مجلة الرسالة/العدد 320/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 320 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
من هنا ومن هناك ← |
بتاريخ: 21 - 08 - 1939 |
من الذرة إلى الألكترون
الكهرباء كالمادة ظاهرة ذرية
للدكتور محمد محمود غالي
تتبع الكهرباء التطورات ذاتها التي تتبعها المادة - الكهرباء تركيب ذري شبيه بالتركيب الذري للمادة - التحليل الكهربائي وقانونه لكاشفه (فراداي) أول دليل على التركيب الذري أو الحبيبي للكهرباء - الأشعة الكاثودية دليل ثان على هذا التركيب الحبيبي - نظرة للإلكترونات المهاجرة والمكونة للأشعة الكاثودية - تكبر ذرة الهيدروجين الإلكترون الذي يدور فيها أكثر ما تكبر الشمس المشتري الذي يدور حولها.
تُرى هذه الرمال الفسيحة، وهذا الخلاء الشاسع والسكون الرهيب، تُرى هذا القمر الساطع والمُشتري يتألق في الفضاء، والمرِّيخ تراه في هذه الليلة من السنة في أقرب مكان لجارته الأرض - تُرى في هذه الصحراء المجاورة لمصيف (سيدي بشر) بعيداً عن الضوضاء نستطيع أن نطلع القارئ على موضوع يُعد من أهم ما قدمه العلماء في السنين الأخيرة؟ - هذا الموضوع خاص بالتعرف على الإلكترون بعد أن تعرفنا على الذرة وهو من المكونات الأساسية في الذرة ومنه يتكون التيار الكهربائي.
كانت السنون تتتابع والاختراعات تتوالى، والاكتشافات آخذت طريقها في الازدياد، ولا يدري أحد ما يخبئه الغد من مفاجآت علمية، وما يحمله القدر في طياته من تطورات يتوقف عليها مستقبل الإنسان - تُرى ما بداخل الذرة؟ - هذا العالم الصغير الذي حدثنا القارئ أنه من الضآلة بحيث أن النسبة بينه وبين كرة من الصلب يبلغ قطرها حوالي 3. 5 سنتميترات كالنسبة بين حجم هذه الكرة والكرة الأرضية
أو يَسْبَحُ في هذا العالم المتناهي في الصغر عوالم أصغر منه، عوالم يسميها العلماء اليوم الكترونات؟ - أو تسبح هذه الإلكترونات تارة حرة طليقة في المادة أو في الفضاء بسرعة عجيبة هي سرعة الضوء وطوراً تسبح دائرة ومقيدة حول نواة وسطى في الذرة وتكون مع النواة الذرات السابقة الذكر، وهل توجد ظواهر طبيعية تدلنا على هذه العوالم الجديد المتناهية في الصغر - كل هذا نود لو نعرفه ونود أن نعرف المناسبات التي استدل بها العلماء على هذا التحليل الجديد للمادة. هذا التحليل الذي يذهب بنا بعيداً عن حدود الذرة ويدخل بنا فيها
لقد تكلمنا عن الزمن الذي يمر علينا وتتعين بمروره الحوادث وتكلمنا عن الحيز أي الفضاء الذي تحدث فيه هذه الحوادث، وشرحنا ما يفهمه العلماء من المادة وكيف تنقسم إلى عناصر وكيف تتكون العناصر من الذرات المختلفة، وحسبي أن الشخص العادي يدرك أن هناك ظواهر عجيبة تختلف عن المادة، من بينها ظاهرة الكهرباء، ويدرك أن ثمة فارقاً كبيراً بين أسلاك الترام المرفوعة على أعمدة في شوارع العاصمة معتبرة مادة مصنوعة من النحاس وبين الأسلاك ذاتها بعد مرور التيار الكهربائي فيها - كلنا يسمع عن ظاهرة الكهرباء ولا يراها، كلنا يعرف أنه يكفي مرور هذا التيار الذي لا نراه في الأسلاك المرفوعة لتسير مركبات الترام من محطة إلى أخرى - كلنا يعرف أن الكهرباء ظاهرة تختلف عن المادة وإن ظهرت فيها
ومن العجيب أن تتبع الكهرباء في تطوراتها الطريق ذاته الذي تبعته المادة، إذ تنتهي هي أيضاً بالذرية الكهربائية كما تنتهي المادة بالذرية المادية، وقد استترت الكهرباء بادئ الأمر وراء نوع من الظواهر المستمرة والمنتظمة، وهو الوضع الظاهر الذي يبدو لنا في مختلف الظواهر الكهربائية، ومع ذلك فقد انتصرت في نهاية الأمر فكرة التركيب الأتومي أي الذري للكهرباء كمل انتصرت قبل ذلك الفكرة ذاتها في كل ما يُكَوِّن المادة في الكون
