مجلة الرسالة/العدد 32/التناسل في فيراكروز
→ سيناريو سينمائي | مجلة الرسالة - العدد 32 التناسل في فيراكروز [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 12 - 02 - 1934 |
في ديسمبر سنة 1932 صدر قانون الأنسال في مقاطعة فيراكروز بالمكسيك، وهي أكثر المقاطعات سكانا. وبهذا القانون تأسس مكتب للتناسل وصحة العقول، واندمج في مصلحة الصحة فاكتسب بذلك من قوة الحكومة والسلطان الشيء الكثير. وبتأسيسه افتتحت مراكز لضبط النسل وتعقيم من ليسوا أهلا للأنسال، سواء لضعف في الأبدان أو العقول. وهذا الإصلاح حلقة في سلسلة بدأها حاكم تلك المقاطعة منذ تولاها، فقد أغلق (الصالونات) وجعل تعليم التناسليات إجبارياً في المدارس، وعلاج الأمراض الجنسية كذلك، وأمر الأطباء أن يتدخلوا في الزواج قبل أن يتم، وفي الطلاق كذلك، فيكون له قوة على العقد وقوة على الحل إذا تعارض ما انعقد والصالح الخاص أو العام. وهكذا نجد من الأمم الأقل من هو أسبق إلى الإصلاح وأجرأ عليه من الأمم ذات القدم الراسخ في الحضارة والمكان المستقر من المدنية.
القصص
عنترة
مأساة شعرية في خمسة فصول لفخر الشرق المرحوم شكري
غانم
ترجمة الأستاذ محمد كامل حجاج
ينتمي هذا الشاعر العبقري إلى أسرة عظيمة لبنانية، وقد نبغ في الشعر الفرنسي وله ديوان فرنسي ظهر حوالي سنة 1900، وروايتان مثلتا بالاوديون سنة 1905 في فصل واحد وهما (وردة) أو (زهرة الحب) و (ربع ساعة من الف ليلة وليلة) ورواية قصصية كبيرة تسمى (دعد) وأهم رواياته التمثيلية عنترة وقد أبت عليه قوميته إلا أن يبتدئ بتمثيلها على مسرح شرقي فاختار الأوبرا الملكية المصرية ولحسن حظه كانت فرقة الكوميدي الفرنسية في ذلك الوقت مؤلفة من أعظم الممثلين الذين يسود على مجموعهم الانسجام والتوافق وفي مقدمتهم الممثلة القديرة مرجريت مورينو وقد تقدمت بها السن إلى أن أصبحت تمثل د العجائز وقد قامت بدور عبلة، وداراجون وقد توفي بالانفلونزا منذ بضع سنين وقد قام بدور عنترة، ومونتو وقد مثل دور وزر المعروف بالأسد الرهيص.
ومن الغريب المدهش أنهم حفظوا الرواية وأخرجوها وأعدوا مناظرها في خمسة عشر يوماً وقد سحروا الجمهور بابداعهم النادر وكانت الرواية موفقة من جميع الوجوه.
اشتهرت مورينو بحسن القائها ونبرات صوتها الموسيقي وكانت تلقي الشعر بسهولة وهي تقلد ساره برنار وتضيف إلى ذلك قدرا كبيرا من شخصيتها الخاصة وعواطفها المتأججة وحركاتها الخالية من كل تكلفن، ورشاقتها النادرة وظرفها في الحديث. وقد مثلت دور ابن نابوليون في النسر الصغير وروكسان في سيرانو دوبرجيراك. وقد فتنت النظارة في هذه الروايات الثلاث ولم يستطع أحد من الأجواق أن يحرز هذا النجاح من سنة 1909 إلى الآن.
مثلت رواية عنترة للمرة الأولى بمسرح الأوبرا الملكية. ثم مثلها مسرح الاوديون بباريس في 12 فبراير سنة 1910 فلاقت إعجابا شديداً ونجاحا باهراً وقرظتها أغلب الجرائد الفرنسية الشهيرة مثل الفيجارو والجولوا والاكلير والدييا والطان واللبيرتيه ومجلة التياتر المصورة والاوبنيون كما قرظتها وذكرت ملخصها دائرة معارف لاروس في ملحقها الشهري سنة 1910. وهي تستحق أكثر من هذا لبلاغتها النادرة وتفكيرها العميق وتحليلها الأخلاقي ومناقشاتها الطلية وعواطفها المشتعلة ورقتها ومواقفها الفنية الرائعة.
