مجلة الرسالة/العدد 320/رسالة الفن
→ رجعة | مجلة الرسالة - العدد 320 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 21 - 08 - 1939 |
دراسات في الفن
الفن هو الإنتاج الروحي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقول علماء البلاغة والتربية والمنطق وغيرهم من العلماء الذين يتصدون لدراسة العلوم المتصلة بالفنون أو العلوم التي من فوقها فنون: إن الفن هو التطبيق العملي للقوانين الخاصة بموضوع ما. فإذا كان موضوع البلاغة هو جمال الكلام فإن فن البلاغة هو التطبيق العملي للقوانين التي يحصل الجمال للكلام باتباعها. وإذا كان موضوع التربية هو تنشئة الأحداث على وجه من الصلاح أو على أوجه الصلاح كلها فإن فن التربية هو التطبيق العملي للقوانين التي يتم صلاح الأحداث باتباعها على وجه من الوجوه أو على أوجه الصلاح كلها؛ وإذا كان موضوع المنطق هو ربط الكلام على الحق الصادق حتى يطابقهُ فلا يزيد عليه ولا ينقص عنه ففن المنطق هو التطبيق العملي للقوانين التي يتحقق باتباعها هذا الربط وهذه المطابقة
وبهذا التفصيل وبهذا التيسير أباح العلماء لأنفسهم ولتلاميذهم أن يستضعفوا الفنون وأن يستسهلوها وأن يعدوها، ما داموا قد وجدوا هذا التعريف الذي استنبطوه لها شيئاً، يمكن أن يحققه كل إنسان، وأن يمضي في تحققيه ما شاء له تهاون هذا التعريف الذي يمنع عن الفن ما يلزم لحدوثه، اللهم إلا أن يكون تطبيقاً عملَّيا للقوانين. . . وبهذه الإباحة كثر الكتاب الذين يطبقون قوانين التربية، وكثر المجادلون وتفاقم عدد المحامين الذين يطبقون قوانين المنطق. ومع هذه الكثرة فلا يزال الكتاب المبدعون قليلين، ولا يزال المربون المثقفون نادرين، ولا يزال المجادلون والمحامون الساطعون يعدون في الجيل على أصابع اليد أو على أصابع اليدين
فلو كان الفن حقاً هو التطبيق العملي للقوانين لكان كل من يعرف الطريق إلى هذا التطبيق فناناً كما كان من يعرف الطريق إلى التطبيق الخاصة بالأعداد حاسباً، وكما كان كل من يعرف الطريق إلى تطبيق القوانين الخاصة بعناصر المادة كيميائياً.
ولكن الأمر ليس كذلك. فبعض ما يدرس على الناس في ثوب الفن ليس فناً، وبعض ما يساق إلى الناس مجرداً من ثوب الفن هو في الحقيقة فن. ولا بد أن يكون القارئ قد سمع لحناً من الألحان قال عنه صاحبه ومن يروجون له، إنه موسيقي وجعلوا دليلهم على قولهم أن فيه تطبيقاً عملياً لقوانين الأصوات والأنغام في الوقت الذي لم يستشعر حين سمعه إلا هذا التطبيق العملي وحده لهذه القوانين دون أن يدفع هذا اللحن إلى نفسه عاطفة ينقلها من نفس صائغه، أو خيالاً ينبعث من روحه، ويعبر عن إحساسه وذوقه وذاته. هذا بينما لا بد أن يكون القارئ قد راعه يوماً شراب أو عطر ألفه كيميائي ممن تنفذ نفوسهم وأذواقهم إلى تطبيقهم العملي لقوانين المادة وعناصرها. وكما أنه لا بد أن يكون قد سمع عن نسبة أينشتين، فأحس ما قيل عن غموضها وتعقيدها وتساميها أنها ليست تطبيقاً مجرداً لقوانين الأعداد وإنما هي حسبة فيها شيء من روح أينشتين نفسه لم يصل إليها إلا لأنه يتجه في تطبيقه لقوانين الأعداد اتجاهاً خاصاً به هو، مرجعه إحساسه الذي قاد تفكيره.
