الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 342/الأدب في أسبُوع

مجلة الرسالة/العدد 342/الأدب في أسبُوع

بتاريخ: 22 - 01 - 1940


التقليد

لم أكد أفرغ من قراءة ما تيسر لي أن أقرأه في هذا اليوم وما قبله حتى

عاودني الفكر في أصول ما قرأت من كلام الكتّاب والشعراء، ووقفت

أستعيد في نفسي تلك التيارات الكثيرة التي تموج بنفوسهم من تحت

اللفظ والعبارة والمعنى والغرض. ولقد ظننت - حين أقدمت على قبول

كتابة هذا الباب من الرسالة - أن أنبعاثي للكتابة وطول ممارستي

لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فان

أكثر ما حملت نفسي على قراءاته يكاد يؤرّث النار كلما خبت، ويعيدها

جذعة كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة

والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح

مصيرُه وعقباه.

إن أصحاب هذا اللسان العربي والناطقين به قد أصابتهم في عصور متتابعة مصائب الجهل والغفلة والضعف فتحطمت عروش الدولة في بلادهم كلها وعدا عليها كل عاد من ذؤبان الأمم فاستذلوهم وأخذوهم وفتكوا بهم وقضقضوا أوصالهم بالعنف والاستبداد تارة، وبالرفق والسياسة المتدجِّية، تارة أخرى. ثم جاءت أيام بعثت من تحت الليل جمرات تفرقت ثم اجتمعت ثم استطار شرارها فرمى في كل هامدة بعض الحياة، وكذلك ثارت أحلام النائمين بتحاسينها وتخاريخها وفنونها فانتفضوا يطلبون تحقيق أنوار لياليهم في سواد أيامهم، ولكنهم قاموا وهبوا على غير نظام ولا تدبير ولا تعبئة فانتشرت القوى الجديدة وتمزقت، فضعفت وأخفقت، ولم يكن منها ما كان يرجى لها من الغلبة والظفر والسيادة، وبقى الضعف في هذه الأمم العربية وهو عمادها وعماد أعمالها في عصر من القوة الأوربية الطاغية يمتد ويتراحب وينساح في الأرض كلها متدافعاً متدفقاً لا يقف ولا يفتر

ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقيد - تقليد القوى - أشد من انبعاثه لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة. والضعف يجعل محاكاة القوى أصلاً في كل أعماله. فلما فسدت قيادة أصحاب الرأي عند هذه الأمم الضعيفة، وكان لابد للمستيقظ من أن يعمل، كان عمل الأفراد متفرقين منسحباً على أصلين: ضعفٌ أورثهم إياه ضياع كيان الدولة السياسي، وضعف كرثهم به تفرُّق القيادة وشتات الأغراض، فلا جرم أن يكون كل عمل موسوماً بسمة من ضعف مظاهر بضعف صاحبه، ولا جرم أن يكون أعظم أعمالنا هو تقليد الناس على الهوى والجهل والدهشة المتصرفة بغير عقل

هذا كل شي تحت أعيننا وبأيدينا: بيوتنا، مدارسنا، بناؤنا، رجالنا، نساؤنا، علمنا، أدبنا، فننا، أخلاقنا. . . كل ذلك على الجملة والتفصيل قد وُسم بميسم الضعف والتفرق وانعدام التشاكل بين أجزائه التي يتكون من مجموعها معنى الأمة، وكلها تقليد قد تفرقت في جمعه أهواء أصحابه من هنا وهنا. والتقليد بطبيعته لا يتناول من الأشياء إلا ظاهرها، فكل مآخذنا من أجل ذلك ليست إلا مظهراً

هذه المرأة - هي فن الحياة الذي يشتهي أبداً أن يبدع حتى في الأذى - ما تكادُ ترَاها عِندَنا إلا دُمْيَة ملّفقةً من الحضارات وبدعها. . . ثيابها، زينتها، حليها، تطريتها، شعرها، تطر يف بنانها، مشيتها، منطقها. . . كل ذلك أجنبي عنها متكلف منتزع من مظاهر غانيات باريس وعابثات هوليوود، ليس له من جنسها ولا أصلها شبْه تنزع إليه، وأسمجه أنه ملفق لا يتشاكل تشاكل المصدر الذي اجتاب منه بالتقليد

وهذا الكتاب وهذا الشاعر - وهما فن الحياة الذي يعمل أبداً في تجديد معانيها بالتأثير والبيان - لا تجد فيما يكتب أكثرهم إلا المعاني التي نقلت من مكانها بالاعتناف والقسر فوضعت في جو غير جوها فاختنقت فمات ما كان حيا من بيانها في الأصل الذي انتزعت منه

وهكذا. . . هكذا كل شيء تأخذه العين أو يناله الفكر، إنما هو دعوى ملفقة وتقليد مستجلبٌ وبلاءٌ من البلاء. ولا نزال مقلدين حتى يستطيع الأحرار - وهم قلة مشردة ضائعة - أن يبسطوا سلطانهم على الحياة الاجتماعية كلها، ويرد إلى الأحياء بعض القلق الروحي العنيف الذي يدفع الحي إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته، والحرص على تجديد المواريث التي تلقاها من تاريخه، ويغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف المقلد، فعندئذ ينتزع من الحضارة الأسباب التي تنشأ بقوتها الحضارات، ولا يكون موقفه منها موقف المسكين الذليل المطرود من المائدة. . . ينتظر وفي عينيه الجوع ليتقحم من فتاتها

صورة النفس

عرضت لي مقالة في مجلة الثقافة عدد (54) عنوانها (الأدب صورة النفس) كتبها الأستاذ (محمد مندور)، وقد استوقفني عنوانها قبل أن أقرأها، لأن هذه هي الحقيقة التي نقولها ولا نصل فيها إلى حق. وقد تغاوى النقاد عليها ومع ذلك فما نظفر من أقوالهم إلا بالمبهم بعد المُبهم، ولا نجد لأكثرهم شرحاً لها يفي بمدلولها أو بسرها أو يزيل الإبهام عن مسالكها. . . يقول الأستاذ: (وإذن، فالآثار الأدبية والفنية تطلعنا بغير تحفظ على أسرار واضعيها النفسية بأسلوبها الخاص. . . ونحن نقصد بذلك إلى البحث عن نفس الكاتب والشاعر في تضاعيف ما يكتب. . . وعمل الناقد إذن عمل كشف عن أسرار لا تقع تحت البصر لأول نظرة، وسبيله ذلك لا يمكن أن يكون إلا حساً باطنياً ترهفه التجارب والمعرفة الطويلة بمختلف النفوس. . .)؛ وكل هذا جيد من القول، وهو كالشرح على عنوان المقالة. ولكني رأيت الأستاذ ينظر في آثار أدبية لأستاذين جيلين هما: أحمد أمين وطه حسين، وشرع يتكلم عن بعض آثارهما. تكلم عن مقال (في فيض الخاطر) وهو (صديق) فإذا كل الذي قاله وصف يمكن أن يقع على كل كلام، فيقول (سترى كيف حطم الأستاذ هذا الصديق، فرده إلى عوامله الأولية؟ وقد تقاصرت جمله متجاوبة كأنها ذرات مادية نتجت عن هذا التحليل). . . والنتيجة! والنتيجة أن الأستاذ أحمد أمين أو أسلوبه أسلوب تحليلي، وفيه قوة مخيفة! والأستاذ طموح متقلقل في شتى السبل، لأنه كتب عن الشمس وعن الليل، يستقري ما يجوب في ظلام الليل، وما تغدقه الشمس؛ ولا يصف جمالها أو وحشته! وهكذا، ولا أدري كيف أستخرج شيئاً من كل الذي كتبه يدل على الذي أراده مما نقلناه آنفاً؟ ولا كيف عمل هو في الوصول إلى هذه الأحكام التي دمغ بها الآثار الأدبية وأصحابها؟ ولا كيف كان عمله في التحليل النفسي الذي أحس به إحساساً باطنياً!!

إنه لابد لمن يتناول مثل هذا الموضوع أن يفصل القول، فلا يجمله، لأنه بلا شك موضوع جليل، والكلام فيه سلوك في مجهل غامض يحمل على الإبانة والإيضاح، وإلا كان الكلام فيه على هذا تقصيراً لا ينفع، ويكون أنفع منه أن يترجم لنا الأستاذ كلام النقاد الأوربيين الذين مارسوا هذا العمل وأفرغوا له أوقاتهم واستوعبوا الأصول التي يسار عليها في معالجته، وكذلك تتم خدمته للأدب والأدباء. . .

أبو العباس السفاح

كنت أحب أن أستوعب في هذا التعليق كل الرأي الذي عرض لي في أمر أبي العباس السفاح أمير المؤمنين، ولكني رأيته قد خرج عن أن يكون من مادة هذا الباب، فلذلك اقتصرت على أشياء أرجو أن تعين الأستاذ العبادي في تحقيقه الذي بدأه، وعسى أن يكون في هذا القول بعض الصواب الذي يسعى إليه.

فمن ذلك أن أبا العباس السفاح، وأبا جعفر المنصور أخوان وليا الخلافة العباسية لأول أمرها؛ وكان أبو العباس أصغر من المنصور بعشر سنين، وأن اسم أبي العباس وأبي جعفر في نسبهما هو (عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس)، فأبو العباس هو (عبد الله الأصغر)، وأبو جعفر هو (عبد الله الأكبر). فإذا كان ذلك كذلك، وأبو جعفر قد لقب بالمنصور وأن الذي لقبه بذلك أبوه فيما نعلم، فلا غرو أن يكون أبو العباس كذلك ملقباً، وأن يكون أبوه قد لقبه كما لقب أخاه

وإذا كان أبو العباس (عبد الله) هو الأصغر فالتلقيب هو أولى به للتفريق بينه وبين أخيه أبي جعفر (عبد الله) وهو الأكبر الذي ولد أولاً وسمى (عبد الله) من قبله. ويؤكد أمر هذا التلقيب صيرورته بعد في خلفاء بني العباس جميعاً إلى انقضاء دولتهم، فكأنه كان من (تقاليدهم) وتعاليمهم

وأيضاً فإنه قد وردَ في الحديث عن أبي سعيد الخدْريّ عن رسول الله ﷺ قال: (يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له (السفاح) يكون عطاؤه للمال حَثْياً)، وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، وإنما هو نبوءة كبقية النبوءات التي وردتْ في القرآن الكريم والحديث النبوي لا يدري تأويلها إلا أن تكون. . .؛ ولكن الدعوة العباسية فيما يظهر قد جمعتْ بين هذا الحديث وأحاديث أُخر هي من باب النبوءات أيضاً وجعلت منها حديثاً اتخذته في الدعوة إلى إقامة الخلافة في بني العباس، فكانوا يروون للناس عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: (والله لو لم يبق من الدنيا ألا يوم لأدال الله من بني أمية. ليكون منا السفاح والمنصور والمهدي)، وهم الخلفاء العباسيون الثلاثة على التتابع. ولاشك في أن هذا كان قبل قيام الدعوة بالفتح بزمن طويل. فلعل الأمام (محمد بن على) قد لقبَّ ولديه بهذين اللقبين تفرقه بينهما، وتفاؤلاً بالذي يروون في أحاديث الدعوة العباسية

وإذا كان ذلك كذلك فمعنى اللقب أذن ليس من (سفح الدم) - وهو بهذا المعنى مجاز مقصورٌ لغرض بعينه - ولكنه من الكرم والعطاء والبذل كما ورد في الحديث الذي سقناه آنفاً من أن (عطاء السفاح للمال حثْياً) لأنه لا يصح في العقل أن يلقب أحد ولده بهذا المذمة القبيحة وهو ينصبه للناس خليفة، وقد لقب أخوه من قبل بالمنصور. نعم قد سمت العرب في جاهليتها بالأسماء المنكرة، ولكن الإسلام جاء فحسم ذلك كله، ولم يبق من التلقيب والتسمية بالمنكر من الألفاظ شيء في أكثر البادية العربية، فكيف في الحضر ثم في أعظم بيوت الحضر، وهو بيت العباس؟ وقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة فهو قد غير أسماء كثير من الوافدين عليه من أصحابه (كزحم بن معبد) فسماه بشيراً، وجميلة امرأة عمر بن الخطاب وكان أسمها (عاصية) وخلق كثير

وعلى هذا الأصل نرى أن الناس في صدر الإسلام سموا (بالسفاح) فمنهم: السفاح بن مطر الشيباني، وهو ممن ولد في النصف الثاني من المائة الأولى للهجرة وكان من أصحاب الحديث؛ والسفاح أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن الزبيدي لأمه وهو من التابعين، وقد روى عن أبي هريرة وغيرهما. ولاشك أن التسمية هنا منصرفة إلى المدح لا إلى الذم؛ فصفة أبي العباس السفاح هي إلى العطاء والكرم كما ذهب الأستاذ العبادي أولاً، ثم رجع عنه حين تعقبه الأستاذ أحمد أمين

أما النص الذي نقله الأستاذ عن اليعقوبي من أنه قال: (عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح)، وهو عم أبي العباس والمنصور، فإن أصله من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد على بن عبد الله بن عباس فقال: (عبد الله على الأكبر. . . وعبد الله بن على الأصغر السفاح الذي خرج بالشام)، فهذا هو الأصل ولا يرى فيه إرادة التلقيب كالذي يرى من نص اليعقوبي، وإنما هي صفة كالسفاك والقتال. نعم، وأنا لا أدري كيف ادعي الأستاذ العبادي أنه اشتهر بذلك فانتقلت هذه الصفة إلى أبى العباس أمير المؤمنين، فإن الطبري وأئمة المؤرخين قد ذكروا عبد الله ابن علي عم أبي العباس وأبي جعفر في أكثر من خمسين موضعاً ولم يلقبه أحدهم بهذا اللقب، فكيف يمكن أن ندعى أنه اشتهر به حتى كان من جراء هذه الشهرة أن اختلط على الناس وعلى الأدباء وعلى فلان وفلان كالجاحظ وابن قتيبة فوضعوا صفة (عبد الله ابن علىّ) صفة (لعبد الله بن محمد) على قرب العهد. وكيف جاز أن يقع في ذلك الجاحظ في روايته، وهو أدق العلماء رواية، وهو الذي يردأ كثر رواية ابن الهيثم وابن الكلبي وغيرهما من أصحاب الأخبار؟ وخبره الذي رواه وذكر فيه السفاح في البيان والتبيين ج1 ص 93 أخبره به (إبراهيم بن السندي) وقد قال فيه ج1 ص326 (وكان إبراهيم بن السندي يحدثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كتب الهيثم بن عدوى وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلف المزور، وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم، وأما إبراهيم فإنه كان رجلاً لا نظير له. . . وكان. . . وكان. . . من رؤساء المتكلمين وعالماً برجال الدعوة وكان أحفظ الناس لما سمع وأقلهم نوماً وأصبرهم على السهر

فرواية الجاحظ فيما نرى أقوم من رواية غيره، وهي دليل على صحة الصفة التي وصف أبو العباس أمير المؤمنين؛ والجاحظ قد أدرك صدر الدولة العباسية، ولم يكن بين مولده ووفاة أبي العباس السفاح كبير دهر حتى يكون ممن يختلط علية الحق في مثل هذا الأمر، وبخاصة وهو يروي ما يروي عن الثقات في معرفة أخبار رجال الدولة

أما سكوت الطبري وغيره - من متأخري المؤرخين عن صدر الدولة العباسية - فليس يعد دليلاً على بطلان هذا اللقب. وإن دل على شيء فربما دل على أنهم جانبوه وتباعدوا عنه وتركوه لما كان قد انتشر في عصرهم من معنى السفاح على أنه السفاك للدماء، وخفاء معنى هذا اللفظ الأول وهو الكريم الباذل الفياض الذي يكون عطاؤه للمال حثياً

هذه كلمةٌ صغيرة إلى للأستاذ العباديّ أرجو أن أكون قد بلغت بها بعض رضاه في التعقيب على رأيه الذي انتهى إليه ووقف عنده. ولعله يعود إلى الذي كتبه فإن له بالعلم بصيرة نافذة مسددة أن شاء الله.

محمود محمد شاكر