مجلة الرسالة/العدد 344/الأدب في سير أعلامه
→ وحي الذكرى والحنين | مجلة الرسالة - العدد 344 الأدب في سير أعلامه [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1940 |
بيرون
ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
وانصرف بيرون في كمبردج عن دروسه كما كان يفعل في هارو وراح يقرأ ما تحب نفسه من الكتب، وأخذ يتسلى بنظم الشعر في شتى المناسبات؛ ولقد اصطفى فريقاً من الصحاب في الجامعة كما فعل في المدرسة، وظل في الجامعة حريصاً على أن تكون له الزعامة على من هم دونه في السن. وأحب في الجامعة شيئاً واحداً وذلك هو حياتها الحرة الخالية من قيود المدرسة، وعاش في سعة بما أتيح له من المال، وبسط يده لإخوانه كل البسط، وكان من الأمور الشائعة يومئذ لعب الورق وشرب الخمر، حتى لقد كان يعرف الشاب بمقدار ما يشرب من الراح في جلسة، وبمبلغ حذقه في اللعب أكثر ما يعرف بما يحصل من درسه؛ وكان طبيعياً أن يجاري شاب مثل بيرون أقرانه فيما انغمسوا فيه، وإن كان يكره الخمر بطبعه؛ وأقبل الشاب على حياة اللهو، لا يتقيد بعرف ولا يهتم بلوم، حتى نفد ماله، فاستدان بضع مئات. ولما ضاق نطاق الجامعة عن لهوه استأجر مسكناً خارج أسوارها، واتخذ له خليلة ألبسها ملابس الرجال وادعى أنها أخ له، وأطلق لحياة المجون عنانه؛ فهل كان يريد بهذا العبث أن يسخر سخرية عملية من الحب وأحلام الحب، أم هل كان يجري فيه على ما ورث من آبائه من خلال؟ الحق أننا نستطيع أن نرد ما أسرف فيه على نفسه من اللهو إلى الأمرين معاً؛ ونستطيع كذلك أن نضيف إليهما ولعه بالرياضة التي جعلها بعض لهوه، وكان يريد من الرياضة أن يكتنز لحمه فيضمر جسمه، لأنه كان أميل إلى البدانة، وكان كرهه للبدانة شديداً؛ وكانت أحب ضروب الرياضة إليه السباحة التي كان يجيدها والملاكمة التي أخذ يتعلمها على أحد كبار معلميها.
ولما انتهى العام ترك بيرون الجامعة وذهب إلى سوثول حيث كانت تقيم أمه، فما أن وقع بصرها عليه حتى ثارت في وجهه وقذفته بما كان في يدها، فعول على الرحيل مسرعاً وق كانت له يومئذ مركبة اشتراها فركبها مع أحد أصدقائه وركب إلى جانب السائق خادم، له واصطحب معه كلبيه وكان يحبهما أشد الحب، وغاب زمناً عن أمه حتى أنفق ماله فعاد إليها على رغمه
وتغيب عن الجامعة عاماً جمع فيه شعره بإشارة من فتاة كان قد تعرف إليها في سوثول حين ذهب إليها أول مرة مع أمه وكانت تحترمه وتكبره فاطمأن إليها؛ ولما تم له جمع قصائده دفعها إلى ناشر تحت عنوان (ساعات الكسل) وذهب إلى لندن ليشرف بنفسه على بيع ذلك الكتيب، وكان مما يشبع كبرياءه أن يرى اسمه في (فترينات) بائعي الكتب؛ وراح يترقب ما عسى أن تنشر الصحف من نقد لشعره، ولما عاد إلى الجامعة كان يطرب فؤاده لما يسمعه من ذيوع شعره بين طلابها؛ على أن هذا الشعر يومئذ لم يكن من النوع