مجلة الرسالة/العدد 344/وحي الذكرى والحنين
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 344 وحي الذكرى والحنين [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1940 |
(ابنة تناجي أباها بمناسبة مرور العام الثاني على وفاته)
للسيدة وداد صادق عنبر
في ظلام ذلك الليل الدامس، وفي صدى سكونه المهيب، جلست مطرقة أفكر فيك وكل فكري دمع، وأبكيك وكل دمعي فكر، فريسة ذكراك، وقد طال حتى حسبت أن ليس له صباح. فيا لطول الليل على حزن الثكلى! ويا لحزن الثكلى من طول الليل!
جلست لمناجاتك فدعوتك أبتاه!. . .
وأجبتني كعهدي بك في الدنيا حاضر الابتسامة حين تخصني بالحديث في كثير من أوقاتك، ترفرف علينا أثناءها العناية الإلهية وقد عادت حدب أبوة وبرَّ بنوة. فوا أسفاه على تلك النعمة السابغة الذيل التي ما تمتعت بها طويلاً حتى بكيت متفجعة على فقدها ورزئت بسلبها، ولولا إيماني بسالبها القدير لأكبرت على القدر أن يفجعني فيك
أجل. لولا إيماني لأكبرت عليه أن يفجعني فيك وقد كنت سكناً لقلبك كما كان قلبي سكناً لك. فيا لذاك البث الذي خيم على قلبي ونفسي معاً، والذي لم أجد لهما منه مخرجاً سوى وقوفي أمام قبرك العزيز، فقد أجد فيه بعضاً من سلواهما وبردهما، فأنفح جوه هتافاً باسمك ولثماً لرسمك، وأنفث عن حسرة مما يقدح الأسى على كبدك حين تحس أي جرح هذا الذي فتحه القدر في قلبي فهو لا يبرأ ولا يلتئم، وأي جمهرة من الآلام تركتها فجيعتي فيك في أطواء نفسي، وكل ألم منها في وقعه مني فن من العذاب أستعذب مذاقه ولا أرجو فراقه. وأي كتيبة من الأحزان تحمل علي في عزلتي وأيسرها يسحق النفس وبذورها، ويمحق الحياة ويمحوها. وأي ثورة في نفسي لا تسكن أبداً ولا تهدأ، ومناحة لا تنفض فهي في كل ساعة تبدأ، وأي ضغط ينعصر تحته قلبي الواهن المستطار فيظل على حاله واهناً مستطاراً، وأي همّ وغمّ أخذت به عن نفسي فأصبحت في شبه سكرة أو غمرة. . .
يا حر قلبي عليك من حر قلبك عليَّ! كنت في حياتك تحرص كل الحرص على ألا يسكب دمع من عيني لعارضة تحدث أو نازلة تكون، لأنك أحببتني حباً ضربته الأبوة أعلى مثل، بيد أنه أصبح مثلاً يتيماً من أنه ينظر إليه ولا يقاس عليه
على أن العهد بالحزن أن يرثّ على الزمن أو يبلى في القلب الحزين. وإني لأعيذ قلبي أ يرث أو يبلى في حزنه. على أنني أعود فأتخيلك وأنا ذاهلة على وعي قلقة على سكينة، مضطربة على قرار، مأخوذة على استقرار. أتخيلك في سنة نومي إذا دعوتك أجبتني فأدعوك، ثم أدعوك، وأتسمع عليك ثم أتسمع، فإذا هو القبر في سكتته، وإذا هو الحزن في فورته وثورته. وإذا بصدى دعاني يردد إلى نفسي خافتاً خافتاً
أبتاه:
إني لألمحك الساعة وأنا أكتب كلمتي في ذكراك الثانية، ألمحك من وراء قبرك، من وراء الموت، من وراء الزمن، من وراء الخلود، قاراً متضوئ النفس رضيها بما أزلفت في حياتك لقومك من برٍ هم به ذاكروك، وبما تلقى عند ربك من ثواب ما قدمت يداك لأمتك لا لنفسك فخلعت عليها شبابك ونبهت للمجد أترابك، ومن ثمَّ كانت خلاصة حياتك مثالاً سامياً من أمثلة الجهاد والعمل. فحملت نفسك وحمَّلتها غير عابئ بالمرض يداخلك من حيث لا تتقيه، ويهدُّ من صحتك ما لا يَرُمُّهُ العلاج ولا يبنيه
لا، بل ألمحك في آثارك الحية بين يدي وكل أثر منها هو قطعة من حياتك عليها طيفك يرف
وألمحك في أخي الوحيد (كمال) الذي كان كل همك حيَّاً وتركزت فيه آمالك وأحلامك، وقد تركته في هذه السن الصغيرة، ملقياً عليه أمانة هي ذلك العبء الثقيل الذي أراه في طريقه إلى النهوض به ناشط الكاهل مرجو لمخايل
ألا فنم هانئاً هادئاً مطمئناً فإنه وإن لم يبلغ مداك، فحسبه أن يسير على هداك
رحمك الله يا أبي بقدر ذلك النور الفياض الذي نقتبس منه طريقنا السوي، وأنال ولدك الحظ الذي أملته، وأمطر جسدك الكريم وابلاً من فيض رحمته، وألهمنا بقدر مصابنا فيك السلوى
وإلى يوم الملتقى عليك مني السلام
ابنتك البارة
وداد صادق عنبر