الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 344/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 344/رسالة الفن

بتاريخ: 05 - 02 - 1940


من أسرار الفن

بطلة شارلي

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- تحدثت الصحف كثيراً عن الفلم الذي يخرجه شارلي شابلن الآن، وعينت موضوعه، وقالت إنه سيتناول حياة الديكتاتور هتلر، وزادت بعضها فسردت ملخصاً للفلم. وقد أهتم العالم كله بأنباء هذا الفلم لأنه سيكون الحرب التي يشنها الفن على القوة. . . ولكن هذا الاهتمام الكبير لم يتجه منه ولا جانب تافه إلى بطلة هذا الفيلم. . . ألست ترى شارلي مقصراً في الدعاية لبطلته، وأن الذي يدفعه إلى هذا التقصير أنانية في نفسه.

- يجب عليك أن تعلمي قبل كل شيء أن شارلي ليس هو المسئول عن هذا، فهو فيما أعتقد أبعد الناس عن الدعاية لأنه أقرب الناس من الفن الصادق. ثم يجب عليك أن تعلمي بعد ذلك أن حياة هتلر خالية من المرأة فيما يرى الناس. فإذا علمت هذا وذاك فإني أظنك ستعودين وتعتذرين لشارلي عن اتهامك إياه بالأنانية لأنه لم يقم الدنيا ويقعدها من أجل ممثلة تافهة سيمنحها المجد حين يبيح لها أن تقف إلى جانبه. . .

- يا سلام! أوليست هذه الممثلة التافهة هي التي سيبلغ بها نصف النجاح الذي ينشده؟ إنه رجل غدار لا وفاء له. وأكثر من هذا أنه يقصر حتى في أيسر المجالات

- بل إن شارلي متسامح. ويكفيه تسامحاً أنه لا يزال بسمح للنساء أن يظهرن على يديه، وأن يرقين إلى المجد على كتفيه، مع أنه بلغ بالمرأة كل الآلام التي تغمره. . . إنه رجل غفار، لا حقد عنده وأكثر من هذا أنه يجامل حتى في المعارك التي يخوضها في حياته. . .

- أية معارك هذه التي يخوضها شارلي في حياته؟

- كل أعماله معارك، وكل رواياته مواقع. وهو ينتصر فيها جميعاً، ويأبى دائماً إلا أن تكون إلى جانبه في كل نصر واحدة من بنات حواء، ينتشلها من غياهب الخمول انتشالاً وسموا بها إلى آفاق الذكر سمواً، ثم يرى نفسه مضطراً بعد ذلك إلى أن يتركها وأن يدعو غيرها. . . فله في كل رواية بطلة. . .

- إن هذا هو ما أعيبه فيه. فقد كان يجب عليه أن تكون له بطلة واحدة يفهمها تمام الفهم، ويحملها بمقدرته على أن تفهمه تمام الفهم، ثم لا يتركها ولا تتركه، فإذا كان قد عجز عن هذا لسبب من الأسباب فلم يكن عليه أقل من أن يعنى باختيار بطلة من المشهود لهن بالنبوغ تقف أمامه في أفلامه. . . فهكذا يفعل كل الممثلين الكبار في كل زمان ومكان. . . فلماذا لا يفعله هو إذا لم يكن الحقد يأكل قلبه، أو إذا لم يكن يخاف أن تكتسحه ممثلة قادرة؟

- وهل تعتقدين أنت أن الله خلق ممثلة تستطيع أن تكتسح شارلي؟ أنا لا أظن ذلك

- إذن فلماذا لا يقف أمام ممثلة نابغة؟ أهو أعظم من جورج آرليس، ووالاس بيري، وبول موني، وهاري بور، وشارلس لاوتون. . .