على أنه كان من الصعب تصور هذا التركيب الذري في حالة الكهرباء إذ لو جاز لنا أن نتصور للمادة تركيباً حبيبياً، كل حبة مستقلة ومماثلة للأخرى فإنه لا يجوز لنا بسهولة أن نذهب إلى تعميم هذه الحالة ذاتها في الكهرباء فنفرض لها تركيباً حبيبياً مماثلاً للتركيب المادي ونفرض بذلك ذرة كهربائية لا يمكن تجزئتها فإن الأمر الأخير يبدو غريباً ويتطلب منا براهين قوية على وجوده. ذلك لأننا نتصور الكهرباء في العادة حالة طارئة على الجسم أكثر ما نتصورها جسيمات تجري في أنحائه، بل إننا نتصورها مجموعة من القوى أكثر مما نتصورها مادة في الوجود، ومع كل ما تقدم ومع مخالفة حقيقة الكهرباء لخيالنا وتصوراتنا فإن الفكرة المادية للكهرباء قد ثبتت أخيراً ونجحت نجاحاً لا يمكن أن يضعها أحد العلماء اليوم بسهولة محل الشك ولا يمكن أن يبعدها عن حظيرة اليقين.
لننتقل بالقارئ إلى إثبات الفكرة الذرية للكهرباء:
لقد كان الدليل الأول على وجود الذرة الكهربائية التي أسماها العلماء الإلكترون في قوانين (الإلكتروليس) وهي القوانين التي تخص انتقال الكهرباء في السوائل، هذا الانتقال المرتبط بتحليل كيميائي يقع في هذه المواد الموضوعة في السائل
نذكر أن فراداي الإنجليزي هو الذي كشف القانون الأساسي في هذه الموضوع والذي يتلخص في أن كمية من أي مادة تتحلل كهربائياً ترتبط بعلاقة بسيطة مع قدر التيار الكهربائي ومع الوزن الذري للجسم الموضوع في السائل، بحيث إذا أرسلنا تياراً كهربائيا معينا في محاليل مختلفة فنرسل التيار مرة لنحصل على عنصر معين، ونرسل التيار ذاته مرة أخرى للحصول على عنصر آخر فإننا نحصل على التوالي على العنصرين بواسطة هذا التيار الكهربائي بكميات مختلفة ولكنها بالنسب التي تعينها المعادلات الكيميائية لهذه العناصر في جزئيات المحاليل الموجودة فيها
ولم يكن ثمة تفسير لهذه الحالة ولارتباط التحليل الكهربائي بالوزن الذري إلا أن كل ذرة من ذرات العناصر المختلفة تحوي عدداً معيناً من الوحدات الكهربائية وأن الكهرباء وحدات مستقلة غير متصلة كما أن المادة وحدات مستقلة ومنفصلة
وعلى هذا لا تتوزع الكهرباء بكميات اختيارية في الأجسام بل إن كل ذرة مادية تحوي عدداً معيناً من الوحدات الكهربائية فهي تحوي واحدة أو اثنتين أو خمسين مثلاً أي عدد كاملاً ليس به كسور الوحدة المعتبرة شخصية لا تستطيع الوجود في المكان والزمان إلا كاملة. إنك تستطيع أن تدعو عدداً معيناً من الأصدقاء لتناول الغداء فتستطيع أن تجمع على مائدتك سبعة منهم أو ثمانية أو أكثر، بحيث إذا أردت أن تزيد عدد المدعوين فإن أقل ما تستطيعه أن تزيدهم فرداً واحداً ما دمنا نتكلم عن أصدقاء أحياء يسعون إليك بدعوة منك؛ وليس لك أن تفكر أن تدعو من الأصدقاء أكثر من السبعة وأقل من الثمانية فإن هذا غير موجود فالأصدقاء لا توجد إلا بالواحد وليس بجزء منه. كذلك اتجهت الفكرة في الكهرباء أنها لا توجد أو تزيد إلا بالوحدة الكهربائية التي لا تتجزأ بحيث اتجهت الفكرة في بادئ المر بأنه ليس هناك حالة كهربائية بل أن ثمة ذرات كهربائية تشبه الذرات المادية موجودة في الذرات المادية أوعليها. ولقد لفت النظر إلى هذه الحقيقة (هلمولتز) في سنة 1881 وهو الطبيب الفيسيولوجي الألماني الذي منحته جامعة برلين كرسياً في الطبيعة سنة 1871 والذي رفعته أعماله في الضوء والكهرباء والصوت إلى مصاف علماء القرن التاسع عشر.