ومن سمو أخلاق شاعرنا النابغة ونبل عواطفه أنه أنبأ في القطعة التي أوردناها عن اقتراب ظهور النبي (ص) وما سيكون له من شأن خطير كما نوه بإعجابه الشديد ببلاغة القرآن بعبارة تستعصي بلاغتها على أي شاعر مع أنه مسيحي فجزاه الله خيراً ورحمه رحمة واسعة.
المنظر الثالث من الفصل الرابع
عنترة. ثم شيبوب. ووزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص
(يدخل عنترة في الحال)
هل هو عربي؟ لا. . . كان الخائن مختبئا في الظلام وراء هذه الصفاة كالذئب، ولا بد أن يكون أجنبياً (يسمع صوت شيبوب من بعيد)
هاهو شيبوب، هل يقوده؟ لأني أرى شبحين
شيبوب (يتكلم بصوت مرتفع)
تقدم!
(ثم ينظر شيبوب وهو يجر وزرا من يده)
لقد قطع الخوف ساقيك! وعز عليك البقاء فودع اذن الحياة
(مخاطبا عنترة الذي يقترب منهما)
لا جدال ولا ريب! فانه يستر وجهه! وعيناه لا تخترقان حجب الظلام إلا لرمي السهام، وسيطفئ الموت شعلتيهما بعد قليل
(يجره بجانب عنترة وهو جالس على صخرة وكان شيبوب يتكلم وهو سائر حتى يصل إلى عنترة)
لا تبصران الصخور ولا الخمائل ولا الجحور حتى أنني كدت أن أحمله
عنترة - لكنه يحسن الهرب!
شيبوب - لا، انه لم يهرب وكان جالسا على مقربة من صفاة، وقد طعن نفسه بسهم عندما اقتربت منه؛ وترى هنا قليلا من الوضوح فانظر!
(ثم يزيح شيبوب اللثام عن وجهه ويحدق فيه)
آه! وزر!!
عنترة - وزر! أتحلم؟ كلا!
شيبوب - هو بعينه
عنترة - الفارس المختال الذي عرفته من قبل؟ (ثم يحدق به هنيهة) نعم نعم، كيف تكون خائنا؟ أقبلت في الليل الدامس لتقترف إثما ملؤه النذالة والصغار، ولم ير مثله في البلاد العربية! هل بلغت بك السفالة أن تفعل فعلتك هذه؟ ماذا عملت بقناتك وحسامك؟ لقد أحسنت بستر وجه دمغ بميسم النذالة والجبن. ما أبشع هذا الوجه الدميم. أتنهض وترفع عينين باردتين ملؤهما الخجل والخزي؟ أم يتلهفان لاقتراف جرم آخر؟ تكلم.
وزر - عيناي فارغتان وقد استعضت عنهما بقلب مليء حقداً! عنترة - ولم؟ وعلى من تحقد؟
وزر - لا تتجاهل وما هو إلا عليك!
شيبوب - ماذا تقول؟
عنترة - دعه! ويلزم أن يوضح هذا الرجل. أجب!
وزر - أنظر إذن! هاهو جوابي! هاتان العينان الخامدتان المفقوأتان كأنهما حجران أسودان كئيبان! آه! إنك تسميني النذل يا عنترة وما النذل الا أنت!
شيبوب - قد بلغ السيل الزبى!