- ما أبعد الفرق بين هؤلاء وبين شارلي. . . هؤلاء كل منهم يمثل ذاتاً حدثت في زمن ما وفي مكان ما، أما هو فيمثل النكرة الذي يعرفه كل زمان وكل مكان

- وهل كان هتلر نكرة حتى يمثله؟

- إنه على الرغم مما فيه من شر فهتلر معرفة، ولكنه أصاب ذيوع تلك النكرة

- واعتماداً على شهرة هتلر واهتمام العالم بما يثيره فيه فإن شارلي يهمل بطلته. . .

- من قال هذا؟ إنه يهدي إلى العالم في كل فلم بطلة. . .

- إن هذا الجود وهذا الكرم مرجعهما عجزه عن أن يحتفظ لنفسه بواحدة

- بل هو عجزهن جميعاً عن البقاء إلى جانبه

- معذورات! فهو عجوز شاخ

- وما هذا عند التي تريد شارلي! شارلي الذي تحبه الدنيا ولم تشبع منه ولن تشبع. ألا تقبل امرأة واحدة من عرفهن أن تحتفظ به؟ حقاً إن للمرأة ذوقاً لا أدرك كنهه

- لعل شارلي الذي تحبه الدنيا غير شارلي الذي تجده المرأة في البيت. . .

- من غير شك، وإن شارلي الذي تجده المرأة في البيت لهو أروع بكثير من شارلي الذي يعرفه العالم. فهو فنان، وحياته خارج الأستوديو إنما هي تحضير لحياته داخل الأستوديو، فلو أن شارلي وجد التي تحب هذا التحضير كما تحب الوقوف إلى جانبه أمام الكاميرا لوهب لها حياته، ولوهب لها ماله ولوهب لها فنه، ولوهب لها نفسه مختاراً ومجبراً. . .

ولكن شارلي لم يجد هذه الفنانة بين اللواتي عملن معه، وبين اللواتي تزوج منهن، فهو معذور إذا تولى بالتبديل والتغيير بطلاته، وإذا فر من زوجاته. فبطلاته يتعشقنه في عمله يردن منه أن يربحن الثروة والمجد، وزوجاته يتعشقن اسمه وجاهه وغناه ويردن منه بعد ذلك أن يكون خارج عمله لهن هن لا لهذه الدنيا التي يستخلص منها مادة فنه

- أليس هذا حق المرأة على زوجها. . .؟

- قد يكون من حق المرأة على زوجها أن تستخلصه لنفسها إذا لم يكن زوجها فناناً صاحب رسالة. أما إذا كان زوجها مشغولاً حتى عن نفسه بما في الكون من آيات وبدائع، وإذا يعيش في هذه الدنيا مباحاً لكل من يريد أن يتذوقه وأن يأخذ منه، فلماذا لا تنكب عليه هي تستوعب كل ما يمكنها أن تستوعبه منه. . . ولماذا لا تجد في فنه المتعة. . . لماذا؟ إلا أن تكون نفسها عاجزة عن تذوق الفن والاستمتاع به. . .

- وهل تريد من زوجة الفنان أو من تلميذته أن تقضي معه الحياة متنقلة من ملحوظة إلى ملحوظة، ومن عبرة إلى عبرة، ومن أغنية إلى أغنية، ومن قصيدة إلى قصيدة. . . ولا يكون لها منه ذلك؟

