مجلة الرسالة/العدد 343/الفنان
→ أفانين | مجلة الرسالة - العدد 343 الفنان [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
للآنسة زينب الحكيم
الفنان إنسان منقب، يغريه الأمل فيسبح في خيالات خلابة، أو يوئسه القدر فيراع، وهو على أية حال يكونها متنقل متفنن. . .
تعاف نفسه الاستقرار، ويؤلمه الجمود، هو إنسان دقيق مرهف الحس، يدرك من وراء الظواهر ما لا يدركه غيره؛ فإذا أصاب الهدف فبشّره بفلاح عظيم، إذ تسمو مداركه ويمرن نشاطه ويخلد فنه؛ وهو كلما طال وقت اختباراته دقّ إدراكه ونفذ إلى ما وراء خيالاته ومشاهداته، وكلما صمت نطقت ريشته، ودوى نغم وتره. . .
امتحان
اختبر مرة فنان صيني ماهر تلاميذه - فكلفهم رسم جبل في بلادهم يسمى (جبل الأسرار)، ومن فوقه وحوله الهياكل للعبادة.
رسم الطلاب الجبل بإتقان، وأظهروا حوله الهياكل، فجاءت رسومهم نماذج باهرة، وراحوا إلى أستاذهم فخورين؛ ولكن كان نصيبهم جميعاً الرسوب في الامتحان، إذ قال لهم أستاذهم: إن رسومكم التي أرى، إن دلت على شيء، فلا تدل على أكثر من أشياء ظاهرية مادية ساذجة، مما يشير إلى أن خيالكم قاحل وفنكم بدائي، ولم تحاولوا تفهم نفوسكم حتى تستطيعوا نحت شيء منها يخلد به تصوركم لجبل الأسرار وما يحيط به.
لقد كان يكفي تلاميذي أن ترسموا هيكل الجبل من بعيد، وقد اختفت أجزاء منه: إما في ضباب، أو زوبعة، أو وراء السحب؛ وقد كان يكفي الرمز إلى وجود هياكل حوله وعلى قمته بأن ترسموا راهباً أو اثنين يجلبان ماءً من مجرى الماء بالوادي، أو من مساقط المياه القريبة ليصعدا به على الجبل. ويكفي ما يشير إليه عملهما من وجود الرحمة والتضحية والتجرد، كما يكفي هذا لفهم دلالة الرسم على ما قصد به.
هكذا الحياة شك ويقين، ووضوح وغموض، ويأس وأمل، وصدق وكذب، وخداع ووفاء، وشدة ورخاء، وحب وكره، وغير ذلك مما لا حصر له من الأضداد.
مسكين الإنسان يضل بين هذه جميعاً، يخدعه البصر حيناً وتخادعه الحواس أحياناً، تثيره الموسيقى وتشمعه الفلسفة، فيصير نوراً في الأنوار أو روحاً في الأرواح. حياته نهب بي الشدائد والتأملات. الشدائد تصقل نفسه من جهة وتنمي خياله التأملات من جهة أخرى، فيضيف إلى شخصيته شخصيات متعددة كلما مرت به حادثة أو اختلجت قسماته وتأثرت أعصابه. ولكن هل إدراكه محدود؟ هذا ما يحيرني. أما نشاطه فمحدود بتحلل هيكله، ولكن نشاطه الادراكي هل يزول أيضاً وينتهي إلى الأبد كما ينتهي الجسم؟!
