مجلة الرسالة/العدد 342/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 342 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
القَصصُ ← |
بتاريخ: 22 - 01 - 1940 |
أرقام تتحدث
صدى عمل جان بيران
للدكتور محمد محمود غالي
عود إلى قصة الذرات - يتعلق قدر الحقائق بالفروض والخطأ التجريبي - على م استند في أعماله - قوانين الحرارة والضغط - عدد أفوجادرو - ملاحظة لابلاس.
يعود بنا البحث إلى قصة الذرات وأسطورة الإلكترونات فمهمتنا مع القارئ أن نتابع استعراض هذه الحلقة من حلقات المعرفة واستجلاء الخطير من مراحلها. وليس في طوقنا أن نهمل عمل جان بيران في هذا الشأن، أو نتغاضى عن الدور الحاسم الذي قام به هو ومن حوله من باحثين في التعرف على الذرة والتقرب من الألكترون.
وقد تناولنا أعمال مليكان وشرحنا أثره التجريبي في ثلاث مقالات: الأولى (أندروزمليكان والألكترون) والثانية والثالثة (أرقام تتحدث) وهو العنوان ذاته الذي آثرنا اختياره اليوم لذلك العمل التجريبي المجيد الذي قام به بيران وتلاميذه، فقد تحدثت الأرقام لهم كما تحدثت لمليكان، وكان على بيران أن ينقل هذا الحديث إلى الناس، فنقله شائقاً عذباً للعلماء والباحثين في العهد ذاته الذي نشر فيه مليكان أبحاثه في سنة 1907 وما تبعها من سنين، هذه التجارب وما أدت إليه من نتائج ظلت منذ ذلك الوقت محل تقدير الباحثين وأعضاء المجامع العلمية، وقد ظهر هذا التقدير في صورة جلية عندما قرر المجتمع السويدي منح بيران جائزة نوبل للطبيعة في سنة 1929
لَأن يصل أحد الأفراد من طريق معينة إلى إثبات حقيقة في الوجود، وأَن يكون فيما اختطه من طريق تجريبي ما يقوم دليلاً على ما ذهب إليه_أمر له قيمته. ولكن يظل قدر هذه الحقيقة مرتبطاً بعدد الفروض التي اتخذها الفرد مبدئياً للوصول إلى غايته، ويظل مبلغ النتائج التي وصل إليها من الحقيقة مرتبطاً كذلك بقدر الخطأ المحتمل في العناصر المختلفة في طريقه التجريبي، ويظل الأمر عند العلماء الذين يحكمون على درجة قرب النتائج من الحقيقة مرتبطاً بهاتين تين المسألتين: الأولى صحة الفروض، والثانية مبلغ الخطأ التجريبي. وعلى قدر ما يوجهه الباحثون من نقد جدي في كل هذا، تدخل التجربة ونتائجها بين الحقائق العلمية التي تأخذ مكانها بين ما يُسجل في الميراث العلمي المتداول على كر العصور.