- وماذا تريد منه غير ذلك؟

- تريده هو؟

- وأي شيء فيه هو غير ذلك؟

- فيه أنه رجل، وأنها امرأة

- وإنه رجل وإنها امرأة. . . أوأنكر أحد ذلك؟

- إنه هو الذي ينكره. . . فهو فيما أظن لا يكاد يقيم علاقته مع صاحبته حتى يحسب أنه قد تم له ما يريد من الاستيلاء عليها، ثم يعمد بعد ذلك إلى ما يرضيه هو لا ما يرضيها هي. . . فهو يكثر معها من الحديث عما يراه في الدنيا وفي الكون وفي الملكوت. . . يحدثها عن النجوم والشموس والصراصير والنمل، وقد لا يخطر على باله طول السنين أن يذكر جمالها بكلمة، أو أن يمدح ثوباً من ثيابها أو أن يطري بعض زينتها ناسياً في هذا أن المرأة مخلوق لا يطيق الحياة وحده، وأنها تفزع كل الفرع ما لم تحس التهافت عليها. . . إنها يا أخي قد خلقها الله لغيرها. . . خلقها للرجل وهي لا تقوم بذاتها - آمنت بالله، وبهذا لحق الذي تذكرين وما أقل ما تذكرين من الحق. . . ولكن ألا ترين يا سيدتي ويا تاج رأسي أن الرجل إذا تزوج من امرأة كان هذا منه كافياً يشهد بأنه معجب بها وبذوقها وبجمالها وبملابسها وبزينتها. . . ثم ألا ترين أنه إذا اختار تلميذة له فوجه إليها اهتمامه وجهوده كان هذا منه كافياً أيضاً يشهد بأنه راض عنها وعن كيانها بما فيه عقلها وجسمها وعلى الخصوص إذا كانت هذه التلميذة ممثلة ممن يلقن أن يكن بطلات في أفلام شارلي. . . إني أعتقد أن هذه الشهادة تكفي، وأنه لا داعي بعد ذلك يدعو شارلي أو غيره من الرجال إذا استيقظ من النوم في الصباح أن يقول لامرأته: ما أبهاك وما أروعك؛ وإذا عاد إليها في المساء أن يقول لها: ما أحلاك وما أجملك؛ وإذا صحبها في عمل أو في لهو أن يقول لها: ما أذكاك وما أبدعك. . . ألا ترين أن هذا لا يمكن أن يكون إلا خداعاً لا طعم له. . . إنني أرى في الصمت والهدوء علامة من علامات الرضى، وأحسب أن شارلي كذلك، فهو ما دام صامتاً وهادئاً مع زوجه أو تلميذته كان معنى هذا أنه راض عنها، وأظن أنه إذا رأى فيها عوجاً لفتها إليه. . . وهكذا يجب أن تكون حياة الناس. . . أساسها التسليم والرضا الصامتان لا تبادل الإطراء والمخادعة. . .

- إنك تقول هذا لأنك خائب مثلما أن شارلي خائب فأنا منذ رماني الدهر في طريقك لم أسمع منك كلمة واحدة ترضيني ولم أجد عندك إلا الكلام الذي يسمم البدن ويكسر النفس. . . تذكر شارلي، وتذكر مواقعه الغرامية في أفلامه، وقل لي بالله عليك هل رأيته يوماً عاشقاً لبقاً. . .

- إذا كانت اللباقة هي صناعة الغرام، فشارلي عاشق غير لبق. أما إذا كانت اللباقة هي الغرام الصادق، فاذكريه يا جاحدة في (أنوار المدينة) كيف عشق العمياء وكيف أخلص لها وكيف كان يضحك الناس من غرامه هذا والدموع يسيلها من مآقيهم تأثراً له وتفجعاً، ثم اذكريه في (العصر الحديث) كيف أحب المشردة الصغيرة، وكيف كان يحنو على اخوتها ويطعمها وإياهم طعامه هو. وإذا استطعت فاذكريه في (البحث عن الذهب) كيف زين مسكنه لحبيبته، وكيف جلس ينتظرها والطعام أمامه لا يذوقه ولا يمسه، وكيف تخلفت عنه وهو مازال ينتظرها إلى أن غفا، فكان الحب أحلامه، وكانت هي عروسها. فلما أفاق وأدرك أنها تخلفت، جن حزناً وطاشت أحلامه، ولكنها ظلت عروس أحلامه الطائشة. . .

إن شارلي من غير شك هو أروع وأخلد عشاق السينما، يقدره حق قدره الذين أحرق الحب قلوبهم وأفنى أفئدتهم، ولكنكن يعجبكن أدولف مانجو المتأنق السمج وكلارك جيبل المتحلي المباهي بقوته. . . أنتن لا يرضيكن إلا المنازلون. . . أما العشاق، فلهن منكن الزراية والسخرية. . . إن شارلي صادق كل الصدق يا هذه، وإن حياته الفنية لهي صورة حقة من حياته الطبيعية. . .