عنترة - (وهو يزيح شيبوب عن وزر)
إنني أجهل أمرك، ولقد أسرتك من قبل وأنا راع صغير الشأن وأنت فارس مدجج بسلاحك ثم سافرت في مساء ذلك اليوم وسلمتك إلى غيري ولا أعلم ما فعلوا بك في غيبتي وأنت أسير
وزر - ألم تك أنت الذي أمرت أن يفقأوا عيني؟
عنترة - (وقد غير لهجته شيئاً فشيئا)
كلا! فاني لا أعرف أن أسيء إلى ضعيف. أما كنت أستغرب ما حصل لك منذ هنيهة؟ وكيف لي وأنا الذي ما زلت أحارب ورائدي الشرف ومبدئي النبل أن تعزو ألي هذا الجرم الفظيع دون عذر أو مبرر. أو يتهمني به عدو مقهور موتور نهش صدره الحسد. إنني فتنت بالحروب وهي صناعة كثير من الملوك ذوي الحول والطول وغيرهم من السادة الأمجاد الذين لا يستطيعون أن يشقوا لهم طريقا إلى الأفئدة ويعتقدون أنهم بالغوها بظبأ البيض الصفاح، وهذا خطأ ظاهر وما فتئ الإنسان عرضة للخطأ
أيترك الإنسان حنقه ليبطش بالمقهورين ويخفي أرواحهم من أعماق جفونهم ويسلبهم حقهم في هذا النور حتى يجعلهم أمواتا وهم أحياء كلا! ثم كلا! وأقسم بهذا الهلال الصيرفي الذي بزغ في السماء، انني لا أستطيع أن أقترف مثل هذا الإثم. إنهم يريدون أن يلوثوا اسمي بمثل هذه الريبة ويجردوني من الخير الوحيد الذي يقود إلى المجد والفخار وهو الطيبة. . . فهل تثق بي إذن؟
وزر - أثق؟. . . نعم!. . . أود أن لا أثق، إنني أبحث في قلبي وأفتش في ذاكرتي لان عندي أسبابا أخرى أهم وأقوى تبرر بغضك!. . . مهلا!. . . (يناجي وزر نفسه على مسمع من عنترة) (ان كان ترك لك عينيك ولم يكن لك جلاداً فهل كف أن يكون خائناً لكل عربي نحب حريته واستقلاله. انه يريد أن يبيع ويسلم بلاده إلى الفرس)
(ثم يوجه الكلام إلى عنترة) وهذا ما أعرفه منذ أكثر من عامين، لقد كبر وعظم جرمك حتى برر كل اعتداء واغتيال وسحب ذيل النسيان على الجريمة التي كنت ضحيتها، والعربي لا يحفل بفقد عينيه ومته في سبيل إنقاذ بلاد العرب!
عنترة - هل نصبت نفسك حكما؟
وزر - (وقد اطمأن شيئا فشيئا) لقد حكمت نفسي بكل الوسائل من سلاح وقول وكل ما يصلح للقتل والانتقام، أما تراني ادن جريئا سفاحا؟
عنترة - عجبا لك! كيف يعرفون أن يشوهوا الحقيقة الحسناء! يخفون صورة الجمال تحت كثيف البراقع والأصباغ كالعجائز ينقشن وجوههن بالوشم ويتكحلن ويصبغن خدودهن بالحمرة. يريدون أن يزيدوا الجمال حسنا فيشوهونه. يجب أن تغمره الشمس وهو في صحة عربة فيتركونه في بساطته ووداعته ويزيلون هذه الصبغة الدميمة التي تحجبه.
أصخ لي يا وزر: فاني سأجعل جمال الحقيقة ولونها الوضاح يخترقان جسمك إلى أن يبلغا نفسك السوداء وسوف أقتل فيك الريب والشك بكلمة: أما كنت فيما مضى صديقا للملك المنذر
وزر - أنا؟
عنترة - نعم أنت! وتعلم جيدا مقاصد هذا الملك
وزر - (بلهجة مرة)
عنترة - ما هو الآن بحلم
وزر - وكيف؟
بلى، وهي وحدة العرب في يد ملك فرد، وهذا صحيح، ولكن ذلك لم يكن إلا حلما لذيذا
عنترة - لقد تخلص وتحرر من نير الفرس وسأنضم إليه الآن. . .
وزر - تنضم إليه؟
عنترة - وستظهر حكمة فرد آخر كطلوع الفجر ويؤيده الله بقوته فينشر قوله الأبدي. إلا تشعر بالأرض وهي تميد قبل انتشار هذا القول الذي سيمليه على الناس رب قوي عظيم. لقد زلزلت الأرض زلزالها واهتز النخل في الصحراء من عبث رياح السماء اللواقح، وأصبحت آمال الإنسان تتتابع مسوقة بنسيم الصبا كأسراب هائلة من نبات الهديل تنشد أيكا تحط عليه لتريح أجنحتها المتعبة فلا تعثر عليه. تسير تلك الأسراب حيارى مترددة لا رائد لها إلا المصادفات: ولكن المغرب سيتوهج شفقه بزخرفه وقد اقترب الزمن الذي ستتصل فيه الأرض بالسماء حتى يسمع أهل الدنيا كلام الله الكريم، كلاما ذهبيا في إطار الألفاظ اللجينية، وستهب قبائل العرب من كل فج عميق من فيافيهم المترامية الأطراف وقت طلوع هلالهم الفضي المتألق. . .!
