مجلة الرسالة/العدد 342/رسالة الفن
→ الأدب في أسبُوع | مجلة الرسالة - العدد 342 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 22 - 01 - 1940 |
دراسات في الفن
دعاؤك ثم غنائي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- كل سنة وأنت طيب
- يا باي! وما لك تكرينها هكذا كأنما أنت آلة. . .
- يا فتاح يا عليم! وكيف كنت تريدني أن أقولها لك؟ أكنت أجثو لك على قدمي وأرفع لك كفي مضمومتين، وألقيها عليك كما ألقى روميو على جولييت تحية الغرام ساخنة؟
- لا يا شكسبيرة الزمن، كنت أريد أن أشعر وأنت تقولينها أنك تريدين حقاً أن أكون طيباً في كل سنة. . .
- كنت تريد مني أنا أن تشعر أنت. . .؟ إذن، فاسمح لي أن آكل نصيبك من غداء اليوم، واشبع أنت. . .
- لو كنت استطعت أن تشعريني بالسلامة في دعائك الأول لكنت استطعت أن تشعريني بالشبع في دعواك الثانية!
- عجباً! تذهب في الجدل إلى هذه النهاية المضحكة فيسهل عليك أن تقرر إمكان الشبع لإنسان إذا أكل غيره. . . ولا تعترف بأنك كنت (تهلوس). . .
- لون كنت أماً لما أنكرت أن الشبع يمكن لإنسان إذا أكل غيره. فالأمهات كثيراً ما يشبعن إذا أكل أبناؤهن. وكثيراً ما يرتوين إذا شرب أبناؤهن. وكثيراً ما يسعدن إذا فرح أبناؤهن. وكثير ما يحقق الله على هذا دعاءهن إذا دعون لأبنائهن. وفي هذا جعل الله الجنة تحت أقدامهن!
- ما شاء الله. أريد أن أفتك بقضاياك هذه جميعاً لولا أنك تقرر بها للمرأة أفضالاً قليلاً ما أظفر منك بالاعتراف بواحد منها. ولكن هذا لا يمنعني من أن أسجل عليك هذا الاعتراف، وأن أسألك بعد ذلك كيف كنت تريدني أن أدعو لك؟
- أتعرفين لماذا كانت صلاة الجماعة خيراً من صلاة الفرد؟ ولماذا كان للمصليين جماع أمام يقود الصلاة؟ ولماذا يفزع من طوائف المتدينين المختلفة جماعات في الكوارث يصلون يطلبون من الله أن يدرأها، وفي المباهج يصلون يطلبون من الله أن يباركها؟
- وما صلة هذه (الفقهنة) بدعاء هو تحية العيد؟. . .
- الدعاء صلاة لأن الصلاة دعاء. والدعاء قد يكون تحية حقاً، ولكن ليس على هذا النحو الذي تشغلينه كما تشتغلين (البرودري). أنت ألقيت عليّ تحية العيد كما يلقي الناس هذه التحية، وهم يلقونها كما يلقون كل تحية أخرى، تنطلق بها أفواههم ونفوسهم مشغولة عما ينطقون، ولهذا فإن تحياتهم لا أثر لها ولا ثمرة، فكم دعا ناس لناس أن يفوزوا فخابوا! وكم دعاء ناس لناس أن يسعدوا فابتأسوا! وكم دعا أيضاً ناس على ناس أن يصيبهم السوء فلم يصيبهم إلا الخير! وكم دعا ناس على ناس أن يهلكوا فنجوا. . . وكم وكم من دعوات فارغة!
- وهل في الدعوات فارغ ومملوء؟
- الدعوات ككل كلام يقوله الإنسان، وفيه الفارغ، وفيه المملوء حقاً، وفيه المملوء باطلاً، وفيه المملوء أخلاطاً من الحق والباطل. ولا يبقى من هذا كله عند الله إلا المملوء حقا. ً وإن له عند الله الجزاء أثراً واجب التحقق. ألم يقل النبي، فيما يروى من الأثر: اتقوا دعاء المظلوم؟! أليس في هذا دليل على أن دعاء المظلوم يتحقق؟ وأي شيء في دعاء المظلوم يميزه عما في غيره من الدعاء إلا أنه مملوء بالحق؟ فإذا كان الامتلاء بالحق هو الذي يضمن للدعاء التحقق فلماذا لا نضمن تحقق الدعاء بالخير إذا امتلأ حقاً؟. . .
- إن هذه (شاطحة كشطحات) المجاذيب!
- انعم بهم! واستمعي لي. وافرضي معي أسوأ ما يمكن أن يفرض في الإنسان من الفروض، وهو أنه بلحمه وعظمه ودمه وأعصابه شحنة كهربائية حدثت على وجه من الوجوه لا شأن لنا به. وافرضي كذلك الأسوأ من هذا وهو أن عواطف الإنسان ووجداناته ليست إلا حالات كهربائية تعرض لهذه الشحنة المتجسدة إنساناً في ظروف مختلفة. . . وافرضي بعد هذا وجود إنسانين بينهما علاقات. . . فكيف تتصورين هذه العلاقات بين هذين الإنسانين اللذين هما شحنتان من الكهرباء؟
- لابد أن تكون ككل علاقة بين شحنتين من الكهرباء. فكيف تكون العلاقة بينهما؟ - تكون أحياناً برقاً يصحبه رعد. وتكون أحياناً إشعاعات تعاون على بعث النور في الظلمات، وتكون أحياناً صواعق. . . وقد تكون على نحو لا أعلمه وأنا ويعلمه الدكتور غالي، وقد تكون على نحو لا أعلمه ولا الدكتور غالي. . .
- حسن. فلنتصور أذن هذين الإنسانيين وهما شحنتان مما يحدث البرق فكيف يكونان؟
- هذان يلتقيان فجأة فيتعانقان ويتبادلان القبل مفرقعة ولها هزيم
- والحالة الثانية؟
- أما الحالة الثانية فهي التي تستعين فيها شحنة بشحنة أخرى على بعث النور، أو على تحريك الموتور، أو على بلوغ مقصد ما. . . إنهما من غير شك تتعاونان إذا اتجهتا اتجاهاً وأحداً. وهذه هي حالتنا أنت وأنا كما أحب أن تكون. فلو أنك تقصدين معي الهدف الذي أقصد إليه لبلغنا من غير شك أنا وأنت هذا الهدف في مدة أقصر من المدة التي قد أصل فيها وحدي لأدعوك بعد ذلك إلى جانبي. وأنا لا أطلب منك أن تدفعيني بيديك لأني لا أتصدى في هذه الدنيا لعمل استخدم فيه القوة، وإنما أريد منك أن تؤمني بالذي أومن به وأنت تعلمين أنه الله، وقد قلت لي مرات أنك مؤمنة، والله قد رسم للحياة حدوداً وأنت تعرفين أني أخاف كل الخوف من الخروج على هذه الحدود، فسيري إليّ فيها، والزميها في قولك وعملك نكن أنا وأنت شحنة واحدة منطلقة في الكون فيها قواك وقواي وقوة الحق الأكبر من كل قوة. هو دعاء أريده أن ينبعث من قلبك لا من لسانك. اتجهي إلى الله وأنت على القرب مني أو على البعد، فهو لابد معيني من دعائي ولأنه إلى غايتي. . . وأنا لابد أن أشعر به كما يشعر الأب بدعاء أبنائه إلى جانبه وأن لم يصوغوه دعاء. . . ألا يكافح الأب في الدنيا من أجل أبنائه أكثر مما يكافح من أجل نفسه. . . أو تحسبين هذا الكفاح والقدرة عليه إلا من دعوات الأبناء. . .؟
- قد يدعو الآباء إلى أبنائهم، ولكن قليلاً ما يدعو الأبناء إلى آبائهم. . .
- عندما يأكل الإنسان قليلاً ما يقول: إني آكل، وعندما ينام فإنه لا يقول إني أنام، والأبناء يدعون لآبائهم، ولا يقولون إنا ندعو، وهم جديرون بهذا الدعاء وهو جدير بهم لأن أباهم هو عائلهم ولأنهم يأكلون من فيض يديه. قد لا يعرف الأبناء شيئاً من هذا كله، ولكن هذا هو الواقع، والدليل عليه أن الآباء يجاهدون الدنيا أكثر من غيرهم، ويقوون عليها أكثر من غيرهم، ويصبرون على مصاعبها أكثر من غيرهم. . . وإن هذا لا يحدث إلا لأن دعوات الأبناء صادقة. وقد كان القدماء يستكثرون من النسل ليستكثروا من الرزق، لأنهم كانوا أقرب إلى الطبيعة منا، وكان الواحد منهم إذا رزق مولوداً جديداً أحس بأنه رزق قوة جديدة إلى جانب قوته، وكان الواحد منهم إذا شاخ وضعفت شحنته الكهربائية أرتكن على أبنائه يمدهم بالدعوات الصالحات
- وهل كانت هذه الدعوات تفيد. . . وعلى الخصوص إذا اعتبرنا الشيخ شحنة كهربائية ضعيفة؟
- ما من شك في أنها كانت تفيد، فالشيخ كان قبل ذلك قد صقل أبناءه، وقد علمهم طريق الرشاد، ونكبهم طريق البغي، ودلهم على موطن السعادة، ودلهم على موطن الشقاء، فدعاؤه لأبنه بالسلامة إنما هو تذكير له بطريقها وتوجيه له إليه، زيدي على ذلك أن شحنة الشيخ إذا كانت قد ضعفت في مظهرها البدني فإنها تقوى في باطنها المعنوي، وإذا كان الفلاسفة يعترفون للشيخوخة بالحكمة فإننا لا نستطيع أن ننكر عليهم الصفاء والنفاذ إلى الحقائق، فهم يرتدون إلى الحياة كالأطفال طهارة ونقاء ماداموا قد قضوا حياتهم على الحق، ولكنهم يختلفون عن الأطفال في شي وهو أنهم اجتازوا الشطر الأكبر من هذه الحياة فوقفوا على سرها
- وما سر الحياة؟
- انتظريني حتى أشيخ فأعلمه، أو فاسألي شيخاً ممن يعلمون. . . أو فانظري إلى شيخ من الطيبين كيف يعيش وأعلمي أنه يستغل هذا السر ويعيش عليه
- وأين أجد هذا الشيخ الطيب؟
- تجدينه في الريف، وتجدينه في الصحراء، وتجدينه في كل مكان لم تنطبق عليه الحضارة ببراثنها ومخالبها، تجدينه يأكل ويشرب وينام، ويعاشر الأطفال، ويدعو إلى الناس ويتلقى من الناس الدعوات. . . ويصلى لربه ويطلب من الله أن يصلي عليه
- ولماذا يعاشر الشيوخ الأطفال؟
- لأن الشيوخ والأطفال متفقون على معنى واحد للحياة والناس فيما بين الطفولة والشيخوخة يبحثون للحياة عن معاني أخرى.
- وما معنى الحياة عند الشيوخ والأطفال؟
- هو الاستغراق التام فيها، والاستمتاع التام بما فيها
- وعلام تقوم العشرة بين الشيوخ والأطفال؟
- على هذا، ومظهر هذه العشرة الفنون. فالشيخ يجمع حوله الأطفال ويقص عليهم القصص، والقصص فن، ويغنى لهم ويغنون معه والغناء فن، وقد يستخف الشيخ مع الأطفال فيرقص والرقص فن، وقد يمثل لهم المركب ويركبونه والتمثيل فن. . . فهو إمامهم في كل فن، وهم يتبعونه لأنهم يشعرون به يحب هذه الأفاعيل أكثر مما يحب غيرها، ولأنهم هم أنفسهم يحبونها سعداء وهو سعيد. . .
- وكل من هو مثلهم سعيد؟ أليس كذلك؟
- من غير شك
- إذن فالسعادة عندك أن تنقلب الدنيا إلى مسرح لاشيء فيه إلا الغناء والرقص والشعر وما إلى ذلك من اللغو!
- كانت الإنسانية في طفولتها هكذا كما تقولين مسرحاً لا شيء فيه إلا الغناء والرقص والشعر وما إلى ذلك من السعادة الحق، وهي اليوم كادت أن تصل إلى شيخوختها فترتد بعد ذلك إلى هذا الذي ترينه لغواً. وآية ذلك أن الناس اليوم متضجرون من الحياة، وأن حوادث الانتحار تكاثرت بينما القدماء لم يكونوا يعرفون الانتحار لأن أحداً منهم لم يكره الدنيا كراهية تحمله على الاقتناع بوجوب مغادرتها
- ألا يمكن أن تكون سعادة إلا في هذا الفن أو هذا الهوس. . . ألست ترى في العلم سعادة؟
- وأي شيء حقق العلم للإنسان أكثر مما حقق الحس للحيوان. . .؟ اللهم إلا أن هذا العلم عطل عند الناس الإحساس، فكسبوا شيئاً وخسروا شيئاً وكان حقهم أن يكسبوا الاثنين. وسيكسبون الاثنين في اليوم الذي يقنعون فيه من العلم بلذة العلم ولا يسخرونه فيما لم يجعل العلم له. . .
- ولماذا تريد أن تحرم عليهم الإفادة من العلم إذا كانت هذه الإفادة ممكنة؟. . .
- هي ممكنة، أنا لا أنكر ذلك، ولكنها ضارة. . . أنها كالدغدغة إذا قصد بها التفريح، بينما التفريح لا يكون إلا من عوامل نفسية. . . إن الضحك المنبعث من الدغدغة ليس ضحكاً وإنما هو رعشات عصبية
- وأنت تريد النكتة الطبيعية لتضحك منها.
- لست أدرى إذا كانت النكتة الطبيعية تضحك أم تبكي ولكني على أي حال أطلب من الله أن يقيني الغم وإياك.
- آمين. . .
- انظري، إنك نطقت (آمين) هذه بصدق، ولعل ذلك لأني شملتك بدعائي. . . إنها أنانية منك وحب لذاتك ولكنه على أي حال صدق، والصدق خير من الفراغ، والفراغ خير من الكذب. . . والآن هات منك دعاء صالحاً، ثم انطلق معي نغني كالأطفال والشيوخ. . .
عزيز احمد فهمي