- وهذا هو ما أريد أن أقول. . . فكما أنه في حياته الفنية لا وفاء فيه لممثلة زميلة فإنه في حياته الطبيعية لا وفاء فيه لامرأة

- قلت لك إنه لا يخلص في زمالة امرأة لأنه لم يجد المرأة التي تخلص في زمالته، وهو لا يزال يرتجل بطلات لأفلامه لأنه لا يزال يبحث عن سكنه بين النساء، ولعلك تذكرين أنه جن يوماً فأخرج فلم (الغلام) من غير بطلة امرأة وزامل فيه جاكي كوجان، وقد كان ذلك لأنه جن يوماً فطاش في الحياة لا يقف عند امرأة ولا يرتاح إلى أنثى. ولعلك ترين أنه قد عدل أخيراً عن الممثلات الناضجات الأنوثة ذوات التجارب في الرجال إلى ممثلات أخريات صغيرات لم يعرفن الرجال لا الممثلين منهم ولا غير الممثلين، وقد حدث ذلك لأنه في حياته عدل عن تقصي الحب بين النساء ذوات التجارب إلى تقصيه بين الفتيات الساذجات

- وإلى أين سينتهي شارلي في بحثه هذا يا ترى؟

- أغلب الظن أنه إذا لم يسعفه القدر سريعاً بما يصبو إليه من الحب، فإنه ربما عدل عنه، وعندئذ سنرى شارلي في أفلام لا نساء فيها. . .

- وهل يمكن أن يظهر فلم من غير نساء؟ إنه لن يكون غير خرافة، فالدنيا ليست الدنيا مما لم تزينها المرأة. . .

- هذا هو كلامكن، وكلام الذين يضحكون على عقولكن. وإلا فقولي لي من هي المرأة التي كانت في حياة كافور الإخشيدي

- أولم تجد غير هذا الأغا مثلاً. . .

- وهل أبرع وأبرز من مثل هذا العبد يشتريه سادته بالمال فإذا هو الملك الحاكم؟

- إن شارلي نفسه مقتنع بأنه لابد لفلمه من بطلة، وأنا أؤكد لك أن بوليت جودار التي أظهرها في فلمه الأخير (العصر الحديث) سوف تظهر إلى جانبه في الديكتاتور

- ومن أين جاءك هذا؟

- روته صحف أمريكا. بعد أن قيل إن بوليت غادرته. . .

- إذن فلن يكون شارلي أنانياً كما قلت في البدء

- إنه أناني وأناني وأنا لازلت أشك في إخلاصه لتلميذته الصغيرة

- أما هو فثقي أنه مخلص كل الإخلاص، وهو لا ريب يرجو السماء والأرض أن تحفظ عليه بوليت، ولكن الشيء الذي أخشاه، والذي قد يخشاه هو أيضاً هو أن تكون بوليت هذه على الرغم مما يبدو عليها من ملامح الطهر والبراءة. . . امرأة صغيرة قد تنكرت بالطهر والبراءة وركبت بهما ظهر شارلي حتى استطاعت أن تظهر معه في فلمين متتابعين، وهذا من غير شك يعتبر حادثة في تاريخ ذلك الفنان العظيم. . . وبعدئذ. . . من يدري إذا ذاع اسم بوليت، واعتبرها الناس نجمة مستقلة لا تحتاج إلى شارلي ولا إلى اسمه في تجارة الفن، وآمن بهذا المخرجون وأصحاب رؤوس الأموال. . . أتظل على وفائها له فتبقى معه. . . أم تفر منه كما فرت الأخريات. . . من يردي. . . إنها على أي حال تجربة شارلي الأخيرة فيما أعتقد. . .

عزيز أحمد فهمي