(ينوه في هذه الفقرة عن ظهور النبي (ﷺ) ونزول القرآن)
وزر - أواه! إنني لاشعر باستنارة إمارتي بالسوء باحمرار الفجر وضوء اللهب! صبت عليكم اللعنات يا من خدعتموني! لقد قطع سهمي خيط حياته الذي تتعلق به آمال أسلافنا وهذا الخيط الذي انتظمت فيه حبات المستقبل! يا لكم من خونة مجرمين! وان قبره ستدفن فيه بلادي! عفوا وغفرانا!
عنترة - لقد عفوت عنك وسامحتك ولكن هذا الجرم سيقع على من حللوه وأن إثمك قد خط فوق الرمال وسرعان ما تمحوه الرياح، ولكن المجرم المحرض سيلاقي جزاءه في القريب العاجل إن امبد الأجل، وإني أحمد الله وأمجده وآمل أنيكون الجرح خفيفا. . .
وزر (بلهجة قوية وأنفاس مضطربة)
ماذا تقول! هل أصابت طعنتي؟
عنترة - لقد أصابت ذراعي وليس لها أقل تأثير
وزر (وهو هائج)
انها لعظيمة خطيرة! فاسحقني بحجر من هذه الأحجار كما تسحق العقارب والأفاعي! ادفعني بقدمك بكل ازدراء واحتقار فأنني لا أستحق أية رحمة ولا شفقة! إنني لتعس شقي! وإن جرمي لعظيم لم يخط فوق الرمال. لقد نقش نقشا عميقا فوق جسمك الكبير الذي يماثل النحاس بصلابته بآلة الحقد والحفيظة! فاسحقني سحقا!
عنترة - ولم هذا اليأس؟ وزر - إنني خائف!
وزر - هل أسود الجرح؟
شيبوب (وهو يزيح الثوب عن الجرح) نعم قد اسود!
وزر - (وقد كشف عن صدره لشيبوب) انظر هل اسود جرحي مثله؟
شيبوب - لا يفترق عنه
وزر - (وهو خائر القوى) هذا هو المنظر! ولا يغني حذر من قدر، أي عنترة! قد اشتريت جرمي بحياتي وأني أريد نجاتك ولا أستطيعها لأن سهمي يحمل السم الزعاف بين أسنانه. . .
شيبوب - ويل لك من شقي! ألا تجد له دواء؟. . .
وزر - هيهات هيهات!
شيبوب - ولو يقف سير السم
وزر - لا ينجع فيه دواء
شيبوب - ولكن الأدوية كثيرة جداً
وزر - كلا! إن سمي لا دواء له وهو يندفع كالسيل وهو هو الذي يقتلني. أنني أعالج سكرات الموت يا عنترة فاصفح عني وسامحني!
عنترة - مت بسلام واطمئنان!
وزر - ما العمل الآن؟ ويل لي من شقي! لقد نسيت! أسرع عنترة وفوت مالك وزوجك ورجالك من هذا المضيق، فان عمارة الوغد الذي قادني إلى هذا المكان يتربص لقتلك. . . ومعه مائتان. . . وسيمرون من هنا
عنترة - إنني مازلت قويا قائما على رجلي فقل لي أين هم؟
وزر - كلا، فلات ساعة لحاق يا عنترة والأفضل الهرب. . .
عنترة - الهرب؟
وزر - ليس لك! فلا فائدة لك منه ترتجى. . . ولكن الآخرين فهربهم وإن ساعدك لكفيل بتهريب زوجك وعشيرتك. . . فعجل دون أن تنتظر أن يكفر موتي عن حياتي. . . شيبوب - اواه؟ إنك لن تموت عنترة - لم يرد الموت ان يدركني في الحروب!
شيبوب (مهددا جثة وزر) ويل لك أنها الخائن!