فإذا سلمنا بهذا استدعى الإنصاف أن نحكم على ذلك الموسيقي الذي لا يضع في لحنه إلا التطبيق العملي لقوانين الصوت والأنغام بأنه غير فنان. وعلى هذا القياس كان غير فنان كذلك كل من يتصدى لأي فن من الفنون وليس معه إلا ما اكتسبه من معرفة القوانين الخاصة بهذا الفن، ومعرفة طرق تطبيقها. كما أن الإنصاف يستدعي إلى جانب هذا أن نصف بالفن كل من ينتج إنتاجاً فيه من نفسه وذوقه كأينشتين الذي ابتدع النسبية وككل كيميائي يبتدع شراباً أو عطراً فيه من ذوقه.
والنتيجة اللازمة لهذا هي أن ينهار هذا التعريف الذي وضعه علماء البلاغة والتربية والمنطق وأمثالهم للفن. فهو تعريف غير جامع مانع كما يقولون هم، لأنه يسمح للأدعياء بالدخول في زمرة الفنانين، كما أنه يحرم فنانين صادقين من الاستمتاع بحقهم الطبيعي في الإنصاف بالفن بينما هم جديرون بأن يتصفوا به
وما دام هذا التعريف قد انهار فقد لزم أن نبحث عن تعريف آخر نقيمه مقامه ويكون فيه الجمع والمنع اللذان تتطلبهما صحة التعريف
أما أنا فأحب أن يكون تعريف الفن هو هذا العنوان الذي رصدته على رأس هذا الحديث وهو أن الفن هو الإنتاج الروحي. ولست أرى من عيب لهذا التعريف إلا أنه يسمح لكثير من الأعمال البشرية التي اعتاد الناس ألا يحسبوها بين الفنون بأن تكون فنونا. فهو يسمح للنجارة إذا كان فيها من روح النجار وذوقه الخاص أن تكون فناً، كما يسمح لصيد السمك إذا كان فيه من وسيلة خاصة ترجع إلى ذوق الصياد وتلهمه إياها روحه أن يكون فناً. وهكذا فليس من عيب في هذا التعريف إلا إمكان تعميمه على الأعمال البشرية جميعاً
وقد لا يكره هذا التعميم إلا الفئة الخاصة من الفنانين الذين يبدعون تلك الفنون التي اصطلح الناس على تسميتها فنوناً جميلة. فهؤلاء وحدهم أو بعضهم هم الذين يحبون أن يقتصر الإنصاف بالفن عليهم فلا يكون النجار فناناً، ولا يكون صياد السمك فناناً، ولا يكون أحد من الناس فناناً إلا من كان أديباً أو موسيقياً أو ممثلاً، أو رساماً، أو واحداً من هؤلاء الذين يسبحون في (السموات العلى) لا لشيء إلا اعتادوا التعالي على البشرية بأدبهم وموسيقاهم وتمثيلهم ورسمهم
غير أن هذا في الواقع نوع من الأرستقراطية القاصرة، أو المقصورة يكرهه الفن الصحيح. والفن لا يكرهه لأنه ديمقراطي بطبعه أو لأنه بلشفي، وإنما يكرهه لأنه دون الأرستقراطية التي يحبها لنفسه. فالفن متعصب كل التعصب لأرستقراطية الروح، وهو يفخر بأن ينسب إلى نفسه كل ما انتسب إلى الروح من أعمال البشر، حتى ولو كان نجارة أو صيد سمك، ولكنه يأبى أن ينسب إلى نفسه كل ما خلا من الروح حتى ولو كان لحناً أو شعراً أو رسماً.
والفن في هذا لا يحيد عن الحق. وأشرف للفن أن يحتضن النجارة وصيد السمك متى جمعنا الروح والذوق، من أن يحنو على كلام سخيف منظوم ولكنه ميت، ومن أن يدخل إلى حظيرته ألحاناً روعي فيها أن تكون تطبيقا عملياً لقوانين الصوت والنغم، ولكنها ما تزال جامدة كأنها الصوت ضغط وتركز حتى تحجر!. . .
