مجلة الرسالة/العدد 343/أفانين
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 343 أفانين [[مؤلف:|]] |
الفنان ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
بين الخوارزمي والهمذاني
للأستاذ علي الجندي
(تتمة)
كان دخول الرئيس أبي جعفر وصاحبيه الحربي والحيري، بمثابة هدنة نَّفست عن المتناظرين، وأتاحت لهما قسطاً من الجمام، فهدأت الشقاشق، وسكنت الزماجر، وأحسبهما أنسا بدخول الرئيس، وارتاحا إلى هذه الهدنة وودَّا أن يمتد أجلها! ولكن الرئيس لم يحضر لفض النزاع وحسم الخلاف، بل أتى كغيره تصاول العقول وتخاطر الفحول في ميدان المعقول والمنقول!
فما إن فرغ من السلام، وأخذ مجلسه بين الصدور المقدمين حتى تولى توجيه المناظرة، فاقترح أن ينشدا روّية على وزن اختاره
فتلمّظ البديع بلسانه، وسرعان ما أنشد اثني عشر بيتاً
منها:
برز الربيع لنا برونق مائه ... فانظر لروعة أرضه وسمائه
والترب بين مُمسَّك ومُعنبر ... من نَوْره، بل مائه ورُوائه
والماء بين مُصَندل ومُكفَّر ... في حسن كُدرته ولون صفائه
والطير مثل المحْصنات صوادح ... مثل المغّني شادياً بغنائه
زمن الربيع جلبت أزكى متَجر ... وجلوت للرائين خير جلائه
فكأنه هذا الرئيس إذا بدا ... في خلقه وصفائه وعطائه
ما البحر في تزخاره، والغيث في ... أمطاره، والجوّ في أنوائه
بأجلَّ منه مواهبا ورغائبا ... لا زال هذا المجد حِلْف فنائه
ثم أنشد الخوارزمي على هذا المثال تسعة أبيات لم نعثر عليها في مظانها
وقد وصفها البديع: بأنها جمعت بين إقواء وأكفاء وأخطاء وإبطاء! وأنه أخذ عليها عشرين مأخذاً! وذكر أنه اتجه إلى عميدي المجلس الوزير والرئيس، فقال - مشيراً إلى الخوارزمي بعد فراغه من الإنشاد -: لو أن رجلاً حلف بالطلاق أني لا أقول شعراً، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، هل كنتم تطلقون عليه امرأته؟ فهتف الجماعة: لا يقع بهذا طلاق!
ثم طلب البديع إلى الخوارزمي أن ينقد أبياته المتقدمة (برز الربيع لنا برونق مائه. . .) فقال الخوارزمي: قلت: أنظر لروعة أرضه وسمائه، ويقال: أنظر إلى كذا. فلم تسمع منه الجماعة
وشبهتَ الطير بالمحصنات، ثم شبهتها بالمغنيات. وأي شبه بين المحصنات والطير؟ ثم كيف توصف المحصنات بالغناء؟
فرد البديع: يا رقيع! إذا جاء الربيع كانت شوادي الأطيار تحت ورق الأشجار، فيكن كأنهن المخدرات بين الأستار، والطيور في الخدور كالمحصنات، وكالطير في ترجيع الأصوات
ثم قال الخوارزمي: وقلت: زمن الربيع جلبت أزكى متجر. هلا قلت: جلبت أربح متجر؟ فقال البديع: ليس الربيع بتاجر يجلب البضائع المربحة
ثم قلت: كالبحر في تزخاره، والغيث في أمطاره، والغيث هو المطر. فقال البديع: لا سقى الغيث أديباً لا يعرف الغيث! الغيث هو المطر، وهو السحاب. فصدقه الحاضرون
وهنا قال الإمام أبو الطيب الصعلوكي: قد علمنا أي الرجلين أشعر، وأي الخصمين أقدر، وأي البديهيتين أسرع، وأي الرؤيتين أصنع!
ثم مال المتناظران إلى فنون أخرى ظهر فيها فوقُ البديع، ووافق ذلك ملالة الحضور فشرعوا في الانصراف، وهم يثنون على البديع ويسلقون الخوارزمي بألسنة حداد!
وهمّ الخوارزمي بالقيام فأصيب بإغماء! فانحنى عليه البديع متمثلاً بقول بشر بن عوانة:
يعزّ عليّ في الميدان أني ... قتلت منافسي جلَداً وقهْرا
ولكن رمتَ شيئاً لم يرمه ... سواك، فلم أطق يا ليث صبرا
ثم أخذ يمسح عن وجهه! ويقبل بين عينيه! ويقول - على سبيل الاستهزاء -: أشهدوا أن الغلبة له!
ثم مدت الموائد وتكوّف حولها الحضور لتناول الطعام، وكأن الظفر فتح شاهية البديع! فجعل - كما يصف نفسه ويصف خصمه - يكرع في الجفان، ويسرع إلى الرغفان! ويمعن في الألوان! والخوارزمي يتناول الطعام بأطراف الأظفار! فلا يأكل إلا قضماً، ولا ينال إلا شمّا!
وقد بلغ من جفوة البديع وتحجر مشاعره أنه لم يرع للطعام حرمة! فاتخذ خصمه هزئا وسخرية! وتناوله بفنون من التندر اللاذع حتى استكفَّه الوزير بقوله: قد ملكت فأسجح
ولما قام الخوارزمي عن المائدة - وقد خنقه تبريح الغيظ - قال للبديع: لأتركنك بين الميمات. قال: ما معنى الميمات؟ قال: بين مهدوم، مهزوم، محموم، مرجوم، محروم! فقال البديع: وأتركك بين الميمات أيضاً: بين الهيام، والصدام، والجذام، والحمام والسَّام، والزكام، والبرسام، والسقام! وبين السينات: بين منحوس، منخوس، منكوس، معكوس! وبين الخاءات. من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ، وممسوخ! وبين الباءات: بين مغلوب، مسلوب، مرعوب، مصلوب، مركوب، منكوب، منهوب، مغصوب!
ثم انفض المجلس وخرج البديع تحفه هالة من أصحاب الشافعي السٍّنية، يتبارون في تعظيمه وإجلاله! ويوسعونه ضماً وتقبيلاً!
وقبع الخوارزمي في مكانه حتى غربت الشمس، فعاد إلى داره كسير القلب خافض الطرف كاسف البال!
وكان لهذه الهزيمة وما لابسها من تألب بلده عليه، وخذلانهم له، وقع شديد على نفسه! فدلفت إليه العلل، وألحت عليه الأوجاع، فلم ينقض الحول حتى وافته المنية في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة هـ ـ
ومن الغريب أن اعتلاله لم يخفف من حقد خصومه عليه! فكتب بعض سفْلتهم إلى البديع يهنئه بمرضه! فرد عليه البديع بكتاب ليس فيه مسوح الرهبان، ومرقْعات الصوفية! ومن الإنصاف. أن نشيد بما انطوى عليه من أريحية ونبل ولعل مرد ذلك إلى الصفاء الذي يعاود النفوس بعد أن تهدأ فورتها، وتنجلي عنها غشاوة الباطل! فتوقن أن المجد كله لله والعزة له جميعا! ولعل مرد ذلك أيضاً إلى أن الظفر بالقرن يٍحلّ الضغينة ويمحو غليل الصدور، بل يستحيل - على تراخي الأيام - إلى عطف ورثاء! وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة قال البديع في كتابه: الحرٍّ - أطال الله بقاءك - لاسيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر، علم أن نعم الدهر ما دامت معدودة فهي أمانيّ، وإن وجدت فهي عواريّ، وأن محن الأيام - وإن مطلت - فستفد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن أفلت، فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت. وما أقبح الشماتة بمن أمن الأمانة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقب كل لفظة، والدهر غرثان، طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله؟ أم يسّر العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل - شفاه الله - إن ظاهرناه بالعداوة قليلاً، فقد باطناه ودا جميلاً. والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد. فلا تتصور حالتي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته. وقاه الله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله!
ولما مات الخوارزمي رثاه البديع، ولعله اقتدى في ذلك بجرير في رثائه للفرزدق قال:
حنانيْك من نفَس خافت ... ولبيْك عن كمد ثابت
تحمّلت فيك من الحزن ما ... تحمّله ابنُك من صامت
حلفتُ: لقد متَّ من معشر ... غنيِّن عن خطَر المائت
يقولون: أنت به شامت ... فقلت: الثرَى بفم الشامت
وعزَّت عليَّ معاداته ... ولا مُتَدارَك للفائت
ورثاه أبو الحسن الرقماتي فأحسن وأساء:
مات أبو بكرٍ وكان امرأَ ... أدْهَم في آدابه الغرِّ
ولم يكن حُراَّ ولكنه ... كان أمير المنطق الحرّ
ورثاء البديع للخوارزمي قد يصور لنا طَرفاً من الحرقة واللوعة التي يجدها النظير لفقد نظيره! ولكنه لا يكشف عن شيء من فضائل المرثي كما هي سنة الرثاء، حتى لقد قال بعض النقاد: إنه لم يخل من الدس والسعاية!
ومهما يكن من شيء فقد كان البديع أكرم نفساً وأسنى طبعاً وأعف بياناً من الصاحب بن عباد الذي قال حين بلغه موته:
أقول لركْب من خُراسانَ قافل ... : أمات خُوارزْميكم؟ قيل: لي نعمْ فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ... : ألا لمن الرحمن مَن كفر النّعم!
وبانتصار البديع أولاً وبموت الخوارزمي ثانياً، نبه ذكره واستطارت شهرته، ونفقت سوقه لدى الملوك والأمراء والوزراء، وتهادته الأقطار والأمصار، فلم تبق بلدة في خراسان وسجستان وغزلة إلا دخلها، فحسنت حاله وكثر ماله وفشت نعمته
وأراد - بعد امتلاء الوطاب وانتفاخ الجراب - أن يستمتع بالراحة، ويتملى النعيم، فتخير (هراة) دار قَرار، وصاهر فيها الحسيب النسيب أبا علي الحسين الخشنامي، فآوى منه إلى ركن شديد، وأقتنى بمعونته ضياعاً فاخرة
ولكن القضاء العادل كان واقفاً له بالمرصاد فأخذه ولم يفلته!
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم
فمن قائل: إنه مات مسموماً؛ ومن قائل: إنه أصيب بالجنون؛
وهناك رواية وثيقة تقول: إنه اعترته غشية فظن به الموت وعجل له الدفن، فأفاق في قبره وسمع صياحه بالليل، فشقوا عنه فأصابوه قابضاً على لحيته وهو ميت من هول القبر ووحشته!
وكان ذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة هـ
نسأله تعالى حسن الخواتيم!
علي الجندي