الذي يبشر بمستقبل عظيم. وما لبث بيرون أن سمع أن صحيفة أدنبرج حملت عليه حملة شديدة، ولامته على نشر مثل هذا العبث، وكان بيرون في التاسعة عشرة وفد أشار إلى سنه في مقدمة كتابه، فعدت الصحيفة ذلك منه توقياً للنقد فأشارت إلى ذلك المعنى في حملتها عليه ذاكرة أن كثيرين غيره نشروا قصائد وهم في سن مثل سنه أو أصغر منها فكانت خيراً من قصائده كثيراً. ماذا يفعل ذلك المتمرد تلقاء هذا النقد الشديد؟ لقد ثقل عليه الهم أول الأمر، لقد كان يضيق بالحياة بعد ما كان بينه وبين ماري، وظن أن سيكون له في الشعر من ذهاب الصيت ما يتأسى به وما يتخذ به فخراً يرفع به رأسه ويدرأ به عن نفسه بعض الخزي الذي كان يلحقه من عاهته والذي ظل ملازماً له كما يتجلى ذلك في حديث له يومئذ مع قسيس في سوثول كان يجادله ويذكره بما من به عليه خالقه من نعم منها أنه وهبه عقلاً يسمو به على الناس، وكان جواب بيرون أنه يسمو بعقله عن الناس ولكنه ينحط برجله عنهم
ماذا يفعل ذلك المتكبر المحنق؟ لقد فكر أن يرد لتوه على هذا النقد بقصيدة ثائرة، ولكنه عاد فآثر التمهل ليكون رده محكماً وليفرغ فيه كل ما يجيش في نفسه، وأخذ ينظم وقلبه مملوء بالغيظ والحقد على ناقده وعلى شعراء عصره جميعاً
وأخلى اللورد جراي قصر نيوستد فذهب اللورد بيرون ليقيم فيه وكانت يد البلى قد شوهت جمال ذلك القصر القديم؛ على أن الشاعر ظل على الرغم من ذلك شديد الحب له والإعجاب به، وكان أول ما التفت إليه عقب عودته شجرته الحبيبة فأزال بيده ما التف بها من الحشائش وما عاق من نموها من متسلق العساليج، وعاش في عزلة عن جيرانه فلا يرد لهم مودتهم ليقطعوها، فإنه بالناس برم منذ يفاعته، على أنه لم يستطع أن يرفض دعوة وجهت إليه من نيوستد فذهب ليرى مارى وقد تزوجت وصار لها طفلة صغيرة وكأنه لم يبتعد عنها أكثر من يوم فلقد نبض قلبه وهو إلى جوارها بما كان ينبض به أمس، وحاول الكلام فلم يطاوعه لسانه إلا بعبارات متقطعة لا معنى لها، وعاد لهفان إلى قصره يلذع الأسى قلبه ويتنازع الهم مشاعره فكتب لساعته قصيدة تعد من أروع قصائده تلمس فيها اللوعة في قوله
(ودعاً يا حبيبتي العزيزة: لابد لي من الرحيل، وما دمت أنت سعيدة فليس هناك ما يكربني، أما أن أبقى إلى جوارك فذلك ما لا أطيقه إذ سرعان ما يعود قلبي طوع يديك. . .
لقد طالما ظننت أن الزمن في دورانه، وأن ما فطرت عليه نفسي من فخار وكبرياء، كفيلان أن يخمدا في قلبي تلك الشعلة الثائرة شعلة الحب أو شعلة الطفولة، ولكنني لم أتبين حتى جلست إلى جانبك أن قلبي لم يزل في كل شيء هو هو. . . إلا من جهة واحدة. . . هي الأمل!
غير أنني على الرغم من ذلك جلست هادئاً بين يديك؛ نعم إني لم أنس تلك اللحظات التي كان يثب فيها قلبي بين ضلوعي عند لمحة من عينيك، أما الآن فالرعدة جريمة، ولذلك التقينا فلم ينبض فينا عرق. . .)
وعول الشاعر على مغادرة قصره الحبيب يلتمس الشفاء في رحلة طويلة في أنحاء القارة أو إلى الشرق، ولكنه بقي حتى يفرغ من كتيبه الذي كان ينظمه للرد على ناقده
واحتفل الشاعر في نيوستد في مستهل عام 1809 ببلوغه السن، فدعا إلى القصر بعض أصدقائه حيث أقاموا ليلة ساهرة صاخبة، ثم ذهب ليأخذ معقده في مجلس اللوردات فاستقبل استقبالاً فاتراً، وقد ذهب إليه بمفرده على خلاف التقاليد التي كانت تقضي بأن يذهب اللورد الجديد في حاشية من أهله أو من أصحابه؛ ولكن اللورد بيرون لم يجد من يصحبه، وسرعان ما ضاق بالمجلس ومن بالمجلس. وفرغ من كتبيه وقد نحا فيه منحى الشاعر بوب في الأسلوب والنزعة التهكمية وملأه بالهجوم العنيف على ناقده وعلى شعراء عصره لم يستثن منهم أحداً، وإنه ليتساءل كيف يحل لهم النقاد ما يحرمونه عليه؟ ونشر الكتيب فصادف من النجاح أكثر مما قدر له الشاعر الشاب، ولقد ظهرت فيه براعته في التهكم ولباقته في سوق الحج، وتجلت قوة عبارته وإشراق معانيه ولذع سخريته؛ واطمأن الشاعر إلى مكانته وقد ظهر على ناقد من أكبر نقاد العصر، وهو بعد في الحادية والعشرين من عمره، وأحس أنه شفى غليل نفسه فعاد من جديد يسرف في لهوه، وكان قد بات في شغل عن أكثره بما كان يملأ فؤاده من غل. ولم ير الشاعر آخر الأمر بداً من الرحيل فقد آده عبء ديونه، ومل اللهو بعد أن أسرف فيه على نفسه، ولذع الهم فؤاده لوجوده قرب ماري وما له إليها من سبيل اليوم. . . على أنه قبل أن يرحل دعا نفراً من خلانه في كمبردج إلى قصره فقضوا شهراً في العبث والمجون، وحسبك أنهم كانوا يديرون الراح جمجمة آدمية هي جمجمة قسيس أخرجت عظامه من الأرض فأس البستاني. وحان يوم الرحيل فلم يأس الشاعر على فراق أحد غير كلبه؛ ولم يجد حوله من يأسون على فراقه هو، فإنه لم ير أخته منذ فترة طويلة، ونال من نفسه أنه لم ير في وجوه صحابه ما يشعره أنهم يحزنون لسفره. وركب البحر وهو لا يعلم أين يذهب ولا متى يعود
وسافر معه من خلانه شاب يدعى هبهوس، فكانت لشبونة أول أرض نزلا بها، ومن لشبونة ذهبا إلى قادس، ومنها إلى جبل طارق؛ وكانت أسبانيا يومئذ في صراعها ضد نابليون، وكانت الجيوش الإنجليزية تساعد أهلها على الخلاص من نيره؛ وأعجب بيرون بشجاعة أهل أسبانيا بقدر ما أعجب بجمال طبيعتها
وركب وصديقه سفينة من جبل طارق فبلغا مالطة، ومنها توجها إلى ألبانيا حيث نزلا ضيفين على علي باشا وإلى يانينا، وشد ما أعجب بيرون ببسالة الألبانيين وبمظاهر الحياة الشرقية في قصر الباشا، وكان له من ذلك مادة غزيرة سوف تظهر فيما بعد في آثاره
وذهبا من ألبانيا إلى بلاد اليونان، موطن السحر والحكمة بلاد هوميروس وأفلاطون، وادي الأساطير الخالدة، ووقف الشاعر أمام آثارها يقضي أرب مشاعره مما تحدث من أخبارها وما توحي من معانيه. . . وتوجها بعد ذلك إلى القسطنطينية مدينة الشرق العظيمة، بيزنطة الساحرة ذات المجد التالد والجمال الطريف، وأنس بمظاهر الحياة في عاصمة العثمانيين. . .
