مجلة الرسالة/العدد 329/استطلاع صحفي
→ الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة | مجلة الرسالة - العدد 329 استطلاع صحفي [[مؤلف:|]] |
حوّاء ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1939 |
50 قرناً في المتحف الحربي
جولة بين آثار الماضي والحاضر
(لمندوب الرسالة)
حمى الحرب تهز أطراف كل إنسان. ولئن اختلف الناس في ضرر الحرب وضرورتها فأنهم يتفقون في وجوب الاطلاع على تاريخها وحالة جندها ونتائجها. ومصر أمة قديمة لها تاريخها الرائع الذي صحب المدنية من مهدها إلى الآن والمطلع على تاريخها يجد فيها تطور الأسلحة وأدوات القتال من المقطع الصخري إلى المدفع المدمر. فإذا جاز للأمم أن تشيد لها متاحف حربية فأن مصر أولاها بهذا الحق
وقد شرعت وزارة الدفاع الوطني في تكوين نواة هذا المتحف ووصلت إلى نتائج طيبة. وأتيح لي أن أجول في هذا المتحف وهو في فترة تكوينه. وهاأنذا أقدم للقارئ بعض ما رأيت راجياً أن يتاح له في القريب العاجل أن يرى هذا المتحف بعد أن يتم أمينه النقيب عبد الرحمن زكي أفندي جزءاً من برنامجه، ولست أقول كله لأني أعرف أحجامه ومراميه
خمسون قرناً من الزمان
إذا خلوت إلى نفسك وطاب لك الاستجمام فاستعرض في مخيلتك تاريخ مصر الحربي منذ فجر التاريخ إلى الآن. فتصور كيف كان المصريون يكافح بعضهم بعضاً في عصور ما قبل التاريخ. ثم كيف كانوا يغزون القرى والبلاد ويفتحون الممالك في عصر الأسر الفرعونية وفي عصور الفرس والرومان والبطالسة وفي العهود الإسلامية. واستمر في وصل حلقات التاريخ من عصر المماليك إلى الآن؛ ولا يفوتن مخيلتك أن تستعرض الأسلحة التي استعملوها والملابس التي ارتدوها والأسلاب التي غنموها والقلاع التي حصنوها والمواقع الحربية التي اشتركوا فيها بما في ذلك صور أبطال تلك المعارك
وقدر بعد هذا كم تكون هذه الصورة واضحة، وماذا تعرف من تاريخ مصر ومن سير أبطال مصر. ولقد جلست من قبلك فوجدت أن حقباً كاملة تمر غامضة؛ بل إن أكثر الفترات وضوحاً لدي كان ينقصها كثير من التفاصيل. حتى الفترة الحالية مع أني أعيش فيها وأخالط رجالها العسكريين وأزور معاهدهم كل يوم مازالت مبهمة، ومازلت في كل يوم أرى جديداً لم أشاهده من قبل. فإذا استعرضت هذا الماضي الطويل وعرفت أثره في تربية النشء وبث الروح القومية أدركت حاجتنا الماسة إلى متحف يضم تلك الذكريات العظيمة فيشاهد الصبي تحتمس أو رمسيس أو صلاح الدين أو إبراهيم وقد تقلدوا أسلحتهم ودافعوا عن كرامة بلادهم. فهل تظن أن من يشاهد عز أولئك يرضى بالذلة لنفسه؟ محال! فالذكرى تنفع المؤمنين
مشروع ضخم
وإذا كانت مصر قد عاشت تلك السنين الطويلة بدون متحف حربي عام فقد أنشئت عدة متاحف ضمت عدة مجموعات من الأسلحة أهمها ما هو محفوظ الآن في المتحف الحربي في قصر عابدين. وقد تنبهت وزارة الدفاع الوطني منذ سنوات إلى أهمية هذا المشروع فقدرت إنشاء متحف حربي عام عينت لإدارته لجنة من كبار ضباط الجيش المصري واختارت حضرة النقيب عبد الرحمن زكي أفندي أميناً له.
