الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 329/الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة

مجلة الرسالة/العدد 329/الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة

مجلة الرسالة - العدد 329
الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 10 - 1939


للأستاذ محمود علي قراعة

قرأت لأستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد 325 كلمة ذكر في آخرها آية كريمة وسألنا هل نعدها أدب معدة أم أدب روح. وهو بذلك يحاول أن يدخلنا في الميدان الذي دخل فيه متحدياً كل فكرة روحية، متهكماً على كل نزعة سماوية، مستنداً بذلك إلى مكانته الأدبية ولباقته وما أوتي من قوة غريبة على الدفاع عن القضايا الخاسرة. وهو لذلك يقف دائماً نصيراً لكل فكرة حسية ويقف نفسه موقف العداء لكثير من المعنويات وإن كان قلمه السيال كثيراً ما يجرفه ويخرجه عن الحسيات إلى المعنويات والروحيات من غير أن يشعر. والحقيقة أن الدكتور زكي مبارك مشكلة لأنه خليط لم يمتزج بنسب معينة من القوى النفسية المختلفة، فتارة تراه الخير كله والإخلاص كله والوفاء كله، وآونة تجده يميل كل الميل إلى الخروج عما يتصل بالروح إلى النزول إلى ما يوثقه بكل أرضي وبكل نازع لحسي. وفي تاريخه أمثلة متضاربة لكل ما يمكن تصويره من الميل إلى أحد هذين الجانبين؛ فتارة تراه صوفياً مدروشاً، وأخرى تلفيه ساخراً بالحياة وعابثاً فيها. ولكن إذا كان أستاذنا الدكتور يرى لنفسه الحق في أن يتشكل كما يشاء وأن ينضم إلى الجانب الذي يريد، فلا أدري لماذا نراه متهكماً على كل فكرة روحية ومحارباً لكل النازعين إليها؟! كثيراً ما ردد في الرسالة كلمة أدب الروح وأدب المعدة، لا لأن الاصطلاح في ذاته غير موفق بل لأن أستاذنا أحمد أمين قد وضعه لتقويم الأدب وصحة تقديره. ولأستاذنا الدكتور الخيرة في أن يواصل حملاته على صديقه أو أن يقفها لأنه حر إذ لم يرد أن يسمع رجاء تلاميذه وإخوانه في أن النقد ممكن من غير خصومة كما فعل أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام؛ ولكن الذي لا نقره ولا نستطيع السكوت عليه أن نغفل مناقشة ما يرد في حملاته مما عسى أن يمس الأدب في ذاته من قريب أو بعيد. فأستاذنا أحمد أمين يعني بأدب الروح الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها؛ ولذلك رأى أن القرآن أدب روح لأنه يسمو بالإنسان عن عالم المادة ويأخذ بيده إلى السماء لينظر إلى الأرض وما فيها نظرة تريه الحق حقاً والباطل باطلاً. ولكن أستاذنا الدكتور زكي مبارك تأبى عليه نزعته الحسية إلا أن يعارض هذا. ورأى أن أقرب مثل يؤيد وجهة نظره أن يذك القرآن من آيات تذكر وجود أشياء حسية في الجنة، مع أنه كان يجب على أستاذنا الدكتور أن يرى أن أقل ما يمكن تصوره في عالم سيخلو من البؤس والفقر والهرم، ولن تهيئ طبيعته المجال لظهور الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة وما يدخل تحت كل منها من فضائل إنسانية، أن ينعم الناس فيه بالاتحاد والمحبة فتتاح لهم أنواع المحبة من إلهية وصداقة أخوية، وفهم نزوع الأشياء المادية التي ستوجد هناك إلى التمتع بفكرتها الروحية، فما وجد من جميل صور من حور وولدان، نزع به إلى فكرة تقديس خالق هذه الصور، وما وجد من قصور وأنهار وفاكهة نزع به إلى النشوة الروحية من وجود هذه الأشياء، وأن ليس معنى هذا خلو الجنة من استلذاذ بالحور العين الاستلذاذ الحسي أو بما هنالك من مأكول ومشروب وحلي وحلل، وبذا نضع الفكرة الروحية في درجتها العلوية ونجعل الحسيات في درجتها الثانوية، بل ونسمو بها إلى فهمها الفهم القريب من الروح. ونحن بذلك نسمو باللذة الممكن تصورها في الجنة من غير نكران لحسيتها بجعلنا الحسي تابعاً للروحي إذ أكثر جزئياته روحية. ولو تدبر الدكتور قوله تعالى في سورة السجدة: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) وقول النبي (ص) في حديث قدسي عن ربه تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) لوصل إلى أن المذكور في القرآن في سورتي الرحمن والواقعة وغيرهما وفي الأحاديث الصحيحة لا يفيد أن المذكور مذكور على سبيل الحصر بل على سبيل التمثيل لما سيوجد، ولعرف أنا وقد استبعدنا الأخذ بالنظرية التصويرية لمخالفتها لكثير من النصوص وما تحتمله قرائنها مثل الطمث للحور، لا نجد أمامنا إلا أحد أمرين: إما أن نأخذ بالنظرية الحسية أي بتغليب اللذات الحسية على الروحية، أو أن نأخذ بالنظرية الروحية التي تغلب اللذة الروحية على الحسية فلو أخذنا بحسيتها تغليباً، لنزلنا بها ولشبهناها بلذة الدنيا المتواضعة فأخرجناها من سموها الذي يجب أن تكون فيه لتتلاءم مع نفوس أصحابها، ولذا لم يكن بد من أن نأخذ بروحية اللذة تغليباً. وعلى ذلك فذكر القرآن الكريم الأشياء المادية حتى على فرض الأخذ بالنظرية الحسية إطلاقاً لا يفيد أن القرآن أدب معدة وهو مملوء بما يفيد أن الجنة جزاء من عمل صالحاً وجزاء من اتقى. وليتل دكتورنا إذا شاء قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاً وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيما) وقوله تعالى (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقوله (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقوله (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم يشهده المقربون) وقوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) وقوله حكاية عن أولي الألباب من عباده قولهم (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم) وقوله: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق) وقوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)

