الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 342/الأدب في سير أعلام

مجلة الرسالة/العدد 342/الأدب في سير أعلام

بتاريخ: 22 - 01 - 1940


بيرون

ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى

الموت في سبيل الحرية

للأستاذ محمود الخفيف

أقام الصبي في نوتنجهام ووكلت به أمه أستاذاً يعلمه اللاتينية وأحبه أستاذه حباً عظيماً وأعجب بذكائه الفائق، ودهش لكثرة ما قرأ من الكتب؛ وفي تلك المدينة أسلمته أمه إلى رجل ادعى أنه قادر على أن يزيل عاهته وكم كان يتألم الصبي حين كان يدلك ذلك الرجل رجله بالزيت، ثم يلويها في عنف ويشد عليها الوثاق بين خشبتين، ولكن كبرياءه كانت تأبى عليه أن يظهر الألم على ما كان من هوله وعدم جدواه. . . ولقد كان ذلك الرجل الفظ يرسله أحياناً إلى بعض الحوانيت ليشتري له ما يريد كأنه خادمه، والناس يعجبون ويألمون أن يعامل اللورد الجميل هذه المعاملة. . . وكان الصبي ينتقم من طبيبه بكثير من معاكساته، ومنها أن يسأله أسئلة تظهر له جهله فيسخر منه ويطلق لسانه بالتهكم عليه

واستطاعت أمه أن تحصل له من ميراثه مؤقتاً على ثلاثمائة جنية تدفع له كل عام حتى يبيح له القانون أخذ نصيبه كله. وأخذا يحسان اليسر في معيشتهما، ولكن أمه ظلت على حالها من الشذوذ فهي لا تني تكيل له الشتائم وكثيراً ما تطارده تريد أن تضربه فلا تدركه على الرغم من عرجه، ولقد علمه هذا أن يصيبها ببعض تهكماته وأن يناوئها بعناده وتمرده

وهكذا تظهر الظروف خلاله في هذه السن الباكرة، فهو عنيد متمرد ذو كبرياء، وهو متوقد العاطفة مشبوب الخيال، وهو بارع الكلمة حاضر البديهة، ولسوف تكون هذه في غد خواص شعره يوم يحمل أنصاره وخصومه جميعاً على الإعجاب بذلك الشعر

وأدخلته أمه مدرسة في لندن وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت تزوره هناك أحياناً فيبدو للناس من شذوذها ما يخجل اللورد المتكبر منه، وكم كان يضيق بخلانه إذ يعيرونه بحماقة أمه، فيحاربهم تارة ويعرض عنهم تارة أخرى. . . ولقد كان وهو في تلك السن يحمل في جيبه أينما سار مسدساً محشواً، كأنما كان يستعيض به عما لحقه من ض بسبب عرجه. . . على أن لا يستبعد أن يكون ذلك بعض ما تطرق إليه من شذوذ بسبب ما سمع من الأقاصيص عن اللورد التعس فلقد كان الصبي يبدى إعجابه بما كان يقص عليه الخدم من أنبائه في قصر نيوستر

ونقل الصبي وهو في الثالثة عشرة إلى مدرسة تليق به، وكانت من أكثر المدارس شهرة يومئذ، وهي مدرسة هارو؛ وكان يقوم عليها أحد ذوي المكانة من المربين، وسرعان ما فطن ذلك المربي إلى صفات التلميذ الجديد، فلمح عناده وكبرياءه، ولذلك عول على اكتسابه باللين، فنجح في ذلك نجاحاً كبيراً، وأحب التلميذ ناظره واطمأن إلى عدالته، ولعل هذا الشخص الوحيد الذي خضع له بيرون في حياته كلها. . .

وهالت المدرسين والتلاميذ جرأته من أول الأمر، فهو يخرج على ما يحد من حريته، وهو يذهب في ذلك إلى أن يعلن إعجابه ببونابرت، بل أنه ليحمل صوراً له وتمثالاً صغيراً، وهو لا يفتأ يتحدث عن الثورة في فرنسا وما تدعو إليه من حرية، ولو كان على رأس تلك المدرسة رجل غير ناظرها هذا لما صبر على جرأة هذا التلميذ الثائر. وسرعان ما حمل التلاميذ على الإعجاب بخلاله، فهو جريء في الحق، يظهر من الشجاعة الأدبية في كل المواقف ما ينال به احترام الجميع، وهو لا يعرف الكذب ولا يطيق سماعه، وهو ولوع بالرياضة على الرغم من عاهته، وهو شديد الإخلاص لأصدقائه لا يبخل على أحد بشيء مهما عز، وهو مشتعل حماسة وإقداماً، وهو فصيح اللسان، أخاذ العبارة، ذكي الفؤاد؛ وهو فضلاً عن ذلك كله قد قرأ من الكتب ما لم يقرأ نصفه أحد ممن هم في سنه. هذا إلى إعتداده بنفسه وحرصه على كرامته وطموحه وبعد همته

لذلك لم يمض على بيرون عام في مدرسته حتى كان شخصية فذة فأحبه جميع أقرانه، واحترمه أساتذته، وأعجبوا به على الرغم من تمرد روحه وتكاسله أحياناً عن دروسه، وكان ذوو الصبائر منهم يتنبئون لذلك الغلام بمستقبل فذ وأثر في الأدب خطير

وكان قد ملك قلبه وهو في الثانية عشرة حب جديد فهام بابنة عم له أخرى هي مارجريت باركر، ولقد ذكر بيرون فيما بعد أن أول خطوة خطاها في الشعر كانت بوحي من هذه الفتاة التي كانت تكبره بعام، على أن يد الموت لم تلبث أن قصفت عودها اللدن وهي في الخامسة عشرة، فكان هذا أول حزن أرمض قلب الفتى واستقر في أعماقه حتى نهاية عمره وكان يراه التلاميذ في هارو يحمل كتاباً ويصعد التل القريب إلى مقبرة هناك فيضطجع على قبر تظلله شجرة ويظل يقرأ ويتأمل في ذلك المكان مدة قد تطول إلى ساعات؛ وكان مما ظهر من صفاته في الرابعة عشرة ميله إلى العزلة أحياناً، وذلك دأب ذوي النفوس الحالمة الحزينة، ولقد اشتهر فيما بعد أمر ذلك القبر الذي كان يضطجع عليه الشاعر، حتى لقد أحيط بسياج من الحديد بعد أن أصبح الشاعر في ذمة التاريخ، وذلك حين امتدت أيدي الزائرين لهذا المكان إلى أحجاره تحملها كأثر من أثار العبقرية على الرغم من أنهم كانوا يعلمون أن ذلك القبر لم يك قبر بيرون

وأتيح للفتى وهو في السادسة عشرة أن يذهب إلى قصره في نيوستد أثناء عطلة صيفية أجابة لدعوى وجهت إليه من مستأجر ذلك القصر، وكان هذا شاباً يدعى اللورد جراي، ولشد ما أبهج بيرون أن يرى ذلك القصر، وأن يرى تلك الشجرة التي غرسها هناك بيده وقد أخذت تترعرع وتكبر

وكان يقوم على مقربة من نيوستد قصر آخر في موضع اسمه أنسلي، وكانت تملكه أسرة سودرث وهم من ذوي قرباه، وكان بيرون يمتطي جواداً إلى ذلك القصر أحياناً، حيث كان يرى قريبته ماري سودرث وهي فتاة تكبره بعامين، وهي من سلالة ذلك الرجل الذي قتله اللورد التعس في مبارزته

وكانت ماري تحب فتى من أهل تلك الجهة على غير علم من بيرون. . . ولكنها رأت في نظرات بيرون مالا يخفى على عين فتاة في مثل هذه السن، والفتيات يفهمن بغريزتهن لغة العيون إذا ما استبهمت من الخجل لغة الكلام. . . ولقد هام بحبها ذلك الفتى المشبوب الخيال الملتهب العاطفة، واستأثرت بلبه الفتاة حتى ما يرى للوجود معنى غير معنى هيامه بها، ولا يتصور سعادة تقاس إلى سعادته بحبها؛ ولكن قلبها لم يك طوعها يومئذ، فلقد ربطة الحب بقلب غير ذلك القلب الفتي المتوثب، على أنها وجدت في هيام اللورد بها ضرباً من اللذة ومعنى من معاني الزهو فطاوعته وجاذبته أطراف الأحاديث، وجعلت لنومه حجرة في قصرها ليبيت هناك إذا شاء، وأهدت إليه صورة لها وخاتماً

وبات الفتى في فردوسه الجديد يستروح أنسام السعادة ويحلم أحلام الحب، إلى أن كان ذات ليلة من ليالي فردوسه في طريقه إلى مخدعه فسمع ماري تقول لخادمتها وقد حسبته قدر صار بحيث لا يسمع: (أتظنينني أعبأ حقاً بهذا الفتى الأعرج)؟ ونفذت الكلمات كالسهام إلى قلبه، ورأى جنته قد انقلبت جحيما في مثل خفقت الطرف، فخرج لتوه في الظلام وظل يعدو كالمجنون حتى بلغ نيوستد؛ فأوى إلى حجرته لاهثاً خائر البدن، وبقى شارد اللب ساهد الجفن حتى أصبح الصبح، فعاد إلى أنسلي ولكنه لم يطلع ماري على ما حدث. واستقرت اللوعة في قلبه فأخذ يخفيها مكابراً معانداً، يسفه ذلك القلب ويزجره وإن كان ليكاد ينفطر مما به؛ ولقد كان من أبرز خلاله أنه يطوي على الثورة نفسه فتظل الثورات كامنة فيه حتى تجد متنفساً لها، ولم بك ذلك المتنفس غير شعره. . . والحق لقد كانت هذه الإشارة إلى عاهته أوجع مما سبقها جميعاً وأشدها نيلاً من كبريائه. . .

وحان موعد الذهاب إلى المدرسة فلم يذهب على الرغم من إلحاح أمه عليه وقطعه العهد على نفسه بالذهاب مرة بعد أخرى. . . ثم نشب بينه وبين اللورد جراي شجار عنيف لسبب عقل الخجل الشديد لسانه عن أن يفضي به إلى أمه، ولقد التهب وجهه وهي تستفهمه عنه كأنما سرت في جسده حمى. . . وأخيراً عاد الفتى إلى المدرسة بعد فوات ثلاثة أشهر منذ بدأت الدراسة وقلبه مثقل بالهموم ونفسه منطوية على الثورة

وحاول بيرون أن يتعزى بأصدقائه عما ناله على يد ماري فأقبل عليهم يستزيدهم من أحاديثهم، فإذا مال بهم الحديث إلى الحب راح يسخر من الحب بكل ما في وسعه من معاني السخرية فما الحب في نظره إلا ضرب من الجنون ونوع من الضعف، وإن الوقت الذي ينفقه المرء في الهيام أضيع أوقات حياته وأتعسها. يقول ذلك وإن قلبه لينبض بالحب كأقوى وأوجع ما يكون الحب فيكون مثله في ذلك مثل من يشتد به الحزن لأمر من الأمور، فلا يزيد في دفع هذا الحزن على أن يضحك ويغرق في الضحك ويصيح بأعلى صوته إنه فرح مستبشر حتى إذا خلا إلى نفسه أحس بالجوى أشد لذعاً واقبح وقعاً مما كان عليه قبل هذا المرح المتكلف ولاذ بالكتب لعلها تسرى عن فؤاده، وراح يقرأ منها ما يسفه الحب ويفند أقوال المحبين ويسخر من دعواهم، ولقد كان يرجو من وراء ذلك أن يبرأ من دائه كما كان يرى فيه ما يتفق مع عناده وكبريائه كأنما كان يريد أن يصرف قلبه عن وجهته بالعنف بعد أن عجز أن يعلله بالصبر

وتزايدت على الأيام محبة أصدقائه له وحرصهم على مودته، فكانوا يرجعون إليه في أمورهم ويعدون الاستمتاع بروحه العذبة من أجمل أويقات حياتهم في المدرسة ويحسون جميعاً أنهم دون هذا الفتى يحيا حياة الشاعر وإن لم يحمل بعد قيثارة الشاعر ويعترفون له بالتفوق أرادوا ذلك أولم يريدوا وإن منهم من يبذه في الدروس المقررة ويظهر عليه في كثير من نواحي الحياة المدرسية وصار يكثر من الذهاب إلى تلك المقبرة التي أحبها فيقضي ما شاء من الوقت في تأمله وقراءته وأقرانه ينظرون إليه ويشيرون عن بعد قائلين: هاهو ذا بيرون يصعد التل إلى مقبرته

وازداد تعلقه بالمدرسة وحياتها حتى إنه ليحزنه أن تقرب ألا جازات الدراسية فهو لا يستطيع أن يذهب إلى أنسلي ولا إلى نيوستد، وليس أمامه إلا أن يذهب إلى حيث باتت تقيم أمه في سوثول على مقربة من قصره العتيق، وهو كلما تقدمت به السن ازداد نفوراً من تلك الأم التي ما تزال تشتمه وتعنفه لسبب ولغير سبب حتى ليضيق بها وبالحياة جميعاً من أجلها على أنه ما لبث أن سكن إلى أخته لأبيه أوجستا وراح يشكو لها بثه وحزنه وكانت رسائله إليها مفعمة بحماسة قلبه وتوثب روحه وتوقد عاطفته، وكانت تعدها من أكبر دواعي سرورها كما كان يعد رسائلها إليه، ولما علم أنها قد مسها عذاب من الحب كتب إليها يظهر توجعه لها ويعلن لها في الوقت نفسه استهزاءه بالحب وسخافاته وكرهت إليه قسوة ماري النساء جميعاً وصار يعتريه الخجل إذا طلع عليهن، على أنه حينما علم بقرب زواج ماري ذهب ليراها وقد كتبت إليه تدعوه ودخلت عليه حيث كان ينتظرها فحيت، فوضع يده في يدها دون أن يتكلم ثم خرج مسرعاً فامتطى جواده وراح يسبق به الريح

وأحس بيرون في سنته النهائية في هارو حباً شديداً لهذه المدرسة حتى لقد كان يفكر كيف يطيق الخروج منها، وكان في سنته النهائية قد قارب السابعة عشرة وقد أقام من نفسه زعيما وحامياً لكن من كانوا دونه في السن، ولقد كان شديد الولوع بهذه الزعامة عظيم الفخر بها والحرص عليها، وأخذ في تلك السن يكثر من نظم الشعر في الحفلات المدرسية وفي غيرها من المناسبات غير أن أقرانه ورؤساءه كانوا يرون فيه خطيب الغد أكثر مما كانوا يرون فيه شاعرا ًوذلك لما آنسوه من حماسته في إلقائه كلماته ولما خبروه من بلاغة عبارته وقوة جنانه وانطلاق لسانه وأقبل بيرون على دراسة اللاتينية والأغريقية وهو في هذه السن فتفوق واشتهر أمره فيهما كما تفوق في السباحة وفي لعبة الكريكت على الرغم من عرجه

ولما حان يوم الرحيل طاف بالمدرسة كلها طائف من الشجن لفراق بيرون، وثقل ذلك الفراق على هذه النفس الشاعرة حتى ما درى الفتى كيف يتأسى أو كيف يطيق البعد عن هذه المدرسة التي خطى خطوات الفتوة بين جدرانها. . . وخرج منها وعبارات التوديع من أقرانه ملء أذنيه وملء نفسه

وألحق بيرون عقب ذلك بكمبردج وهو دون السابعة عشرة ببضعة أشهر، وأتيح له يؤمئذ الحصول على خمسمائة من الجنيهات سنويَّا من دخله، وفي كمبردج بدأ بيرون يستقبل حياة الجد ويخطو خطواته الأولى في مجال الشعر

(يتبع)

الخفيف