ويسمون (يون) وفق النطق الفرنسي أو (أيون) وفق النطق الإنجليزي وتكتب في اللغتين الذرة محملة بالكهرباء أو مجموعة معقدة من الذرات مجتمعة ومحملة أيضاً بعدد من الوحدات الكهربائية ويتكون (اليون) بانقسام أو تقطيع أوصال جزيء غير مشحون بالكهرباء فمثلاً تتحلل سلفات ذرات من النحاس محملة بالكهربائية الموجبة وبقايا من الكبريت والأوكسجين محملة بالكهربائية السالبة وتسمى الأولى باليونات الموجبة والثانية بالسالبة، ويحمل اليون الواحد ذرة واحدة أو أكثر من الذرات الكهربائية
وقد درس (لانجفان) العالم الفرنسي الذي انتخب أخيراً عضواً في المجمع العلمي الفرنسي ما نسميه اليونات الكبيرة واليونات الصغيرة وأتم في هذا دراسة معروفة قام بها منذ أعوام في أعلى برج (إيفيل) في باريس حيث نعرف أن هذا العالم الدائب اليوم في العمل للاشتراكية والمسائل الاجتماعية العامة، قضى نحو ستة أشهر في أعلى البرج للقيام بهذا البحث الذي يحمل اليوم اسمه والذي يذكرنا بدراسة (مارسيل بريلوان) لدراسة كروية الأرض بطرق ضوئية مدى أشهر طويلة في ست غرف موزعة في نفق سامبلون المعروف
وشأن الكثير من مجموع المعارف التي تكون ميراثنا العلمي اليوم لم يقف البرهان على هذه الحالة الذرية للكهرباء عند قوانين (الألكتروليس) المتقدمة والعلاقة بين الوزن الذري للعناصر وبين شحنتها الكهربائية عند ما نعمد إلى تحليلها كهربائياً، وإنما وجدت الفكرة الذرية الكهربائية برهاناً جديداً من طريق يختلف كل الاختلاف عن طريق التحليل الكهربائي المتقدم الذكر، ذلك أنه أمكن للباحثين فصل الكهرباء عن المادة التي تحملها، وبهذا أمكن البرهنة على أن الكهرباء مادة مستقلة في الحيز وأن لها صوراً منفردة في الفضاء. وإلى القارئ كيف توصل العلماء إلى ذلك:
عندما يحدث تفريغ كهربائي داخل (أمبول) مفرغ من الهواء وهو غلاف زجاجي كالغلاف المكوّن للمصابيح الكهربائية فإنه يتكون داخل (الأمبول) بثق من الضوء ضعيف وملون، وهذا الضوء ناتج من تصادم الألكترونات مع جزيئات الهواء المتبقي داخل (الأمبول) بعد تفريغها عند انتقال الإلكترونات السريعة من القطب الموجب داخل (الأمبول) إلى القطب السالب، بحيث يظهر أثر هذا التصادم القوي بهذه الإضاءة. ولو أننا عمدنا إلى تفريغ ما بداخل الغلاف الزجاجي من هواء فإن هذا الضوء يتضاءل لقلة عدد جزئيات الهواء التي تتصادم مع الإلكترونات المقذوفة ويبدأ أن يكون للغلاف الزجاجي لون أخضر تحت تأثير هذا القذف الألكتروني، وهذا اللون الأخضر حادث من تصادم هذه الإلكترونات مع جزيئات الزجاج. وتتضح هذه الحقيقة بأننا لو وضعنا أي جسم داخل الغلاف الزجاجي في طريق هذه الإلكترونات وليكن حلقة معدنية مثلاً فإن صورة هذه الحلقة ترتسم على الزجاج وسط اللون الأخضر. وتعين الصورة المواضع التي غابت عنها الصدمات بحكم الجسم الذي وضعناه في الطريق، ويمكن الاستدلال أيضاً على اتجاه هذه الإلكترونات ومسار هذه الأشعة الإلكترونية التي ثبت أنها تسير من القطب السالب إلى القطب الموجب، وقد أسمى العلماء هذا السيل من الإلكترونات الأشعة الكاثودي نسبة إلى القطب السالب الذي يسمى الكاثود