ولا أظن أهل الفنون الجميلة إلا مقتنعين بهذا الرأي، وما أظنهم بعد اليوم إلا آخذين به، فهم مقربون إليهم كل من تنفذ روحه إلى عمله، وكل من يسري من نفسه إلى عمله لونه الخاص يطبعه ويلونه، فيكون عمله تعبيراً عنه يعرف به. وهم مبعدون عنهم كل أجرد النفس، قاحل الحس، مجدب الروح والشعور، وإن قضى حياته يعزف على الأوتار، أو يسود الصحائف بالحبر.
وقد يعنينا أن يؤمن الفنانون بهذا الرأي مثلما يعنينا أن يؤمن به الجمهور، وأن يأخذ به النقاد أخذاً شديداً، وأن يعدلوا عن قياس الفنون إلا بمقياسه، وأن يشيع قياسهم لبقية الأعمال البشرية بهذا المقياس. فإنهم إذا فعلوا هذا فإنهم سيبرئون الفنون من طفيليات كثيرة تلتصق بها وتدعى النسبة إليها، كما أنهم سيعودون بالحق فيعترفون لكثير من الأعمال البشرية الفياضة بالروح بأنها فنون.
صحيح أنه مقياس قاس، ولكنه في الوقت نفسه مقياس عادل، إذ يرد إلى كثيرين من أصحاب الجهاد الروحي اعتبارهم الإنساني بعد ما ظلوا الأحقاب الطويلة وهم لا يحصون بين الناس إلا على أنهم صناع أو عمال. زد على ذلك أنه سيكشف لنا الأقنعة عن وجوه كثيرة متنكرة: لها أرواح ولها فنون ولكنها تتكلف في الحياة فنوناً غير فنونها فتعيش فيها ميتة بدون أرواح لأن أرواحها منصرفة إلى ما تصبو أليه
وكي يتصور القارئ قسوة هذا المقياس فليطبقه على بعض الأعلام من الذين يقال عنهم في مصر إنهم فنانون
فلنأخذ في الأدب مثلاً الأستاذ أحمد أمين، ولنأخذ في الموسيقى مثلاً الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولنأخذ في التمثيل مثلاً الأستاذ جورج أبيض، ولنأخذ في الرسم مثلاً الأستاذ محمد ناجي الذي كان ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة العليا إلى عهد قريب
أما الأستاذ أحمد أمين فقد أثبت عليه الدكتور زكي مبارك في مقالاته الأخيرة بالرسالة أنه أستاذ يكتب ولكنه لا يسري من روحه شيء في كتابته، فأنت لا تعرفه حين تقرؤه إذا كان راضياً أو كان غاضباً، وأنت لا تشعر به إلا هادئاً دائماً وفاتراً. وحسبه هدوءاً وفتوراً ما سجل عليه الدكتور زكي مبارك مظهره وهو أنه عاش وقتاً طويلاً في الواحات فلم يعرف الناس انه عاش في الواحات إلا يوم أعلنت هذه الحقيقة الغريبة على صفحات الرسالة في الجدال الأخير. بل حسبه هدوءاً وفتوراً وبعداً بفنه عن الروح أنه كان قاضياً ومع هذا فإنه لم يكتب قصة واحدة من قصص الحياة التي عرضت له وهو في القضاء. وهذا دليل على أنه يعيش في دنيا، ويكتب في دنيا أخرى. وهذا يستدعي واحدة من اثنتين: فإما أن يكون الأستاذ أحمد أمين بروحين يعيش بواحدة ويكتب بالأخرى ولا صلة مطلقاً بين الواحدة والأخرى، وإما أن يكون كما هو الآن متنكراً يعيش ويكتب فلا تعرفه على حقيقته ما عاش أو كتب
والأستاذ محمد عبد الوهاب لا يخلو له لحن من نص موسيقي يستحسنه في موسيقى سيد درويش أو في الموسيقى الغربية؛ ولا معنى لهذا إلا أن يكون الأستاذ عبد الوهاب عاجزاً عن إطلاق روحه بالتعبير الموسيقي ذي العاطفة أو الخيال على وجه من الحسن يرضيه، أو أنه عاجز عن التعبير الموسيقي أصلاً. فإذا أضفنا إلى اضطرابنا هذا في أمره أنه كثيراً ما يخطئ في التصوير الموسيقي فيصور الفرح بأنغام الحزن، والحماسة بأنغام الخلاعة، والأنين بأنغام الطرب، عزز هذا لدينا سوء الظن به وقادنا هذا إلى الحكم على فنه بأنه مقطوع الصلة بالروح، وإلا كانت روحه مجنونة مختلطة الأحاسيس تضطرب إذ تشعر وإذ تعبر عن شعورها وهو ليس كذلك، وإنما روحه هي المنصرفة إلى شيء آخر غير الإبداع الموسيقي لأنها لم تخلق له. فالأستاذ محمد عبد الوهاب فنان متنكر مثل الأستاذ أحمد أمين
والأستاذ محمد ناجي الذي يقنع في فنه بأن يرسم خطوطاً تشبه ما يراه من الخطوط في الخارج، وأن يصبغها بألوان تشبه ما يراه من الألوان في الخارج - لا يمكن أن يزيد في اعتبار الفن (الرسم) على أنه نقاش أمين - إذا كان أميناً - يغني الفنان الذي يحتاج إلى نسخ كثيرة من الصورة الواحدة على آلة من آلات الطباعة، زد على ذلك أنه يحتاج دائماً إلى شرح صوره بكلام وإشارات يتقنها أكثر مما يتقن التصوير، ويصل بها إلى إقناع جمهوره الذي يدعوه إلى مشاهدة صوره أو الذي يبيع له صوره، بجمال هذه الصور وروعتها، إذ يقعد هذا الجمهور عن إدراك هذا الجمال إذا اكتفى بالنظر إلى هذه الصور. فالأستاذ ناجي هو أيضاً مثل صاحبيه فنان متنكر: يحترف شيئاً لا يتقنه، ولا يتقن شيئاً لا يحترفه
أما الأستاذ جورج أبيض الذي لم يتقن إلى اليوم إلا الأدوار الثلاثة أو الأربعة التي تعلمها أيام كان طالب بعثة التمثيل المصرية في باريس وهي عطيل ولويس الحادي عشر والملك لير ومضحك الملك فيما أظن، وقد أتقنها جميعاً بالأسلوب الفرنسي التلحيني الذي تعلمه في فرنسا والذي يصرخ في مشاهديه بين كلمة وأخرى، وبين كل حرف وآخر بأنه تمثيل ليس فيه من الطبيعة ولا حتى من التطبع شيء. . . الأستاذ جورج أبيض الذي انحصر فنه في هذا وحده يحرجنا كثيراً إذا طالبنا بأن نعترف له بأنه فنان فيه روح نافذة معبرة. . .
تظهر في تمثيله. . .
وقد يسألنا سائل كيف نجح هؤلاء الأساتذة في حياتهم على الرغم مما تنكره عليهم جميعاً من صلة فنونهم بأرواحهم. ونحن نجيب عن هذا بأن ثلاثتهم: أحمد أمين ومحمد عبد الوهاب ومحمد ناجي قد نجحوا لأن لهم أرواحاً تسري في أعمالهم ولكن من طريق التجارة والإعلان لا من طريق الفن، وعلى هذا الأساس يتحقق رأينا ويصبح هؤلاء السادة الأفاضل فنانين تجاراً معلنين، وإن كانوا فنانين في هذه الفنون الجميلة التي تصدوا لها، والتي عرفهم بها الناس
أما سر نجاح الأستاذ جورج أبيض فلا شك أنه رضاء الله عنه، فهو رجل طيب ما كان الله إلا ليجبر خاطره.
وأخيراً، فهكذا يقسو مقياسنا، ولكنه هكذا يرحم حتى هؤلاء إذ يعتبر كلا منهم فناناً فيما يسر له. . .
عزيز أحمد فهمي