عنترة - (يمنعه) ولم هذه الإساءة للموتى؟ فلينم بدعة وسلام! وان موتي لم يختلف عنه في الأجل والشكل وسيموت كلب ضال وهو في عنفوان قوته دون أن يثب الوثبة الهائلة ليصل إلى الماء وينهل الحياة. ولما شحب لونه وأسلم روحه الصغير ومن يعلم لأي جلاد؟. . مات من غلته أمام خرير الماء. كلا فاني سأثب هذه الوثبة مهما حل وحصل! وسأحيا!!! وسأحيا!!! إذ لابد أن أحيا. أوقد النار يا شيبوب واصهر حد السيف أو الرمح فان السم مهما بلغ أمره فلا يقوى على الحرق إذا ما تعدى الجرح وان مت فسأموت مختالا فخورا. ويخيل ألي وقتئذ إنني قتلت بالحديد
(وقد أسرع شيبوب في إيقاد النار بقطع من الخشب ثم وقعت عيناه على جثة وزر) ولكن الآخر مات بنفس الجرح وقد سرى السم في جسمه واصبحت جثته بمثابة نذير! إلهي انما أنا عبدك وخادمك! إنني أسعى وأعمل لك فلا تمتهني هذه الميتة بل على الأقل في الموضع الذي ينتظرني فيه الحصار! يالهذه الجثة! إنني وجل! وعيناي تطرفان أمام الموت كما تطرف أجفان المولود الجديد من الضوء. ما انتابني قط الخوف فكيف حل بي الآن. وإذا كان الإنسان في الحروب مقداما فهل يكون دائما في كل المواقف؟
(ثم يسوق الكلام إلى شيبوب) هل تمكنت من مشاهدة عبلة وتطمينها؟
شيبوب - إنها نائمة وتنتظرك وهي واهية القوى من وعثاء الرحيل والتأثر والفضل لسلمى في تهدئتها
عنترة - ما أعزك علي يا عبلة
شيبوب - لقد احمر النصل
عنترة - يجب أن تضع النصل المصهور في الجرح دون اضطراب وارتعاش فان حياتي معلقة به
شيبوب - وا أسفاه! ستتألم كثيرا
عنترة - كلا! احرق! احرق فاني لا أحب أن أموت (ثم يعري عنترة كتفه فيكوي شيبوب الجرح) ثم ينزل الستار
الفصل الخامس
عنترة وشيبوب
يأتيان من المعسكر والوهن باد على عنترة وهو متوكئ على كتف شيبوب
شيبوب - نعم، لقد بدد صوتك الشك عندهم والباقون سيستعدون لموالاة سيرهم
عنترة - ولكن هذا يوم الراحة الذي وعدوا به
شيبوب - لم أقل عنه شيئا البارحة، وقد أرجأت البت فيه إلى هذا الصباح
عنترة - ألا يدهش أحد من هذا السفر السريع؟
شيبوب - كلا وفضلا عن هذا فلا يعلم القريبون منا ولا البعيدون بمصابك. . هل تشعر بتحسن؟
عنترة - إن نسيم الصباح يطفئ قليلا الحمى؛ والكي وحده الذي يؤلمني هل دفن ميت البارحة؟
شيبوب - أجل، هناك بجانب تلك الخميلة
عنترة - ان الموتى مهما بلغ أمرهم لهم الحق في الراحة. ولننتخب الآن المكان الملائم لمشروعي. . . هناك! لا. . بل بجانب تلك الهاوية فاتها مكان مكشوف قليلا. . . ويجب أن يتمكن العدو حينما يصل من رؤية عنترة حيا أو ميتا. والآن أيها الرفيق والأخ يجب أن نفترق في هذا المكان ولنرجع من هذا الطريق الذي كان بالأمس طريق الأمل؛ أما أنا فسأتمم حياتي وواجبي
شيبوب - ألا تريد إذن أنوب عنك
عنترة - ولم يا شيبوب يحدث موتي ارتباكا في سير الأمور؟ وتصيح عبلة وسط هذا الاضطراب دون أن تتمكن من الوصول إلى الملك؟ لا! بل يجب أن ينفع حتفي رجالي وعشيرتي ومجدي ويترك نقطا من الابريز الوهاج في صفحات تاريخي!
شيبوب - ولكنني سمعت أن المنذر من علماء الطب فتعال! تعال! ومن يدري؟
عنترة - لقد فات الوقت، إذ بيننا وبين المنذر ثلاثة أيام ولقد مات وزر بسرعة ولا مرد للقضاء شيبوب - نستطيع أن نؤخره بجهد عظيم!
عنترة - لا يمكن تأخير ساعة الموت، ولم هذا الجشع الذي ينقص الكرامة ويسقط الاعتبار. وصباح حافل بالحوادث خير من يوم عظيم خال. . . . . . . . . . . . . . . . .
أتبكي؟ ومتى كانوا يبكون فارسا سقط عن جواده في ميدان المجد والفخار؟
شيبوب - إني أبكي قومنا جميعا، أبكي بلادك وأمتك وكل ما سيموت بموتك. عفوك اللهم وغفرانك!
عنترة - إن مستقبل الأمة والبلاد لا يتوقف على فرد ولو كان فارس الزمان أو كان ملكا دانت له الدنيا من أقصاها إلى أقصاها ولا شيء يقف تقدم أمة. انني أراها ترقى وتتقدم من المشرق إلى المغرب في ازدهاء كسف الكوكب الذهبي في فلكه. ولا يهم النسور المختالة حتى الخطاطيف ريشة تزيد أو تنقص من أجنحتها القوية!
شيبوب - كلا يا عنترة! فان هذه الفكرة لا تنطبق على ذويك!
عنترة - حتى ذوي! إذ سيكون ألمهم شديدا ينفذ إلى سويداء قلوبهم. وكل شيء في الدنيا يتألم حينما يولد أو يخلق حتى الحبة تتعفن قليلا قبل أن تنبت وما الحياة إلا ثمرة شجرة الموت. اذهب وارحل فلربما رأيتني في يوم قريب وسأظهر لك مرة ثانية في الخيط الأسود الذي يخطه موتى في الموضع الذي مر فيه الزارع. وستنبت تحت قدميه الحبة التي بذرها
سافر واسهر عليها واحرسها أيها الصديق والحارس الأمين، ومن يدري ماذا سيكون شان المولود الذي ستلده
شيبوب (وهو ناظر إلى جهة المعسكر) اذهب وكن على رأس الجند ومر من المضيق!
(عبلة آتية من المعسكر وهي تعدو وشيبوب وراءها. أواه) (عنترتي لقد فهمت كل شيء وحدثني به قلبي. لا تمكر على فان قلبي لقلب بطلة ولو انه تألم كثيرا ولكنه يستطيع أن يستمر في ألمه
(ثم تقع على قدميه)
إنني لا أتألم إذا شاطرتك حظك، أما أنا ظل ارتبط بظلك؟ عنترة (وقد غالب آلامه)
هذه زهرتي المسكينة قد أضجعها إعصار وهي مثقلة بماء السماء. انهضي فان الشمس ستشرب وهي منحنية عليك عبرات حبك. لقد بدد الحديد المصهور كل خوف أني لاشعر بخفة وطأة الموت وأكاد أفلت من مخالبه. وانك تستطيعين يا عبلة أن تذهبي وأنت مطمئنة مرتاحة البال (ثم يقول بلهجة حنان وتأثر) هذا واجب عليك، وان لك غرضا يجب أن يكون نصب عينيك ستبتهج له نفسك وهو أمل عظيم يتوج المرأة ويولد الغد من أسراره الخفية. . . وحبذا لو نضجت ثمرة حبنا يا عبلة. وان مت وجب عليك أن تضاعفي حبك لهذا المخلوق الصغير (ثم يبتسم) ولكن ما العمل؟ وكأني أحزنك وأقطب جبينك واسعد عبراتك، ولكن كل شاعر حزين الفؤاد ولو من غير ما داع ولا سبب
عبلة (تنهض وهي منهوكة القوى مصعدة الزفرات) سأرحل ولكنك لا تخدعني، واعلم أن كل لحظة أو خطوة تبعدني إلى الأبد عن وجهك ونظرك المملوء بالعطف والحنان، ولا تقل عنك شجاعتي وسأذهب طائعة، وأتمنى أن ألد ولدا يثأر وينتقم لأبيه! وإني أحب الحياة لأجلكما وهل يساعدني الحظ على نيل هذه الأمنية؟