فهذه الآيات الكريمة وأمثالها التي كثر ذكرها في القرآن الكريم أكبر دليل على أن القرآن روحي لأنه جعل الجنة (حتى لو أخذنا بحسية اللذات إطلاقاً) جزاء المجاهدين والصالحين والمتقين والمؤمنين والمستغفرين؛ أي جزاء من سمت روحه بالإيمان وزكى نفسه بالتقوى وكان روحانياً بالجهاد والعفو والصلاح

ويرى أستاذنا أحمد أمين أن باب الحماسة في ديوان الحماسة مثلاً أدب روح لأنه صادر عن نفوس قوية، وباعث لمشاعر قوية، وداع لمواجهة هذا العالم وما فيه من نفوس أبية، في غير خضوع ولا استخذاء، فلم يعترض أستاذنا الدكتور زكي مبارك على هذا لأنه لا يستطيع مهما كان نصيراً للحسية أن يقول بغير هذا، لذلك نجده بلباقة زكيه مباركة قد أغفل ذكر الحماسة وتخطاها إلى ذكر الغزل والحب. فأستاذنا أحمد أمين يرى أن غزل جميل وكُثير والعباس بن الأحنف، أدب روح، لأنه يصهر النفس ويطهرها ويجعل من آلامها وآمالها مبعثاً لفيض الحنان والرحمة والعطف على العالم وعلى الإنسانية كلها. وقال إن الغزل الفاجر أدب معدة وإن تعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر، فأتى أستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد 322 من الرسالة يعارض هذه الفكرة بقوله: (. . . لا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها شهوة حسية، ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجال والنساء) ويقرر أن رجال الأخلاق لم يستنكروا الشهوات إلا بسبب الإسراف؛ أما الشهوات في حد ذاتها فهي من دلائل العافية، وأن فضيلة العفاف لا يقام لها وزن إلا حين تصدر من رجال مزودين بحيوية الشهوات، وأن للشهوة الحسية صلة بتفوق الرجال في الميادين العقلية، وهذا ليس مستبعداً من أستاذنا الدكتور الذي يعبر في كل كتاباته عن ميله للحسيات وهو بهذا ينصر أدب المعدة؛ لأنه ينصر الحب الفاسد ويخذل أدب الروح، لأنه يخذل الحب الروحي الذي يجمع بين قلبين، ولكن الغريب مع هذا أن نجد لأستاذنا الدكتور بعض كتابات تجعله من أنصار أدب الروح فمثلاً وقد فتحت الآن كتابه (ذكريات باريس) قد صادفتني ص13 وفيها يقول وصفاً لحسناء (هي فتاة ناهد حسناء رشيقة القد، مشرقة الجبين، في عينيها النجلاوين بقايا خطيرة من سحر هاروت وماروت. . . وفي صوتها غنة موسيقية. . . ولأناملها رقة جذابة تفيض بالكهرباء. . . وفي خطراتها تكسر وتثن. . . ولها رفق بارع في إذكاء نار الحب والوجد فيمن تختار من أصحاب القلوب. . .) فهذا الوصف من أدب الروح لأنه يعطي القارئ فكرة روحية عن حسناء زكي مبارك الجميلة. وكذلك أعد من أدب الروح مقالة الحب الأثيم في باريس ص15 وما بعدها، لأنه وإن حدث عما في حدائق باريس من عشاق متعانقين ومتعانقات فوق المقاعد مظللين بالأشجار المورقة، فقد كتب مقاله ليقرر (أن الشاب الذي يحمله جنون الشباب على غشيان المواخير القذرة ثم يحمل مرضاً يعيا في برئه الأطباء) إنما يخدع نفسه بقوله إنها تجربة، وإن كان قد أبى عليه حبه للحسيات إلا أن يجعل جزءاً منه أدب معدة بتقريره بوجود حب شريف غير الهوى العذري المعروف عند العرب (وهو الذي يجري بين فتى وفتاة أو رجل وامرأة لغرض غير مادي وتقع حوادثه في الأوساط المعروفة بالاستقامة وحسن السمعة. . . ويستبيح أشنع الذنوب والآثام ولكنه مع ذلك يجري فيه الأرق وتسيل من أجله المدامع، وتعرف فيه نكايات الوشاة والعذال، وتتخذ من أجله الرسل، وتدون له المكاتبات. . .) ولعل الحد الفاصل بين الحب الروحي والحب الفاسد هو أن الصلة في الحب الروحي تصل بين روحين وقلبين، كما رأينا في رفائيل لامارتين وتعريب أستاذنا أحمد حسن الزيات؛ ففي ص82 تستنكر جوليا أن يتدلى الحب إلى اللذة الحسية الوضيعة، أو يتدنى إلى الشهوة الدنسة الحقيرة لأنه إذ ذاك يفقد كبرياءه ونماءه وبقاءه. فيجيبها رافائيل في ص202: بأن نار الحب القدسية قد أتت على هذه الشهوات الباطلة والنزعات السافلة فحولتها إلى لهب صاف كقلبها نقي كحبها. ولذلك لا أدري كيف يستنكر أستاذنا الدكتور أن يسمي ما يتصل بالروح كرواية رفائيل أدب روح، وما يتصل بالجسد أدب معدة لأنه يتصل بالمعدة؟ وكيف أجاز لنفسه أن يدعي أن القائلين بروحانية الأدب قد خلوا من الفتوة، أو أن المرأة لا تلهم الرجل إلا باشتهائها حسياً، أو بمعنى آخر إلا إذا كانت الصلة بينه وبينها بهيمية، يعني أنها إذا كانت روحية بريئة لا تلهم على رأي الدكتور وفي هذا ما فيه من النزول بالصلات وما فيه من الإلغاء للشعور القلبي والقرب من البهيمة التي لا يهمها من الفحل إلا عملية التلقيح