وعاد الشاعر إلى وطنه بعد أن قضى في هذه الرحلة زهاء عامين؛ عاد وفي جيبه قصيدة طويلة لم تكن إلا خلاصة مشاهداته في رحلته هذه؛ وتردد الشاعر في نشرها أياماً؛ ثم دفعها إلى صديق له يسأله رأيه فيها فألح الصديق عليه أن يذيعها في الناس فإنها لجديرة بذلك أي جدارة
وفعل بيرون ما أشار به الصديق، ولم تكد تتداول لندن هذا الكتيب الجديد، ويطلع أهلها على ما جاء به من وصف لهذه الرحلة، حتى كان اسم الشاعر اللورد على كل لسان، وفعلت بها براعة وصفه وحماسة شعره وقوة عاطفته ما يفعل السحر؛ وهكذا يتوافى للشاعر بهذا الكتيب الذي خاف من نشره أول الأمر من ذهاب الصيت ما لم يتواف لشاعر قبله؛ بل لقد حاز بيرون من الشهرة ما لم يحز رجل آخر في أي ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، حتى لقد شبه يومئذ بالشهاب اللامع، الذي يخطف بريقه الأبصار على حين غفلة، وقال هو يصف نفسه: (لقد أفقت ذات صباح فوجدتني من ذوي الشهرة)
منذ ذلك اليوم صار بيرون شاعر عصره في إنجلترا، فأخذ ينظم الشعر في سرعة عجيبة أدهشت الناس وحيرت النقاد، وسعى إليه كثير من ذوي المكانة يهنئونه ويثنون عليه، وأصبح يشار إليه في كل ناد، ويبتغي الوسيلة إلى مودته الشباب والكهول، وهو يزداد بذلك شهرة ويمتلئ قلبه زهواً وفخراً. ولم تكن إنجلترا يومئذ خلواً من الشعراء، حتى تعزى شهرة بيرون إلى أنه لم يكن في الميدان غيره؛ فقد كان في تلك البلاد عدد من فطاحل هذا الفن من أمثال: وردثورث، وكلردج، وسوذي، وتوماس مور، وكامبل، وشبلي وولتر سكوت، وغيرهم. وكان معظم هؤلاء أكبر سناً منه وأسبق في قرض الشعر
ولقد فاقت شهرة بيرون شهرة كل من هؤلاء جميعاً على الرغم مما كان لأكثرهم من سمو المكانة في الشعر مثل: وردثورث، وزميله كلردج. وليس معنى ذلك أنه بذهم في ذلك المضمار، فقد كان لكل منهم ناحية تفوق فيها، وإنما اتفق له من الصيت ما لم يتفق لأحدهم؛ الأمر الذي جعل ولتر سكوت على نباهة شأنه يومئذ يترك الشعر ويبحث لعبقريته عن مجال آخر هو مجال القصص قائلاً في صراحة إنه إنما يفعل ذلك لأن بيرون قد أخذ عليه طريق الشعر، وهو قول كان له وقعه في الأندية، وكان له كذلك أثره البعيد في تزايد شهرة الشاعر الشاب، الذي لم يكن يومئذ يزيد على الرابعة والعشرين من عمره على أن بعض النقاد يعزون ما أصاب بيرون من النجاح إلى عوامل أخرى تتصل بشخصه أكثر مما يعزون ذلك إلى جمال قصيدته؛ فهو شاب في ربيع العمر وهو يتمتع بلقب من اكبر ألقاب الدولة، وهو إلى ذلك جميل الصورة موفور الوجاهة. . . ولكن آخرين ينكرون على هؤلاء رأيهم هذا قائلين إنه نشر قصيدته قبل أن يعرف عنه كل ذلك اللهم إلا بين نفر قليلين من أصحابه. ويلتمس غير هؤلاء وهؤلاء أسباب شهرته هذه في موضوع قصيدته لا في قوة شاعريتها، فهي سياحة في القارة في وقت كانت تتجه فيه الأنظار إلى ما يجري فيها من حروب يبعثها نابليون في أنحائها. . . ولكن القصيدة لم تكن وصفاً لتلك الحروب حتى يصح هذا الرأي
فهل كان ما أصابت القصيدة من شهرة يرجع إلى قوة شاعرية صاحبها فحسب؟ إن الذين يقولون ذلك أيضاً بعيدون فيما نرى عن الإنصاف بعد سالفيهم، ولما كانت القصيدة أشهر حادث أدبي في حياة الشاعر وأحد العوامل الهامة في الحركة الأدبية يومئذ وجب أن نتبين حقيقة أسباب نجاحها على مثل هذه الصورة الفائقة
(يتبع)
الخفيف