عنترة! إنني كالسكران من هذه الضحية وذلك الألم. فالوداع الوداع! وآمل أن لن تلين عبراتي من قناتك (ثم يتعانقان)
عنترة_الوداع الوداع يا ابنة الأمير النبيل سلالة الأبطال الأماجد الذين يقابلون الأهوال بعيون كعيون النسور القشاعم، أن دم أسلافك لا يكذب كما يصدق دم راعيهم القديم الذي نال الشرف اليوم
(ثم يصطحب شيبوب عبلة)
اذهبي ولن ترحلي وحدك يا عبلة، ان نفسي لتشيع خطواتك وسأجعل نصب عيني الساعات والأيام التي نسجت منذ طفولتنا خيوط حبنا وسأبذرها في الهواء لتكون ذرات حياتي هذه لك بمثابة حرس عظيم! ثم أحرسكم جميعا فيما بعد من أعالي السماء
(ثم يعود إليه شيبوب)
شيبوب - يا لك من مسكين.! يجب أن تلحق بها في أقرب وقت. هيا بنا فأنني تام العدة والسلاح، وهذه آخر واقعه أخوضها ويلزمني أن أستعد لها كالفوارس البواسل وأتلقى الطعنات إلى أن أقع مضرجاً بالدماء
شيبوب! يا أخي وزميلي في الحروب! لنتعانق دون ضعف أو أسف لا يجدي ولا ينفع، وعيون جامدة لا تعرف أن تدمع
(ثم يطيع شيبوب إشارة عنترة وهو يكظم زفراته ويذهب)
سأموت الآن بغير شهود ونعم ما فعلت. أنني أستطيع الآن أن اعبر آلامي ويتسنى لعيني أن تبكيا دون أن تسيل عبرات الآخرين. لقد خارت قوي ولكني ضاعفت قواكم ولن يرى أحد منكم ضعفيوآلامي. (ثم يخترق شعاع من الشمس المشرقة سحب الضباب المربد وينير وجه عنترة)
والشمس لا تفترق عنا إذ تولد ثم يراها الناس وهي تموت. أيتها الشمس اذهبي إلى ذوي وانضمي إلى موكبهم وقولي لهم بأني أحميهم في الحياة والممات. الوداع يا أمان الحب والمستقبل الزاهر أواه! أنني اشعر أن البرد يغير علي شيأ فشيأ وقد اضطربت عيناي، ماذا دهاني! هل هذه وطأتك أيها الموت! مهلا مهلا! فاني أنا الذي أهاجمك واشد عليك دون وجل. لامتط الجواد والريح في يدي كما كنت من قبل! سأجبرك أن تخضع لامري وسيقود ذراعي سيرك الأعمى الأحمق
(ثم يعلو جواده وهو في الرمق الأخير) والآن تفتح روحي جناحيك فطر وحلق. يخيل إلى أني أنام نوما هادئا وأرى سربا من الطير آتيا من الشرق!. . . يقترب مني ويحيط بي ثم يذهب ويعود. ولكنه حياتي بأجمعها التي تضمني كأكفان نسجتها الأيام التي عشتها. أيام الأمل والحب والحرب، أن الماضي يعرض أمامي وأرى أول الكفن: أي أيام الطفولة! إن خيوطك لمن خز وعسجد وانت وحدك اللامعة الزاهية! إننا ننسج بأيدينا أكفاننا، وهذا كفني يطويه الموت بإصبعه! وهو يدفنني في طيات حياتي!. . . لا تتحرك يا عنترة. . . بجب ان يراك العدو حينما يقبل مستعدا للكفاح. . .
(ثم يسلم النفس الأخير ويميل رأسه ويبقى جسمه منتصبا معتدلا مستندا ذات اليمين إلى رمحه وذات اليسار إلى الصخور القائمة وفي هذه الآونة يأتي الرجال شاهرين رماحهم وسيوفهم وعلى رأسهم عمارة بن زياد فيلمح على حين غفلة عنترة وقد أضاء وجهه شعاع الشمس المشرقة فلمع سلاحه وهو راكب جواده) عمارة - آه! إنه لحي لم يمت!
الباقون (وهم يولون الأدبار مذعورين) حي!
ينزل الستار
محمد كامل حجاج