وشرع أمين المتحف من اللحظة الأولى في وضع برنامج الإنشاء فزار الأماكن التي توجد فيها آثار حربية مصرية سواء كانت هذه الأماكن معاهد عامة أو منازل خاصة. فكثير من ضباطنا الذين اشتركوا في حروب السودان وأغلب أمراء العائلة المالكة يحتفظون بمجموعة ثمينة من الأسلحة وخصوصاً من عهد محمد علي إلى الآن. وليكون تنظيم المتحف على أحدث طراز سافر أمينه إلى أوربا فشاهد هناك أحدث الطرق لحفظ الآثار وأبرع الوسائل لعرضها على أنظار الجمهور حتى تؤدي الغاية المقصودة منها سواء كانت قومية أو تعليمية
وقد يكون من الصعب على الإنسان أن يتخيل صور مصر الحربية خلال خمسين قرناً فإذا قارنا بين إنسان يتخيل صورة وبين آخر يحاول أن يخلق صورة واضحة استطعنا أن ندرك ضخامة العمل وما يحتاج إليه من جهود. فإنشاء النموذج الواحد يستلزم الرجوع إلى عشرات المؤلفات والصور. فهاهو مثلاً نموذج لقلعة بنيت في عصر رمسيس الثالث يتطلب بناؤه زيارة القلعة الحقيقية ومعرفة تخطيطها ثم الطريقة التي تبعها المصريون الأقدمون في حروبهم والأسلحة التي استعملوها لمغالبة مهاجميهم حتى تتكون لدينا صورة صحيحة عن استعداد القلعة وشكلها وهذا يستلزم منا أن ندرس عشرات المراجع لنتأكد من صحة ما نصنع
فالآثار التي تركها الأقدمون قد عصفت بكثير من معالمها تقلبات الزمن وتوالي الحروب بين غزو وفتح. هذه القلعة التي نراها في لمحة بصر احتاجت من منشئها إلى عدة سنين استعان فيها بدراسة غيره وخبرة نفسه. فالعبرة في المتاحف أن تكون معروضاتها صورة تاريخية صحيحة وليست بناء يسهل على الناقدين نقضه وإثبات خطئه
نواة صالحة
ويتكون المتحف الحربي الحالي من ثلاثة طوابق. يشغل الطابق السفلي منه وهو (البدروم) مصنع أعد لصب التماثيل، وأعمال النجارة لعمل الخزائن الزجاجية التي تحفظ المعروضات. ويشغل في هذا المصنع فنانون مصريون درسوا الحياة العسكرية فعرفوا دقائق تقاطيع وجه الجندي المصري إذا اشتبك في ساحة القتال أو جلس في ثكنته ينشد التدريب العسكري، ويستعد لطوارئ الزمان
وهم يوجهون اهتمامهم الآن لتسجيل نماذج الجندي المصري الحديث فصبوا أجساماً من (المصيص) دهنوها بالأصباغ، وألبسوها حلل الميدان أو التشريفات. فلا تكاد تراها حتى تشعر بأنك أمام جندي أو ضابط مصري في وقفة عسكرية لا أثر فيها للكلفة. وإني لأضحك من نفسي كلما تذكرت المرة الأولى التي شاهدت فيها هذه التماثيل إذ ما كاد باب الحجرة ينفتح وأرى من فيها حتى رفعت يدي بالتحية ولاسيما عندما وجدت ضابطين واقفين قبالة بعضهما كأنهما يتحادثان
وتعجب أشد العجب إذا عرفت أن هذه النماذج لا تصنع واحداً واحداً بل تصنع بالعشرات؛ فهاهي أجزاء نماذج جديدة لن تلبث حتى ترسل إليك نفس الشعور بالحياة. وتتكون هذه العملية من عدة مراحل، فتصب أولاً أجزاء التماثيل على انفراد فترى الساق وحدها والصدر منفصلاً عن الظهر، ثم الرأس موضوعاً في مكان آخر. ويتناولها الفنان فيكون من هذه الأجزاء المتناثرة المتماثلة وحدة مختلفة بما يسبغه عليها من ألوان، وعلى تقاطيع وجوهها من معجون، يرفع الأنف أو يوسع العينين ويشرف على هذه الحركة الدقيقة الأستاذ محمد نجيب المثال صنع في مصر