أما أن يكون بعد ذلك للتجارب ذاتها أثر في التقدم واقتراب من حقائق الوجود ومعرفة لقوانين الكون، فهذا أمر آخر يرفع التجربة إلى مصاف الموضوعات الكبرى التي تتصل اتصالاً وثيقاً بحلقة المعرفة، ويرفع الفردَ المجهول إلى مصاف العلماء الذين يعرفهم التاريخ، وتدخل النتائج بين أرقى أنواع المِلكية لمجموعة الإنسان المفكر الذي يعمل على تقدمه على ممر الأجيال ولقد كان عمل بيران وأتباعه من الأعمال التجريبية الكبرى التي ارتفعت في تاريخ العلوم إلى مثل هذه الذروة، وكان بيران من الباحثين الذين وضعهم التاريخ بين العلماء البارزين
إنما يُستدل على هذا من أعماله التي فرغنا من مراجعتها بالأمس، سواء ما نشر منها بالمجمع العلمي الفرنسي أو ما ظهر منها في مؤلفاته، ولم يعتوريني ملل عند مطالعة هذه الأعمال مرة أخرى؛ فقد كنت طالعتها منذ سنين، وكنت أطالعها في شوق ورغبة هذه المرة. والواقع أنه عندما انتهيت من هذه المطالعة الأخيرة وقعت في نوع من الحيرة فيما أقدمه للقارئ منها لأن العمل متسع وجليل، بل ويلزم لاستيعابه مقدمات علمية لأنه مرتبط باكتشافات أخرى سابقة بعضها معروف للقارئ وبعضها قد يكون غير معروف
وهي اكتشافات عاونت جان بيران ليقوم بعمله الجليل الذي توصل فيه كما قدمنا في مقالات سابقة بطريقة مختلفة ولكنها وثيقة، إلى قياس قدرة الذرة وبالتالي إلى استنتاج قدر الإلكترون. هذه الاكتشافات السابقة لأعمال بيران التي تكون الحلقة الأولى فيما وصل إليه من معرفة نتعرض لها في هذه الأسطر ونلخصها في ثلاث خطوات رئيسية: الأولى خاصة بقوانين بويل وجاي ليساك للغازات، والثانية خاصة بما يسمونه فرض أفوجادرو، والثالثة دراسة (لابلاس) لتوزيع الضغط في طبقات الجو
ونعود بذاكرة القارئ إلى الخطوة الأولى، فنعود إلى قوانين يعرفها كل من جلس على مقعد في المدرسة، أولها قانون سنة 1660 وماريوت سنة 1675 الخاص بالغازات الذي يتلخص في أن كثافة الغاز تتناسب مع ضغطه وثانيها قانون جاي ليساك الذي بين بصورة جلية في سنة 1810 أنه في الضغط الثابت تتناسب كثافة الغاز مع حرارته بطريقة لا تتعلق بطبيعة الغاز في ذاته
ويتلخص القانون أن حاصل حجم الغاز في الضغط يساوي ثابتاً يسمى ثابت الغازات مضروباً في الحرارة المطلقة
إنما نريد ألا يغرب عن ذهن القارئ أن الغازات هي مجموعة لجزيئات حرة، وبهذا يعتبر أن الكثافة تمثل في الواقع عدد الجزيئات، بمعنى أن زيادة الكثافة في غاز معين تحت تأثير الضغط هو اقتراب جزيئاته بعضها من بعض أي هو زيادة في عدد ما هو موجود منها في الحجم الواحد
أما عن الخطوة الثانية فهي خاصة بما يسمونه فرض أفوجادرو وهو الفرض الشهير الذي فرضه العالم الكبير أفوجادرو عند دراسته لقانون جاي ليساك المومأ إليه، فقد نبَّه العلماء في سنة 1811 إلى حقيقة جديدة، ظلت منذ ذلك العهد من أعجب ما دخل على الميراث العلمي. ذلك أن الأحجام المتساوية من الغازات المختلفة تحوي، مهما اختلف نوعها، عدداً واحداً من الجزيئات، مادامت هذه الغازات واقعة تحت ضغط واحد وحرارة واحدة
إنما نود أن ينعم القارئ النظر قليلاً في هذه النتيجة التي أرسلها أفوجادرو للعالم أجمع والتي تُعد في نظري كلما تأملت فيها من أروع ما وصل إليه الإنسان الباحث المفكر، ففيها نوع من الاتفاق الجدي بين عناصر الوجود المختلفة التي شاءت ألا توجد إلا على صورة واضحة هي أبسط الصور
وكأني بهذه العوالم المختلفة شكلا ووزناً وكثافة وطبيعة لا تستطع أن توجد في المكان الواحد ذي الحجم والضغط والحرارة الواحدة إلا بعدد واحد لا يتغير، عدد يمتد في سر وجوده إلى طبيعة الكون الذي فيه نحيا ونموت
إنما ننوه بمبلغ الجمال فيما وصل إليه أفوجادرو، ونقف ملياً إزاء هذا العدد العجيب الذي كان له أثر علمي ظاهر في أعمال بيران التي استأنفها بعد نحو مائة عام من ملاحظة أفوجادرو السابقة. وسيرى القارئ أن بيران قد عَيّن هذا العدد بالذات من طريق يبتعد كل البعد عن قصة الغازات؛ وكان من تعيين هذا العدد أن عرف قدر الذرة بل قدر الألكترون، وكان ذلك بطريقة تجريبية أهم ما يُقال فيها أنها لم تستند في جوهرها إلى الاعتبارات النظرية التي قد تقبل الخطأ بل إنما استندت إلى أعمال تجريبية تصل بنا في معرفة هذه الأقدار إلى درجة اليقين
أما الخطوة الثالثة فخاصة بدراسة قام بها (لابلاس) لمعرفة الكيفية التي يختلف بها الضغط الجوي كلما صعدنا بعيداً عن الأرض. كلنا يعرف أنه كلما ارتفعنا إلى أعلى قلَّ الضغط الجوي بحيث أن عاموداً رأسياً من الهواء يختلف الضغط فيه من نقطة إلى أخرى طوال هذا العامود. وقد توصل لابلاس إلى معرفة القانون الذي يتغير بمقتضاه هذا الضغط، وكان ذلك من طريق رياضية بسيطة يستطيع كل مبتدئ اليوم في العلوم الرياضية أن يقوم بما قام به (لابلاس) من حساب رياضي بسيط، وهذا القانون هو معادلة تجد في أحد طرفيها الضغط الجوي عند مكان معين، وتجد في الطرف الثاني الضغط عند مكان يرتفع عن المكان الأول وكتلة الغاز والارتفاع الواقع بين المكانين كما تجد الحرارة المطلقة للغاز وثابت الغازات الذي أسلفنا ذكره والذي كان نتيجة لقوانين بويل وجاي ليساك. ويمثل قانون لابلاس في الواقع توزيعاً رياضياً خاصاً ومن نتائجه مثلا أن الضغط الجوي ينقص إلى النصف عندما يرتفع الإنسان حوالي 6 كيلومتر وذلك في الحرارة العادية. ولو أن الهواء كله من الأوكسجين لحدث هذا النقص عندما يرتفع الإنسان حوالي نصف الكيلومتر
هذه هي المسائل الكبرى الثلاث التي استند إليها (جان بيران) ليصل إلى غرضه العلمي عندما استطاع كما سنذكر للقارئ فيما بعد أن يعين قدر الذرة وان يتحقق من قدر وحقيقة الإلكترون.
إنما أود أن اجتزئ في هذا المقال بهذا القدر في إيراد المقدمات التي كانت لازمة لمعرفة حقائق هذه الأسطورة الذرية، على ألا يفوتنا أن نأتي على عمل بيران الإيجابي في المقال القادم.
وإن من العجاب أن يصل بيران إلى معرفة عدد (أفوجادرو) بالذات فيعرف عدد ما في حجم معين من غاز من الذرات الموجودة فيه
هذا العدد الذي يُجاوز كل خيال استطاع بيران، وباللجوء إلى طريق تجريبي جديد، وإلى المسائل الأساسية الثلاثة التي ذكرناها، أن يصل إلى معرفته، وان يصل إلى ذلك من طريق لم يستعن فيه بالغازات للوصول إلى معرفة أهم ما نعرفه لها اليوم من خواص وسيرى القارئ كيف عاونت الحقائق السابقة بيران للوصول إلى مسألة من أعظم ما نعرفه اليوم في العلوم، وكيف استطاع بيران من دراسة معينة قام بها البرت أينشتاين خاصة بالحركة البروانية أن يوسع دائرة بحثه وان يهتدي لا إلى معرفة عدد افوجادرو فحسب بل إلى التحقق من نتائج ذرية وألكترونية أخرى غاية في الأهمية
ولو أن هذا العالم الذي مازال رغم تقدم السن يقوم بأعمال البحث، لم يقم طوال حياته إلا بهذا التعيين لكفى أن يرتفع إلى سجل العلماء المجددين الذين قاموا للإنسان بأجل الخدمات.
(يتبع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانه