مجلة الرسالة/العدد 32/الكتب
→ التناسل في فيراكروز | مجلة الرسالة - العدد 32 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 12 - 02 - 1934 |
أهل الكهف
قصة مسرحية للأستاذ توفيق الحكيم بحث وتحليل ونقد بقلم
الأديب عبد الرحمن صدقي
تتمثل حياة الشرق في كتابين: القرآن الكريم، وحكايات ألف ليلة وليلة. فالأول يهدي إلى ما يجب أن يكون، والثاني يصور ما هو كائن واقع. يعالج أحدهما من طريق الوحي الديني علائق الإنسان بالله والمحدود باللا محدود وموقف البشر حيال المسائل الخالدة التي تفوق مداركه ولا تني تعذبه. ويستعرض الآخر لعياننا وأخلادنا صوراً حية تترى وتترى، مؤنسة كل الايناس مؤثرة أبلغ التأثير، لزحمة الحياة، والوان المجتمع على اختلاف شياته وتعدد أصباغ نسيجه، وأنماط الناس، ومطالب العيش، ودوافع الغرائز المعقدة المتضاربة، ومسارب الأحاسيس العميقة الغامضة.
وقد عمد الأستاذ الحكيم إلى هذين المرجعين من الحكمة الإلهية ومن الحكمة البشرية. فاستوحى من الأول قصته المنشورة عن أهل الكهف، واستأنف من الثاني قصته التي لم تنشر بعد عن شهرزاد. فكان اختيار المؤلف (الحكيم) أول عناصر نجاحه.
وسيقصر كلامنا هنا بطبيعة الحال على القصة المنشورة (أهل الكهف)
عمل الفنان
لأجل أن نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله، نسوق ملخصا لشرح البيضاوي للسورة الكريمة. وظاهر من هذا الشرح أنه كل ما اعتمد عليه مؤلفنا في قصته التمثيلية البعيدة الغور.
هم فتية من أشراف الروم، أرادهم دقيانوس الجبار على عبادة الأوثان والشرك بالله؛ فأبوا وهربوا إلى الكهف، وقد مروا في هربهم بأحد الرعاة فتبعهم وتبعه كلبه، وكان دخولهم الكهف غدوة وألقى الله عليهم سباتا سنين عدة: اختلف الناس في عدتها، فقالوا ثلاث ماية، وزادها غيرهم تسعا، والله أعلم بما لبثوا. وظلوا على الحال التي كانوا بها تحسبهم أيقاظا وهم رقود وكلبهم باسط ذراعيه بالوضيد. ثم قضى الله انبعاثهم، فانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده، فلما نظروا طول أظفارهم وأشعارهم التبس عليهم الأمر وأعياهم علمه. فأخذوا فيما يهمهم، وبعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام على أن يتخفى ولا يشعر بهم أحدا لخوفهم أن يظهر رجال دقيانوس عليهم فيرجموهم أو يرغموهم على الشرك. فلما دخل المبعوث السوق وأخرج الدراهم وكانت مضروبة باسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانيا موحداً، فقص عليه القصص. فقال بعضهم ان آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء. فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم. ثم قالت فتية الكهف للملك نستودعك الله ورجعوا إلى مضاجعهم فماتوا. فدفنهم الملك في الكهف وبنى عليه بيعة. والأقوال مختلفة في عددهم فمنهم من قالوا ثلاثة رابعهم كلبهم، ومنهم من قالوا خمسة، ومن قالوا سبعة. ويروى أن أسماءهم يمليخا ومكشلينيا ومشينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش، وشاذنوش أصحاب يساره، وكان يستشيرهم. والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبه قطمير. واسم مدينتهم أفسوس وقيل طرسوس.
هذه هي المادة الأولية التي أتيحت للمؤلف فانظروا كيف صارت في يديه، وكيف نحت فيها هذه المجموعة من التماثيل الحية وأقام منها هذا الأثر القصصي.
لقد شاء له الفن أن يأخذ بقول الزاعمين أن فتية الكهف ثلاثة وآثر الاقتصار عليهم حتى لا يتوزع اهتمام القارئ أو الناظر، فيضعف التأثير وتقل المتعة فحسب الفن اثنان من مستشاري الملك والراعي. وارتأى أن تتقدم السن بأخذ هذين المستشارين ويكون الوزير الأول، أما الثاني فيكون فتى في ميعة الشباب وريعانه. ثم يشاء الفن القدير أن يجعل للوزير زوجة وولدا ً كان يخفي أمرهما، وأن يجعل للفتى حبيبة في الخفاء هي ابنة الملك ووحيدته. وقد اعتنق الرجل دينه الجديد حباً في زوجته المسيحية، كما أن حب سليلة الأباطرة للفتى المسيحي حبب اليها دينه. فإذا فأما من سباتهما وقد تفترت من طول الرقاد أوصالهما، كان لهما من العلائق القلبية ما يذكرانه فتنازعهما النفس إلى طلب الخروج من الكهف، ويختلفان فترى الفتى نزقاً كعادة العاشق المشوق، أما الزوج فحذر كظيم شأن رب الأسرة المسئول. ويشاء الفن أيضا أن تكون ابنة الملك في عصر انبعاثهم شبيهة كل الشبه بابنة دقيانوس حتى يطول وهم صاحبها وأما الراعي فلا تطول خديعته، فما هو إلا أن افتقد غنمه فلم يجدها، ورأى أبناء هذا الجيل على غير عهده بهم سمتا ولهجة وزيا، حتى اتضحت له الحقيقة، وثقلت عليه الحياة فعاد زاهدا فيها إلى رقدة الكهف. ثم تبعه الوزير ثاكلا متفجعا باكيا وقد علم موت زوجته ومصرع ولده كهلا منذ دهر طويل في حومة الوغى وميدان الشرف. وأخيرا الفتى العاشق وقد تبددت أحلامه، وبدت لناظريه هوة الزمن السحيقة تفصله عن المرأة التي يحبها.
وهكذا دخل الفن على العبرة القصصية فخرج منها - كما يرى القراء - بآية فنية.
التحقيق التاريخي
لم يقصد المؤلف بروايته وجه التاريخ. ولا أظن به طمعا في أن يكون مؤرخاً. وهيهات أيضا لكاتب هذه السطور أن يدعي لنفسه هذه الدعوى العريضة. بيد أنه لما كانت القصة التي نحن بصددها لها صلة بالتاريخ، فلا مراء في أن الدراسة التاريخية هي على الأقل من مستلزماتها.
ولقد راجعت القليل من المراجع في التفسير، ومن معاني التاريخ الموضوعة في العربية، ثم انتقلت إلى غير الكتب العربية مما هو موضوع في تاريخ الإمبراطورية الرومانية ونشأة المسيحية بغض النظر عن مؤرخي الكنيسة ورجالها. فإذا مؤلف أهل الكهف لم يسلم من نقص في هذه الجهة وأخطاء قد لا يكون لها خطر في صميم الفكرة، بيد أنه كان من المستحسن على كل حال تداركها ولو تكلف قاصنا المسرحي اليسير من العناء في التحقيق التاريخي
فقد زعم أن العاهل دقيانوس هو صاحب عصر الشهداء أي ديوقلاسيانوس لتقارب النطق واحتمال التحريف في تعريب الاسماء الأعجمية عند العرب. والحقيقة أن دقيانوس هو ذوقيوس كما يلفظها البعض أو دسيوس عاهل الرومان الذي حكم من عام 249 إلى عام 251 بعد الميلاد. وكان مع بسالته وحسن تدبيره شئون الملك شديداً على النصارى، فنقض ما كانوا فيه من أمان وسكينة، وأجمع العزيمة على سحق المسيحية. فكان شديد الكراهية للبطارقة وكان كل مؤمن في ملكه الواسع رهنا بالسجن والتعذيب، وقد شاع لعهده التفنن في التعذيب بالجوع والعطش. واشتد اضطهاداته في سنة 250 ميلادية فلم تعد وقائع مفردة بل أمور عامة وتدابير منظمة. ولعل فتية القصة هربوا إلى الكهف في هذه السنة ثم إن أكبر فتية الكهف هو مكسلمينا. والأجدر بالمؤلف اتخاذه بدلا من مرنوش. كما أن أجملهم وأجلدهم تمليخا فلا محل لإطلاق اسمه على الراعي وحسب الراعي أن يدعى راعيا
كذلك لا نستسيغ تسمية الوادي الذي به الكهف في ظاهر المدينة بالرقيم. لأننا أميل إلى قول المفسرين بأن الرقيم إشارة إلى لوح من الحجر أو الرصاص عمد إليه رجلان مؤمنان من بيت الملك، فكتبا فيه شأن الفتية ورقما أسماءهم وأنسابهم، وأودعاه في تابوت من نحاس مختوم بخاتم من فضة، وجعلاه على باب الكهف
وأما المدينة التي كانت مسرحا لوقائع القصة فليست طرطوس كما استحسن المؤلف استنادا إلى قول في البيضاوي بل هي مدينة كما ذكر ذلك البيضاوي نفسه وعليها أجمع المؤرخون والمفسرون من المسلمين ورجال الدين من النصارى، ولا عبرة بوهم واهم من المفسرين زعم (أن مدينة أفسوس هي طرطوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فلما جاء الإسلام سموها طرطوس) فقد ساقه إلى هذا الخلط جهله بتلك المدينة الداثرة إطلاقا، واقتصار علمه على طرطوس التي فتحها العرب، ولقد عمد في حيرته إلى قطع العقدة بدلا من حلها، فقطع بأن المدينتين واحدة، وشتان مابينهما في موقعها الجغرافي وماضيهما التاريخي
ومدينة أفسوس قديمة، وبها للمشركين هيكل لإحدى آلهتهم أرتميس (أو ديانا وحرم لتمثالها المقدس. وهذه الربة هي الأم العذراء للحياة والانتاج. وكان لأهل المدينة ولع بعلوم السحر والكهانة حتى بعد انتشار النصرانية فيها. وقد اشتهرت بأوليائها وشهدائها. وقد زعم القوم أن مدينتهم كانت الموطن الأخير لمريم العذراء وأنها دفنت بها، ومع هذا فأن اعتقادهم في أرتميس الأم العذراء أيضا لم يزل قائما قويا. وقد كان من حق أفسوس على الأباطرة الرومان أن تكون أول مدينة ينزل بها ولاتهم على آسيا وأن يتقلدوا فيها مقاليد الولاية. وأفسوس معروفة بكثرة ما خلفته من نقودها المضروبة المتنوعة وما على سكتها من بديع النقوش وطوابع الحكام.
وأخيراً يحسن تعيين الملك الذي ابنعث على عهده أهل الكهف وهو إمبراطور الدولة الشرقية المسيحي تاودوسيوس الصغير 2وحكمه من عام 408 إلى عام 450 ميلادية.
وكانت قد فشت في زمانه بين الناس بدعة القائلين ببعث الارواحدون الاحساد، فجاءت معجزة الكهف تفنيداً لهم وآية على قدرته تعالى وكان هذا الملك في أول حكمه قاصراً يدير الدولة باسمه القاضي أنتيميوس ثم تولت القوامة عليهأخته بولكيريا فدرج بعنايتها على الصلاح ودماثة الخلق والنزاهة وحسن الفكر والروية. وبولكيريا أسم تاريخي يصلح بدلا من بريسكا في رواية المؤلف بعد تبديل بسيط
ونقف عند هذا الحد لنقول أن الرواية لا تخسر بهذا التحقيق التاريخي شيئا. ولعل الأستاذ الحكيم لو اطلع على معظم التفاسير والتواريخ من عربية وغير عربية في هذا الموضوع وحوله، لصدقنا فيما نذهب إليه من أن روايته الكبيرة تكسب عظمة من وجود هذه المواد في يدي صناع مثله، وأنه كان بهذا التشبع بالتاريخ قميناً بأن يفرغ عليها إلى جانب ذلك السنا الفلسفي والضرام العاطفي والروح الإنساني لوناً محليا ظاهراً يصبغها في غير تكلف منه أو تعمل، بطبيعة المناخ الآسيوي، وبذلك المزيج من الحس الوثني، والتصوف المسيحي.
(له بقية)
عبد الرحمن صدقي