فتنفس الصعداء ثم قال:
(إذن يمكنني الآن أن أدلي باعترافي. لقد أمضيت خطابي لك باسم برييه، وليس هذا اسمي الحقيقي. ومن الجائر أنك كنت تتذكر معرفتي لولا ما غير الموت من معالم وجهي. . . ولكن دعنا من هذا. . .
منذ سنوات كثيرة، كنت وكيل نيابة. كنت واحداً من الرجال الذين يقول الناس عنهم: إن أمامه مستقبل باهر. وكنت عاقداً العزم على تحقيق هذا الرجاء. ما كان ينقصني سوى الفرصة لإظهار مقدرتي؛ وقد هيأت لي تلك الفرصة قضية في محكمة الجنايات. حدثت تلك الجناية في إحدى ضواحي باريس، وقد أثارت في حينها اهتماماً شديداً بين الناس وخاصة في البيئات القانونية. كانت الشبهات قوية في المتهم، ولكن ينقصها الإثبات القاطع. ولقد دافع المتهم عن نفسه دفاعاً قوياً حتى أحسست وأنا في كرسي النيابة بشعور الشك بل بالعطف يستولي على المحكمة. وأنت تعلم ما لهذا الشعور من تأثير!
ولكني كذبت بالبراهين المنطقة القاطعة كل ما أنكره المتهم، وأزحت الستار أمام القضاء عن سلسلة من الحقائق لا مجال للشك فيها. ولأستطيع أن أقوي أدلة اتهامي، كشفت عن نفسية الرجل وعن ماضي حياته مظهراً كل ما في خلقه من ضعف وما في أعماله من دناءة. وختمت مرافعتي القوية بطلب القصاص من المجرم! وقام الدفاع بعد ذلك بكل ما في مكنته لتفنيد أدلتي، ولكنه حاول عبثاً. . . وحكم على الرجل بالإعدام
لم يكن للعطف على السجين حينذاك مجال للوصول إلى نفسي. فلقد كنت مندفعاً في إثبات مقدرتي وفصاحتي، وكان الحكم عليه انتصاراً باهراً لي
ورأيت الرجل ثانية في صباح يوم التنفيذ. ذهبت لأراه وهم يسوقونه إلى المقصلة. فلما رأيت وجهه الغامض اعتراني فجأة شيء من الاضطراب والضيق. . . إن تفصيلات تلك الساعة المشؤومة لا تزال ماثلة في مخيلتي!. . . لم يبد أي مقاومة وهم يوثقون يديه وقدميه. لم أجسر في تلك اللحظة على النظر إليه، لأني شعرت بأن عينيه مصوبتان نحوي في هدوء غير معهود. ولقد صاح حين خروجه من باب السجن ومواجهته المقصلة: إني بريء! وخيّم السكون على الحاضرين كأن على رؤوسهم الطير. ووجه الرجل الكلام إليّ قائلاً: أنظر إليّ وأنا أموت، فإن ذلك يستحق بضع دقائق من وقتك. ثم عانق القسيس ومحاميه. . . وكانت برهة من أفظع ما مر في حياتي
في خلال الأيام التي مرت على ذلك الحادث، كنت مبلبل الخاطر مضطرب الفكر. كان موت ذلك الرجل هو الشيء الوحيد الذي يستولي على ذهني فلا يدع مكاناً لسواه. وقد كان زملائي يطمئنونني بقولهم: إن ذلك يحدث دائماً في أول مرة
وكنت أصدقهم. إلا أني أدركت على تراخي الزمن أن هناك سبباً لهذا الاضطراب وهو: الشك! ومنذ اللحظة التي فطنت فيها إلى ذلك لم يهدأ لي بال. كنت لا ألبث أن أسائل نفسي: ترى هل كان الرجل بريئاً؟ جاهدت بكل ما في استطاعتي أن أبعد عن خاطري تلك الفكرة، محاولاً أن أقنع نفسي أنه مجرم؛ ومحال ألا يكون كذلك، ولكني كنت أعود فأسائل نفسي: أي دليل حقيقي على إجرامه؟ وتتمثل في مخيلتي لحظات الرجل الأخيرة وهو واقف على المقصلة في هدوء، ويطن في أذني صوته وهو يقول: إني بريء!
قال لي يوماً أحد الزملاء:
ما كان أبدع دفاع هذا الدفاع عن نفسه! لقد كان من المدهش أنه لم يُبرّأ. . . أقسم لك أني لو لم أسمع مرافعتك لاعتقدت أنه بريء!
إذن كان سحر كلامي وقوة رغبتي في النجاح، هما اللذين تغلبا على تردد النظارة، وربما كان لهما أكبر الأثر في تكوين رأي المحكمين. أنا وحدي كنت السبب في قتل هذا الرجل. فإذا كان بريئاً، فأنا وحدي المجرم المسئول عن موت هذا البريء. . .