وأول ما يواجهك عند دخولك المتحف مجموعة من (المسدسات) صفت على الحائط وكتب عليها (صنع في مصر) فهي دليل حي على ارتقاء صناعة الأسلحة في بلادنا في عهد محمد علي. فإذا دخلت إلى القاعة التالية شاهدت نماذج جنود مصر في ذلك الوقت وعرفت الأناقة والنعمة التي كانوا يعيشون فيها. وأما الجدران فقد غطيت بالصور المختلفة التي تبين ملابس الجنود وأزياءهم
ويحرص المتحف على أن يقدم لزائريه صورة واضحة عن المعارك التي اشتبكت فيها جيوش مصر، ولهذا ترى لوحات كثيرة رسمت عليها خرط تلك المعارك، فترى مواقف الجنود ونظامهم وكيف سارت المعركة. وأكثر هذه الرسوم هدايا قدمها أمراء العائلة المالكة وغيرهم من رجال مصر تعضيداً للمتحف حتى يحقق برنامجه
قارع الطبل
وقسم الطابق الأعلى على فترات التاريخ المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى الآن كما يضم مجموعة من الأسلحة والطبول التي استولت عليها الجيوش المصرية أثناء حروب السودان، ومنها طبل استولت عليه البطارية الرابعة في الداورية رقم 27 أثناء تجوالها في دار فور سنة 1916 ولتكون الصورة أكثر وضوحاً صنع المثال لهذا الطبل قارعاً وقف يضربه فلا تكاد تراه حتى تشعر بأنك أمام محارب سوداني
ويحتفظ المتحف بمجموعة كبيرة من الصور بعضها رسم باليد ليمثل العصور التي لا سبيل إلى إثبات صورها بالفوتوغرافيا كالعصر الإسلامي وعصر محمد علي وعصر إسماعيل وبعضها الآخر - وتقدر صوره بالألوف - عن العصر الحديث وقد التقط بآلة التصوير لمعاهد الجيش في عهدها الحالي، ومن يشاهدها يأخذ فكرة كاملة عن الجيش المصري في الوقت الحاضر. ويضاف إلى ذلك مجموعة أخرى أعدت لإلقاء المحاضرات بواسطة الفانوس السحري، وتنظم هذه الصور بطريقة علمية دقيقة تيسر للناظر الحصول على معلومات طريفة
الزمن خير كفيل وفي فناء المتحف الداخلي صفت المدافع التي أمكن للمتحف الحصول عليها من عصر محمد علي، وهي مجموعة ثمينة تبين تقدم فن القتال الحربي في ذلك الوقت وأكثرها صنع في مصر ومازالت حتى الآن في حالة جيدة يسهل معها استعمالها. ويوجد في أنحاء القطر المصري كثير من هذه المدافع وخصوصاً في الإسكندرية في القلاع القديمة، ولكن نقلها وتنظيفها يحتاج إلى زمن طويل ونفقات كثيرة ولهذا ينقلها المتحف شيئاً فشيئاً
ويعتمد المتحف في تنظيمه وتوفير معروضاته على الهدايا التي يقدمها الناس أياً كانت جنسياتهم ومهنهم وعلى المنشآت التي يصنعها عماله، ولكن ضخامة العمل وقلة الأيدي العاملة تقف حجر عثرة في سبيل افتتاح المتحف للجمهور. فرغم النشاط المبذول ورغم كثرة المعروضات لا نستطيع أن نقول إن ما تم إنشاؤه يمثل خمسين قرناً من الزمان، فمثل هذه المشروعات الضخمة تحتاج إلى عشرات السنين لتظهر أمام الجمهور في ثوب لائق
(الشتوي)