ويقول أستاذنا أحمد أمين إن أدب الطبيعة أدب روح، لأنه شعور بالجمال مجرداً عن الرغبة وتقدير للحسن منزهاً عن الأثرة، ومزيج من شعور بجمال وجلال يحد من كبرياء الإنسان، ونبل هذا الأدب إنما يرجع لنبل غرضه. وظاهر أن غرض المتغزل في الطبيعة التي خلقها الله، هو التفكير في خلق الله، وفي تقديس ما أوجده الله لنا من أشياء حسية تدل في خلقها، وسمو صنعها على جليل قدرته وعظيم قوته، أي أن أستاذنا أحمد أمين يرى أدب الروح هو كل أدب انبعث عن عواطف نبيلة ويدفع إلى أعمال نبيلة، ولا أظن أستاذنا الدكتور زكي مبارك يعترض اعتراضاً جدياً على هذه التسمية

أما أدب المعدة فيرى أستاذنا أحمد أمين أنه ذلك الأدب الذي يدور حول ملء المعدة واستدرار المال وتحصيل القوت، ومثل لذلك بالغزل الفاجر ومقالات الكاتب التي باعثها الأول ملء الأعمدة والاستيلاء على الأجرة، وأدب المديح؛ وظاهر أن سبب هذه التسمية ضعة الأدب الذي يكون باعثه استدرار عطف من يغدق على المادح المال أو يفيده من الجاه، وتفاهة الأدب الذي يكون باعثه الأول لا حب الأدب في ذاته أو الرغبة في البحث في ذاتها أو الاقتناع بفكرة بعينها، بل لأنه مسوق إلى أن يكتب موضوعاً معيناً وإلى أن يصوغ فكرة معينة على أسلوب معين على قدر كذا من الأعمدة ليتقاضى كذا من الجنيهات، وكذلك الغزل الوقح أو الوصف المكشوف لما ينزو بالرؤوس ويحرك الشهوات، فلا ريب في أنه وضيع لاتصاله بالضعة، وعلى ذلك يمكن أن نجعل الغزل من أدب الروح إذا أخرجناه عن تحريك الشهوات وكان القصد منه الحديث عن صلة قلبية روحية أو تصوير صورة حسية تسمو بالقلب أو ترقى بالروح، ويمكننا أن نرى من الكتاب من يكتب كل يوم مقالاً ويتقاضى عليه أجراً، ولكنه يأبى أن توضع لي الفكرة أو تملى عليه إرادة ويأبى إلا أن يوحي إليه ضميره ويفتيه قلبه وعقله، فلا يمكننا إلا أن نعجب بأدبه وأن نقر بأن أدبه أدب روح لأنه من الروح وإلى الروح، وكذلك يمكن أن يكون المدح لعظيم يستحقه من مادح لا يبغي بمدحه إلا تقرير الحقيقة، أدب روح لأنه يضع لنا صورة حقيقية تسمو بالروح. وبعد فهذا هو ما نراه حداً فاصلاً بين أدب الروح وأدب المعدة، أرجو أن يقره أستاذنا الدكتور زكي مبارك وأن يكون به من أنصار أدب الروح، والسلام.

محمود علي قراعة