إن الإنسان لا يتهم نفسه بشيء دون أن يحاول الدفاع عنها وقبل أن يقوم بكل ما يمكن ليريح ضميره. ولقد كان هذا شأني بالنسبة لهذه القضية: فلكي أنجو بنفسي من هذا الشك المؤلم، راجعت أوراق القضية من جديد. . . ولما أعدت قراءة مذكراتي ومستنداتي، وجدت كل ما بها منطقياً معقولاً. . . إلا أنها مذكراتي أنا ومستنداتي أنا، وهي عمل عقلي الذي حكم على المجرم أولاً، ثم راح يبحث عن الأدلة، عمل إرادتي، وقد استعبدتها الرغبة في إثبات الجريمة على المتهم. . . فدرست وجهة نظر الدفاع من جميع وجوهها. . . أعدت قراءة إجابات المتهم وشهادات النفي الخ. . . وقررت أن أتأكد من بضع نقط فيها شيء من الغموض، ففحصت المكان الذي وقعت فيه الجريمة بدقة، وسألت شهوداً كان قد أُهمل استجوابهم. فلما فرغت من دراسة هذه التفاصيل انتهيت إلى نتيجة حاسمة: وهي أن الرجل كان بريئاً!
وكأن الظروف أرادت أن تشغل ضميري، فصدر الأمر وقتئذ بترقيتي!. . . ترقية هي في الواقع ثمرة لجريمتي الشنيعة.
كانت الشهامة تقضي بأن أعترف بخطئي على الملأ حتى يكون في ذلك عبرة وعظة لغيري. إلا أني كنت أجبن من أن أفعل ذلك. كنت أخشى غضب الناس واحتقار الزملاء، فاكتفيت بتقديم استقالتي دون أن أبين بها الأسباب، ثم سافرت بعيداً عن باريس. ولكن وا أسفاه!. . . إن البعد لا يجلب النسيان
ولقد صار كل همي في الحياة بعدئذ أن أكفر عن خطيئتي التي لا تقبل إصلاحاً. كان الرجل شريداً لا أهل له ولا أصدقاء يمكنني أن أعوضهم عن فقده بالمال. فقررت أن أخصص كل ما أملك من ثروة لمساعدة البؤساء والمنكوبين من أمثاله، عازفاً عن مسرات الحياة. وهكذا عشت وحيداً منسياً حتى هرمت قبل الأوان
ولقد أنقصت نفقاتي الخاصة إلى أدنى حد ممكن. . . ففي هذا الجحر عشت شهوراً وفيه أدركني المرض الذي أموت به الآن. . . والآن يا سيدي قد وصلنا إلى ما أريده منك. . .)
وازداد خفوت صوته حتى صرت مضطراً أن أراقب شفتيه المختلجتين لأستعين برؤية حركتهما على تفهم كلماته
(لا أريد أن تموت هذه القصة بموتي. أريد منك أن تعلنها على الناس درساً لأولئك الذين من واجبهم أن يقتصوا من الناس ولكن بالحق، لا أن يجلبوا العقاب للناس على أي حال. أريد أن تكون هذه القصة ماثلة أمام عيون رجال النيابة العمومية وهم يؤدون واجبهم في طلب رأس المجرم)
فأكدت له أني سأفعل ما يطلبه
وازدادت رعشة الرجل وهو يواصل حديثه قائلاً:
(ولكن ذلك ليس كل شيء. . . لا يزال لديّ بعض المال. . . لم يتسع الوقت لتوزيعه. . . إنه هناك في درج هذه الخزانة. أريد منك أن توزّعه بعد موتي. . . لا باسمي، بل باسم ذلك الرجل الذي كنت سبباً في إعدامه منذ ثلاثين عاماً. . . وزّعه على الفقراء باسم راناي)
فحملقت مردداً:
- راناي؟!. . . لقد كنت أنا المحامي عنه فهز رأسه متمتماً:
- أعرف ذلك. وهذا هو السبب في طلبي إياك. لقد كنت مديناً لك أنت بهذا الاعتراف. أنا ديرو، وكيل النيابة
ثم غمغم ببضع كلمات أخرى لم أتبين منها سوى كلمة راناي
هل خنت سر المهنة؟ هل خرقت القواعد التي تحتمها صناعتي؟ إن المنظر المؤلم لهذا الشخص الذي يموت على تلك الحالة التعسة، قد استدرج الحقيقة إلى لساني رغماً عني، فصحت قائلاً:
- مسيو ديرو! مسيو ديرو! لقد كان راناي مجرماً!. . . لقد اعترف لي وهو في طريقه إلى المقصلة. أخبرني بالحقيقة حين كان يودّعني. . .
ولكن مسيو ديرو كان قد سقط على الوسادة ميتاً
ومازلت حتى الآن، كلما مرّت هذه الحادثة بفكري أحاول إقناع نفسي بأنه سمعني
صلاح الدين كامل