صورة
أتخيل الآن تحفة من روائع الخيال والفن الصيني، أهدتها إلي بعثة الإخاء الإسلامية الصينية (نزيلة القاهرة في شهري مارس وإبريل 1939)
هذه الصورة بها أعشاب مزهرة، وبها طيور خواضة. وقف ثلاثة منها معاً على العشب المائي، ولفت نظري سماتها المختلفة
فواحدة كأنما تجدّ في إخفاء وجهها، وتحاول إغماض عينها فلا تريد أن يراها أحد أو ترى أحداً؛ وواحدة تكابد يأساً قاتلاً وهماًّ مقيماً؛ والثالثة تطأطأ رأسها وقد وقفت على ساق واحدة في إعياء وخفض جناح
والناظر إلى ثلاثتها لا بد أن يشفق عليها، ويعجب من أمرها. وفي أعلى الصورة طائران يحلقان معاً في ضوء البدر الخلاب وقد قاربا أزهار العشب وهما يهبطان بالتدرج، ويطمئن الناظر إليهما لما تضفيان عليه من سمات الانشراح والاطمئنان والسعادة
في الصورة شيء أخر أحاول تذكره فلا تسعفني الذاكرة، وقد صممت ألا أرى
الإطار حتى أذكر ذلك الشيء، الذي أذكر موضعه في الجهة اليسرى من أعلى الصورة، ولكني لا أذكر إذا كان جبلاً أو إنساناً أو حيواناً أو غير ذلك. . . غريب هذا! إن جميع ألوان الصورة حاضرة في مخيلتي بجميع دقائقها من ظل وألوان وحجم وتناسق وكل شيء إلا ذلك الشيء المنسي في أعلى الصورة من الجهة اليسرى. . . ترى ما هو وما دلالته، ولماذا أهملته باصرتي وذاكرتي، ولا يمكن أن أتصوره فقد انمحى أثره من مخيلتي تماماً؟!
إن زهر العشب السامق بألوانه المشوبة بالحمرة والصفرة، والمتناثرة زهوره ينطوي فيها كل معاني فصل الخريف، الذي يهيج في كل قلب ما يكمن، ويثير في كل نفس مشجاة شجنها
والطير الممثل في الصورة هو نوع من البط غير الأليف الطيار، يتصف بشدة الوفاء، فإذا مات إلف وترك أليفه، فإنما قد ورثه الحزن والوحدة، فيموت كمداً وحزناً على إلفه الراحل، فيقاطع الطعام والشراب، ولا يطير إلا منفرداً، ولا يمكن أبداً أن يتخذ إلفاً غير إلفه في الفترة التي يعيشها بعده طالت أو قصرت
وهذا الطير من الطيور المهاجرة (القواطع) فيعرف فصول السنة ويميزها، ولذلك ينتقل من الشمال إلى الجنوب في الشتاء، ولما عرف عن هذا البط الطيار من شدة الوفاء، يهدي للعروسين في بلاد الصين يوم عقد القران لهما دليلاً على الوفاء
أخيراً أذهب إلى الصورة لأرى الشيء المنسي،. . . إنه بيت من الشعر، مكتوب في سطرين باللغة الصينية معناه: (وراء هذه الزهرة تكمن معاني الخريف)
هل كان يصح مني أن أنسى هذا البيت من الشعر وهو الذي يفسر معنى الصورة؟! لقد مررت وأنا أكتب هذا المقال بمواضع فيها من تداعى المعاني ما يذكرني بالشيء المنسي ولم أذكره، وكان لا بد لي من الذهاب إلى الإطار لأراه
عجباً! كأن المصور اتهم بيان صورته عما أراده منها، أو اتهم الجمهور في فهم بيانه وما تشير إليه صورته؛ إن يكن قد اتهم نفسه فقد قسا في اتهامه، وإن يكن قد اتهم الجمهور فقد عدل فيه، فلا يفهم الصور فيما تشير إليه من معان إلا أهل الفن والخواص من الناس
وإنسان الفن لا يريد إيضاحاً كلاميا، ولهذا كان بيت الشعر بالنسبة للذاكرة شيئاً قليل الأهمية
وكيف يمكن أن أذكر هذا وأنسى براعة الفنان المدهشة في الإلماع إلى كمون معاني الخريف وراء أزهاره الشاحبة في ضوء القمر الكامل الاستدارة! لقد أخفت أزهار العشب الملوحة بالحمرة والصفرة جزءاً يسيراً غائراً من طرف القمر، فكان قلباً دامياً - نعم يقطر دماً
فيا أيها الفنانون المدعون، هل تسيرون وفق طبائعكم أو تخالفونها - فلا تبصرون ولا تفقهون، ولا تؤدون رسالاتكم المتوقف أداؤها على البصيرة؟!!
زينب الحكيم