هنا تساءل العلماء عما إذا كانت هذه الأشعة داخل (الأمبول) أشعة موجبة أو أشعة ولقد ثبت أنها أشعة حبيْبيّة أي جسيْميَّة، إذا قَّربنا مغناطيسياً من الأمبول فإن هذه الأشعة تنحرف عن طريقها تبع وضع المغناطيس. ويبدو لنا ذلك من انتقال البقعة الخضراء على الغلاف الزجاجي، وفي هذا دليل على أن الأشعة مكونة من جسيمات صغيرة يتجاذبها المغناطيس في مواضعه المختلفة الذي نعلم أنه لا يؤثر إطلاقاً على الموجات الكهربائية. ويقول ريشنباخ في كتابه (الأتوم) الذي ترجمه للفرنسية موريس إن هذه الكهرباء المادية جسيمات مهاجرة وإن التيار الكهربائي يُمثل مجموعة من الأفراد المهاجرين من قطب إلى قطب
وبالطريقة ذاتها التي يؤثر بها المجال المغناطيسي على هذه الأجسام المهاجرة يؤثر أيضاً المجال الكهربائي على طريقها، وقد وضع الباحثون كفتين معدنيتين في طرفي (الأمبول) بينهما فارق في الضغط الكهربائي، ولاحظوا انحراف الأشعة الكاثودية بنفس الطريقة التي تنحرف فيها عند وجود مجال مغناطيسي ويزداد هذا الانحراف مع القوة الكهربائية المستعملة ولقد وجد العلماء في قياس درجة هذا الانحراف طريقة لقياس كتلة الألكترون أي كتلة واحدة من بلايين البلايين الأفراد المهاجرة، ذلك أنه يمكن معرفة القوة الجاذبية من معرفة شدة المجال الكهربائي أو المجال المغناطيسي كما أنه يمكن معرفة الشحنة الكهربائية لأحد هذه الإلكترونات، وذلك بالالتجاء إلى تجارب أخرى وعدنا القارئ بشرحها قريباً عندما نتحدث عن تجارب (بيران) الفرنسي (ومليكان) الأمريكي، ومن الجلي أن يدرك القارئ أن بهذه المعارف يمكن التوصل لمعرفة كتلة الإلكترون، لأن ثمة علاقة سهلة بين كتلة الجسيم وبين الدرجة التي ينحرف بها في مجال معروفة قوية.
وقد توصل الباحثون لحساب هذه الكتلة فوجدوا أنها حوالي
12000 من كتلة أخف ما نعرفه من الذرات، وهي ذرة
الهيدروجين. وبناء على ما تقدم فالإلكترونات جسيمات تصغر
كثيراً جميع الذرات الكيميائية المعروفة، وقد توصل العلماء
أيضاً إلى معرفة شحنة الإلكترون وهي تمثل كمية الكهرباء
تيار مقداره واحد على عشرة آلاف مليون من المللي أمبير
يستمر مروره مدة واحدة على مليون من الثانية.
وتذكرنا النسبة الخاصة بكتلة الإلكترون وكتلة نواة ذرة الهيدروجين النسبة بين كتلة الشمس وكتلة الكواكب الكبيرة التي تسير حولها، إذ تبلغ كتلة الشمس 1050 مرة تقريباً كتلة المشتري أما النسبة بين كتلة الشمس وكتلة إيرانوس وهو الكوكب التالي في الكبر للمشتري فتبلغ 3500 تقريباً، وعليه فإن كوكباً فرضياً يكون أصغر كتلة من المشتري وأكبر من إيرانوس، وتوازي كتلته كتلة الأرض 167 مرة تقريباً، تمثل النسبة بين كتلته وبين كتلة الشمس النسبة بين كتلة الإلكترون الحائر داخل ذرة الهيدروجين وكتلة هذه الذرة
ولا شك عندي أن ثمة شموساً غير شمسنا وكواكب أخرى غير كواكبها توجد فيها هذه النسبة صحيحة فإن قوانين المصادفة وتعدد الشموس وإمكان اقتراب بعضها من بعض وطول الزمن يحتم علينا أن نقبل وجود هذه النسبة في الكون. ومن يدري فربما يكون لهذه النسبة علاقة بالخليقة والوجود. . .
هذا الإلكترون الحائر، هذا الكوكب الصغير بالنسبة إلى الذرة لا يكفي في الكلام عنه هذه الأسطر التي نعتبرها مقدمة لموضوعه ودليلاً على وجوده. هذا الموضوع سنتناوله مع القارئ، ونأمل أن يساعدنا هذا السكون بعيداً عن الضوضاء على تتبعه
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة