مجلة الرسالة/العدد 343/رسالة الشعر
→ الفنان | مجلة الرسالة - العدد 343 رسالة الشعر [[مؤلف:|]] |
الأدب في أسبوع ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
موكب الوداع
(بمناسبة مرور العام الأول على وفاة فقيد الأدب والشباب
الشاعر (الهمشري))
للأستاذ علي محمود طه المهندس
هذا الرحيقُ فأين كأس الشاعر؟ ... قد أَوحش الأحبابَ لَيلُ السامر!
لمَ يا حياةُ وقد أحَّلك قلبَه ... لمْ تؤثريه هوى المحبِّ الشاكر؟
أخليتِ منه يديكِ حينُ حلاهما ... من ذلك الأدب الرفيع الباهر
لو عاش زادكِ من غرائب فنِّه ... ما لا يُشبَّهُ حسنُه بنظائر
وظفرتِ من تمثيلهِ وغنائه ... بأدقِّ مثَّالٍ وأرخم طائر
أملٌ محا المقدارُ طيفَ خياله ... وتخطفته يدُ الزمان الجائر
وأصار فرحتَنا بمُقبِل يومه ... مأساةَ ميْتٍ في الشباب الباكر
متوسِّداً شوكَ الطريق، مُلثمّا ... بجراحه، مثل الشهيد الطاهر
رُدُّوا المراثيَ يا رفاقَ شبابِه ... لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكر
هذا فتًى نظم الشبابَ وصاغه ... وحياً تحدّر من أرقِّ مشاعر
جعل الثلاثين القِصارَ مدًى له ... والخلدَ غايةَ عمره المتقاصر!
غنُّوهُ بالشعر الذي صدحتْ به ... أشواقه لحنَ الحبيب الزائر
غنُّوهُ بالشعر الذي خفقت به ... أنفاسه لحنَ الحبيب الهاجر
تلك القوافي الشارداتُ حشاشة ... ذابتْ على وَتَر المغنِّي الساحر
فتسمَّعوا أصداءها في موكب ... للموت محتشدِ الفواجع زاخر
مشتْ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ ... خرسٍ، وأدواحٍ هناك حواسر
ولو استطاعت نضَّدتْ أوراقَها ... كفناً له، والنعشَ غضَّ أزاهر
ودَعتْ سواجع طيرها فتألفت ... أمماً تخفُّ إلى وداع الشاعر!
يا ابن الخيال تساءلت عنك الذُّرى ... والشهبُ بين خوافقٍ وزواه وشواطئ محجوبةً شارفتَها ... فوق العواصف والخضمِّ الهادر
أيرُىَ جناحُكَ في السماء كعهده ... متوشِّحاً فَلَقَ الصباحِ السافر!
أيرُى شراعُك في المساءِ كعهده ... متقلداً حلقَ السحاب الماطر؟
هدأ الصراعُ وكفَّ عن غمراتهِ ... من عاش في الدنيا بروح مغامر
وطوى البلى إلا قصيدةَ شاعر ... أبقى من المثل الشرود السائر
شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسّ مرهفِ ... لا رصفَ ألفاظٍ ورصَّ خواطر
وَدُمّي مفضَّحةَ الطلاءِ كأنها ... خُشبُ المسارح مُوِّهتْ بستائر
تتمثل التاريخ في أزيائه ... بين المصفِّقِِ وابتسام الساخر
من صنع نظَّامين جهدُ خيالهم ... مسحُ الزجاج من الغبار الثائر
متخلفين عن الزمان كأنهم ... أشباحُ كهفٍ أو ظلال مساحر
يا قوم إنَّ الشعر روحانيةٌ ... وذكاءُ قلبٍ في توقّدِ خاطر
نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما ... لمستْ يدُ الآسى وعينُ الناظر
متعرفاً صور الخلائق، سابراً ... أعماقَ أرواحٍ وغوْرَ سرائر
هذى عروس الزَّنج ليلتُه التي ... أدمتْ بكفّ حُلِّيتْ بأساور
والنجمُ أشواقٌ، فمهجة عاشق ... وذراع معتنق، ووجنة عاصر!
الشعرُ موسيقى الحياة موقَّعاً ... متدفعاً من كلِّ عرق فائر
عشاق (بابل) لو سُقوا بنشيده ... لم يذكروها بالرحيق الساكر
وتنصتتْ أقداحُهم لمغرِّد ... مَرِحٍ يصفق بالبيان الساحر
أو كان كلّمَ برجها بلسانهِ ... والقوم شَّتى ألسنٍ وحناجر
لم نِشك من عوَج اللسان ووحِّدت ... لهجات هذا العالم المتنافر!
علي محمود طه